الجزء الثاني - الكلام في التوحيد ونفي التشبيه

قال أبو محمد ذهبت طائفة إلى القول بأن الله تعالى جسم وحجتهم في ذلك أنه لا يقوم في المعقول إلا جسم أو عرض فلما بطل أن يكون تعالى عرضاً ثبت أنه جسم وقالوا إن الفعل لا يصح إلا من جسم والباري تعالى فاعل فوجب أنه جسم واحتجوا بآيات من القرآن فيها ذكر اليد واليدين والأيدي والعين والوجه والجنب وبقوله تعالى وجاء ربك ويأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وتجليه تعالى وبأحاديث للجبل فيها ذكر القدم واليمين والرجل والأصابع والتنزل قال أبو محمد ولجميع هذه النصوص وجوه ظاهرة بينة خارجة على خلاف ما ظنوه وتأولوه قال أبو محمد وهذان الاستدلالان فاسدان أما قولهم أنه لا يقوم في المعقول إلا جسم أو عرض فإنها قسمة ناقصة وإنما الصواب أنه لا يوجد في العالم إلا جسم أو عرض وكلاهما يقتضي بطبيعته وجود محدث له فبالضرورة نعلم أنه لو كان محدثها جسماً أو عرضاً لكان يقتضي فاعلاً فعله ولا بد فوجب بالضرورة أن فاعل الجسم والعرض ليس جسماً ولا عرضاً وهذا برهان يضطر إليه كل ذي حس بضرورة العقل ولابد وأيضاً فلو كان الباري تعالى عن إلحادهم جسماً لاقتضى ذلك ضرورة أن يكون له زمان ومكان هما غيره وهذا إبطال التوحيد وإيجاب الشرك معه تعالى لشيئين سواه وإيجاب أشياء معه غير مخلوقة وهذا كفر وقد تقدم إفسادنا لهذا القول وأيضاً فإنه لا يعقل البتة جسم إلا مؤلف طويل عريض عميق ونظارهم لا يقولون بهذا فإن قالوه لزمهم أن له مؤلفاً جامعاً مخترعاً فاعلاً فإن منعوا من ذلك لزمهم أن لا يوجبوا لما في العالم من التأليف لا مؤلفاً ولا جامعاً إذ المؤلف كله كيفما وجد يقتضي مؤلفاً ضرورة فإن قالوا هو جسم غير مؤلف قيل لهم هذا هو الذي لا يعقل حقاً ولا يتشكل في النفس البتة فإن قالوا لا فرق بين قولنا شيء وبين قولنا جسم قيل لهم هذه دعوى كاذبة على اللغة التي بها يتكلمون وأيضاً فهو باطل لأن الحقيقة أنه لو كان الشيء والجسم بمعنى واحد لكان العرض جسماً لأنه شيء وهذا باطل يتعين والحقيقة هي أنه لا فرق بين قولنا شيء وقولنا موجود وحق وحقيقة ومثبت فهذه كلها أسماء مترادفة على معنى واحد لا يختلف وليس منها اسم يقتضي صفة أكثر من المسمى بذلك حق ولا مزيد وأما لفظة جسم فإنها في اللغة عبارة عن الطويل العريض العميق المحتمل للقسمة ذي الجهات السصت التي هي فوق وتحت ووراء وأمام ويمين وشمال وربما عدم واحدة منها وهي الفوق هذا حكم هذه الأسماء في اللغة التي هذه الأسماء منها فمن أراد أن يوقع شيئاً منها على غير موضوعها في اللغة فهو مجنون وقاح وهو كمن أراد أن يسمي الحق باطلاً والباطل حقاً وأراد أن يسمي الذهب خشباً وهذا غاية الجهل والسخف إلا أن يأتي نص بنقل اسم منها عن موضوعه إلى معنى آخر فيوقف عنده وإلا فلا وإنما يلزم كل مناظر يريد معرفة الحقائق أو التعريف بها أن يحقق المعاني التي يقع عليها الاسم ثم يخبر بعد بها أو عنها بالواجب وأما مزج الأشياء وقلبها عن موضوعاتها في اللغة فهذا فعل السوفسطائية الوقحاء الجهال الغابنين لعقولهم وأنفسهم فإن قالوا لنا إنكم تقولون أن الله عز وجل حي لا كالأحياء وعليم لا كالعلماء وقادر لا كالقادرين وشيء لا كالأشياء فلم منعتم القول بأنه جسم لا كالأجسام قيل لهم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

لولا النص الوارد بتسميته تعالى بأنه حي وقدير وعليم ما سميناه بشيء من ذلك لكن الوقوف عند النص فرض ولم يأت نص بتسميته تعالى جسماً ولا قام البرهان بتسميته جسماً بل البرهان مانع من تسميته بذلك تعالى ولو أتانا نص بتسميته تعالى جسماً لوجب علينا القول بذلك وكنا جينئذ نقول أنه لا كالأجسام كما قلنا في عليم وقد يرو حي ولا فرق وأما لفظة شيء فالنص أيضاً جاء بها والبرهان أوجبها على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى وقالت طائفة منهم أنه تعالى نور واحتجوا بقوله تعالى‏.‏

الله نور السموات والأرض‏.‏

قال أبو محمد ولا يخلو النور من أحد وجهين إما أن يكون جسماً وإما أن يكون عرضاً وأيهما كان فقد قام البرهان أنه تعالى ليس جسماً ولا عرضاً وأما قوله تعالى‏.‏

الله نور السموات والأرض‏.‏

فإنما معناه هدى الله بتنوير النفوس إلى نور الله تعالى في السموات والأرض وبرهان ذلك أن الله عز وجل أدخل الأرض في جملة ما أخبر أنه نور له فلو كان الأمر على أنه النور المضيء المعهود لما خبأ الضياء ساعة من ليل أو نهار البتة فلما رأينا الأمر بخلاف ذلك علمنا أنه بخلاف ما ظنوه قال أبو محمد ويبطل قول من وصف الله تعالى بأنه جسم وقول من وصفه بحركة تعالى الله عن ذلك إن الضرورة توجب أن كل متحرك فذو حركة وأن الحركة لمتحرك بها وهذا من باب الإضافة والصورة في المتصور لمصتور وهذا أيضاً من باب الإضافة فلو كان كل مصور متصوراً وكل محرك متحركاً لوجب وجود أفعال لا أوائل لها وهذا قد أبطلناه فيما خلا من كتابنا بعون الله تعالى لنا وتأييده إيانا فوجب ضرورة وجود محرك ليس متحركاً ومصور ليس متصوراً ضرورة ولابد وهو الباري تعالى محرك المتحركات ومصور المصورات لا إله إلا هو وكل جسم فهو ذو صورة وكل ذي حركة فهو ذو عرض محمول فيه فصح أنه تعالى ليس جسماً ولا متحركاً وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فقد قدمنا أن الحركة والسكون مدة والمدة زمان وقد بينا فيما خلا من كتابنا أن الزمان محدث فالحركة محدثة وكذلك السكون والباري تعالى لا يلحقه الحدث إذ لو لحقه محدثاً يقتضي محدثاً فالباري تعالى غير متحرك ولا ساكن وأيضاً فإن الجسم إنما يفعل آثاراً في الجسم فقط ولا يفعل الأجسام فالباري إذن تعالى على قول المجسمة إنما هو فاعل آثاراً في الأجسام فقط لا فاعل أجسام العالم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فإن قالوا فإنكم تسمونه فاعلاً وتسمون أنفسكم فاعلين وهذا تشبيه قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق لا يوجب ذلك تشبيهاً لأن التشبيه إنما يكون بالمعنى الموجود في كلا المتشبهين لا بالأسماء وهذه التسمية إنما هي اشتراك في العبارة فقط لأن الفاعل من متحرك باختيار أو باضطرار أو عارف أو شاك أو مريد أو كان باختيار أو ضمير أو اضطرار كذلك فكل فاعل منا فمتحرك وذو ضمير وكل متحرك فذو حركة تحركه وأعراض الضمائر انفعالات فكل متحرك فهو منفعل وكل منفعل فلفاعل ضرورة وأما الباري تعالى ففاعل باختيار واختراع لا بحركة ولا بضمير فهذا اختلاف لا اشتباه وبالله تعالى التوفيق وكذلك العرض ليس جسماً والجسم ليس عرضاً والباري تعالى ليس جسماً ولا عرضاً فهذان الحكمان لا يوجبان اشتباهاً أصلاً بل هذا عين الاختلاف لكن الاشتباه إنما يكون بإثبات معنى في المشتبهين به اشتبها ولو أوجب ما ذكرنا اشتباهاً لوجب أن يكون لشبه الجسم في الجسمية لأنه ليس عرضاً وإن يكون لشبه العرض في العرضية لأنه ليس جسماً فكان يكون جسماً لا جسماً عرضاً لا عرضاً معاً وهذا محال فصح أن بالنفي لا يجب الاشتباه أصلاً وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومن قال أن الله تعالى جسم لا كالأجسام فليس مشتبهاً لكنه الحد في أسماء الله تعالى إذ سماه عز وجل بما لم يسم به نفسه وأما من قال أنه تعالى كالأجسام فهو ملحد في أسمائه تعالى ومشبه مع ذلك قال أبو محمد وأما إطلاق لفظ الصفاة لله تعالى عز وجل فمحال لا يجوز لأن الله تعالى لم ينص قط في كلامه المنزل على لفظة الصفات ولا على لفظ الصفة ولا حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن لله تعالى صفة أو صفات نعم ولا جاء قط ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا عن أحد من خيار التابعين ولا عن أحد من خيار تابعي التابعين ومن كان هكذا فلا يحل لأحد أن ينطق به ولو قلنا أن الإجماع قد تيقن على ترك هذه اللفظة لصدقنا فلا يجوز القول بلفظ الصفات ولا اعتقاده بل هي بدعة منكرة قال الله تعالى‏.‏

إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى‏.‏
قال أبو محمد وإنما اخترع لفظ الصفات المعتزلة وهشام ونظراؤه من رؤساء الرافضة وسلك سبيلهم قوم من أصحاب الكلام سلكوا غير مسلك السلف الصالح ليس فيهم أسوة ولا قدوة وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه‏.‏

وربما أطلق هذه اللفظة من متأخري الأئمة من الفقهاء من لم يحقق النظر فيها فهي وهلة من فاضل وذلة عالم وإنما الحق في الدين ما جاء عن الله تعالى نصاً أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك أو صح إجماع الأمة كلها عليه وما عدا هذا فضلال وكل محدثة بدعة فإن اعترضوا بالحديث الذي رويناه من طرق عبد الله بن وهب عن عمرو ابن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الرجاء محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة عن عائشة رضي الله عنها في الرجل الذي كان يقرأ قل هو الله أحد في كل ركعة مع سورة أخرى وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يسأل عن ذلك فقال هي صفة الرحمن فأنا أحبها فأخبره عليه السلام أن الله يحبه فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن أبي هلال وليس بالقوي قد ذكره بالتخليط يحيى وأحمد بن حنبل وأيضاً فإن احتجاج خصومنا بهذا لا يسوغ على أصولهم لأنه خبر واحد لا يوجب عندهم العلم وأيضاً فلو صح لما كان مخالفاً لقولنا لأننا إنما أنكرنا قول من قال إن أسماء الله تعالى مشتقة من صفات ذاته فأطلق لذلك على العلم والقدرة والقوة والكلام أنها صفات وعلى من أطلق إرادة وسمعاً وبصراً وحياة وأطلق أنها صفات فهذا الذي أنكرناه غاية الإنكار وليس في الحديث المذكور ولا في غيره شيء من هذا أصلاً وإنما فيه أن قل هو الله أحد خاصة صفة الرحمن ولم ننكر هذا نحن بل هو خلاف لقولهم وحجة عليهم لأنهم لا يخصون قل هو الله أحد بذلك دون القرآن ودون الكلام والعلم وغير ذلك وفي هذا الخبر تخصيص لقوله قل هو الله أحد وحدها بذلك وقل هو الله أحد خبر عن الله تعالى بما هو الحق فنحن نقول فيها هي صفة الرحمن لمعنى أنها خبر عنه تعالى حق فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم لنا وأيضاً فمن أعجب الباطل أن يحتج بهذا الخبر فيما ليس فيه منه شيءٌ من يخالفه ويعصيه في الحكم الذي ورد فيه من استحسان قراءة قل هو الله أحد في كل ركعة مع سورة أخرى فلهذه الفضائح فلتعجب أهل العقول وأما الصفة التي يطلقون هم فإنما هي في اللغة واقعة على عرض في جوهر لا على غير ذلك أصلاً وقد قال تعالى‏.‏

سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏.‏

فأنكر تعالى إطلاق الصفات جملة فبطل تمويه من موه بالحديث المذكور ليستحل بذلك ما لا يحل من إطلاق لفظة الصفات حيث لم يأت بإطلاقها فيه نص ولا إجماع أصلاً ولا أثر عن السلف والعجب من اقتصارهم على لفظة الصفات ومنعهم من القول بأنها نعوت وسمات ولا فرق بين هذه الألفاظ لا في لغة ولا في معنى ولا في نص ولا في إجماع

القول في المكان والاستواء

قال أبو محمد ذهبت المعتزلة إلى أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان واحتجوا بقول الله تعالى

ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم‏.‏

وقوله تعالى‏.‏

ونحن أقرب إليه من حبل الوريد‏.‏

وقوله تعالى‏.‏

ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون‏.‏

قال أبو محمد قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس وقد علمنا أن كل ما كان في مكان فإنه شاغل لذلك المكان ومالىء له ومتشكل بشكل المكان أو المكان متشكل بشكله ولابد من أحد الأمرين ضرورة وعلمنا أن ما كان في مكان فإنه متناه بتناهي مكانه وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مكانه وهذه كلها صفات الجسم فلما صح ما ذكرنا علمنا أن قوله تعالى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ونحن أقرب إليه منكم وقوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إنما هو التدبير لذلك والإحاطة به فقط ضرورة لانتفاء ما عدا ذلك وأيضاً فإن قولهم في كل مكان خطأ لأنه يلزم بموجب هذا القول أنه يملأ الأماكن كلها وأن يكون ما في الأماكن فيه الله تعالى الله عن ذلك وهذا محال فإن قالوا هو فيها بخلاف كون المتمكن في المكان قيل لهم هذا لا يعقل ولا يقوم عليه دليل وقد قلنا أنه لا يجوز إطلاق اسم على غير موضوعه في اللغة إلا أن يأتي به نص فيقف عنده وندري حينئذ أنه منقول إلى ذلك المعنى الآخر وإلا فلا فإذ صح ما قد ذكرنا فلا يجوز أن يطلق القول بأن الله تعالى في كل مكان لا على تأويل ولا غيره لأنه حكم بأنه تعالى في الأمكنة لكن يطلق القول بأنه تعالى معنا في كل مكان ويكون قولنا حينئذٍ في كل مكان إنما هو من صلة الضمير الذي هو النون والألف اللذان في معنا لا مما يخبر به عن الله تعالى وهذا هو معنى قوله هو معهم أينما كانوا وهو معكم أينما كنتم وذهب قوم إلى أن الله تعالى في مكان دون مكان وقولهم هذا يفسد بما ذكرنا آنفاً ولا فرق واحتج هؤلاء بقوله تعالى‏.‏

الرحمن على العرش استوى‏.‏

قال أبو محمد وقد تأول المسلمون في هذه الآية تأويلات أربعة أحدها قول المجسمة وقد أبنا بحول الله فساده والآخر قالته المعتزلة وهو أن معناه استولى وأنشدوا قد استوى بشر على العراق قال أبو محمد وهذا فاسد لأنه لو كان ذلك لما كان العرش أولى بالاستيلاء عليه من سائر المخلوقات ولجاز لنا أن نقول الرحمن على الأرض استوى لأنه تعالى مستولٍ عليها وعلى كل ما خلق وهذا لا يقوله أحد فصار هذا القول دعوى مجردة بلا دليل فسقط وقال بعض أصحاب بن كلاب أن الاستواء صفة ذات ومعناه نفي الاعوجاج قال أبو محمد وهذا القول في غاية الفساد لوجوه أحدها أنه تعالى لم يسم نفسه مستوياً ولا يحل لأحد أن يسم الله تعالى بما لم يسم به نفسه لأن من فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه حدود الله أي مال عن الحق وقد حد الله تعالى في تسميته حدوداً فقال تعالى‏.‏

ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه‏.‏

وثانيها أن الأمة مجمعة على أنه لا يدعو أحد فيقول يا مستوي ارحمني ولا يسمي ابنه عبد المستوي وثالثها أنه ليس كل ما نفي عن الله عز وجل وجب أن يوقع عليه ضده لأننا ننفي عن الله تعالى السكون ولا يحل أن يسمى الله متحركاً وننفي عنه الحركة ولا يجوز أن يسمى ساكناً وننفي عنه الجسم ولا يجوز أن يسمى سماماً وننفي عنه النوم ولا يجوز أن يسمى يقظاناً ولا منتبهاً ولا أن يسمى لنفي الانحناء عنه مستقيماً وكذلك كل صفة لم يأت بها النص فكذلك الاستواء والاعوجاج منفيان عنه معاً سبحانه وتعالى وتعالى الله عن ذلك لأن كل ذلك من صفات الأجسام ومن جملة الإعراض والله قد تعالى عن الأعراض ورابعها أنه يلزم من قال بهذا القول الفاسد أن يكون العرش لم يزل تعالى الله عن ذلك لأنه تعالى علق الاستواء بالعرش فلو كان الاستواء لم يزل لكان العرش لم يزل وهذا كفر وخامسها أنه لو كان الاستواء لم يزل لكان العر لم يزل وهذا كفر وخامسها أنه لو كان الاستواء ههنا نفي الاعوجاج لم يكن لإضافة ذلك إلى العرش معنى ولكان كلاماً فاسداً لا وجه له فإن اعترضوا فقالوا إنكم تسمونه سميعاً بصيراً وأنه لم يزل كذلك فيلزمكم على هذا أن المسموعات والمبصرات لم تزل قلنا لهم وبالله تعالى نتأيد هذا لا يلزمنا لأننا لا نسمي الله عز وجل إلا بما سمى به نفسه فنقول قال الله تعالى السميع البصير فقلنا بذلك أنه لم يزل وهو السميع البصير بذاته كما هو ولا نقول لا يسمع ولا يبصر فنزيد على ما أتى به النص شيئاً ونحن نقول أنه تعالى لم يزل سميعاً بصيراً بالمبصرات يرى المرئيات ويسمع المسموعات ومعنى هذا كله أنه عالم بكل ذلك كما قال تعالى‏.‏

إنني معكما أسمع وأرى‏.‏

وهذا كله معنى العلم الذي لا يقتضي وجوداً لمعلومات لم تزل لكن يعلم ما يكون أنه سيكون على حقيقته ويعلم ما هو كما هو ويعلم ما قد كان كما قد كان وهذا نجده حساً ومشاهدة وضرورة لأننا فيما بيننا قد نعلم أن زيداً سيموت وموته لم يقع بعد وليس هكذا قولهم في الاستواء لأنه مرتبط بالعرش فإن قالوا لنا فإذن معنى سميع بصير هو معنى عليم فقولوا أنه تعالى يبصر المسموعات ويسمع المرئيات قلنا وبالله تعالى التوفيق ما يمنع من هذا ولا ننكره بل هو صحيح لأن الله تعالى إنما قال أسمع وأرى فهذا إطلاق له على كل شيء على عمومه وبالله تعالى التوفيق والقول الرابع في معنى الاستواء هو أن معنى قوله تعالى على العرش استوى أنه فعل فعله في العرش وهو انتهاء خلقه إليه فليس بعد العرش شيء ويبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنات وقال فاسألوا الله الفردوس الأعلى فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوق ذلك عرش الرحمن فصح أنه ليس وراء العرش خلق وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء ولا ملاء ومن أنكر أن يكون للعالم نهاية من المساحة والزمان والمكان فقد لحق بقول الدهرية وفارق الإسلام والاستواء في اللغة يقع على الانتهاء قال الله تعالى ‏.‏


فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً‏.‏

أي فلما انتهى إلى القوة والخير وقال تعالى‏.‏

ثم استوى إلى السماء وهي دخان‏.‏

أي أن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن رتب الأرض على ما هي عليه وبالله تعالى التوفيق وهذا هو الحق وبه نقول لصحة البرهان به وبطلان ما عداه فأما القول الثالث في المكان فهو أن الله تعالى لا في مكان ولا في زمان أصلاً وهو قول الجمهور من أهل السنة وبه نقول وهو الذي لا يجوز غيره لبطلان كل ما عداه ولقوله تعالى‏.‏

ألا إنه بكل شيء محيط‏.‏

فهذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطاً به من جهة ما أو من جهات وهذا منتف على الباري تعالى بنص الآية المذكورة والمكان شيء بلا شك فلا يجوز أن يكون شيء في مكان ويكون هو محيطاً بمكانه هذا محال في العقل بعلم امتناعه ضرورة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإنه لا يكون في مكان إلا ما كان جسماً أو عرضاً في جسم هذا الذي لا يجوز سواه ولا يتشكل في العقل والوهم غيره البتة وإذا انتفى أن يكون الله عز وجل جسماً أو عرضاً فقد انتفى أن يكون في مكان أصلاً وبالله تعالى نتأيد وأما قوله تعالى‏.‏

ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية‏.‏

فقوله الحق نؤمن به يقيناً والله أعلم بمراده في هذا القول ولعله عنى عز وجل السموات السبع والكرسي فهذه ثمانية أجرام هي يومئذ والآن بيننا وبين العرش ولعلهم أيضاً ثمانية ملائكة والله أعلم نقول ما قال ربنا تعالى ونقطع أنه حق يقين على ظاهره وهو أعلم بمعناه ومراده وأما الخرافات فلسنا منها في شيء ولا يصح في هذا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنا نقول هذه غيوب لا دليل لنا على المراد بها لكنا نقول‏.‏

آمنا به كل من عند ربنا‏.‏

وكل ما قاله الله تعالى فحق ليس منه شيء منافياً للمعقول بل هو كله قبل أن يخبرنا به تعالى في حد الإمكان عندنا ثم إذا أخبر به عز وجل صار واجباً حقاً يقيناً وقد قال تعالى‏.‏

الذين يحملون العرش ومن حوله‏.‏

فصح يقيناً أن للعرش حملة وهم الملائكة المنقادون لأمره تعلاى كما نقول أنا أحمل هذا الأمر أي أقوم به وأتولاه وقد قال تعالى أنهم يفعلون ما يأمرون‏.‏

وأنهم يتنزلون بالأمر وأما الحامل للكل والممسك للكل فهو الله عز وجل قال الله تعالى‏.‏

إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده‏.‏