الجزء الثاني - الكلام في الحياة

قال أبو محمد وقالوا أن الدليل أوجب أن الباري تعالى حي لأن أفعال الحكمة لا تقع إلا من الحي وأيضاً فإنه لا يعقل إلا حي أو ميت قلنا إمكان وقوع الفعل من الميت صح وقوعه من الحي ولابد ثم انقسم هؤلاء قسمين فطائفة قالت هو تعالى حي لا بحياة وطائفة قالت بل هو تعالى حي بحياة واحتجت أنه لا يعقل أحد حياً إلا بحياة ولم يكن الحي حياً إلا لأن له حياة ولولا ذلك لم يكن حياً قالوا ولو جاز أن يكون حياً لأن له حياة لكن لأنه فاعل فقط عالم قادر ولا يكون العالم القادر الفاعل إلا حياً قال أبو محمد وكلا القولين في غاية الفساد لاتفاق الطائفتين على أن سموا ربهم تعالى حياً من طريق الاستدلال إما لنفي الموت والجمادية عنه وإما لأنه فاعل قادر عالم ولا يكون الفاعل القادر العالم إلا حياً يلزمهم أن يطردوا استدلالهم هذا وإلا فهم متناقضون وإذا طردوا استدلالهم هذا لزمهم ولابد أن يقولوا أنه تعالى جسم لأنهم لم يعقلوا قط فاعلاً ولا حكيماً ولا عالماً ولا قادراً إلا جسماً فإذا لم يكن هذا دليلاً على أنه جسم فليس دليلاً على أنه حي وأيضاً فإن اتفاقهم على ما ذكرنا موجب على الطائفة الأولى أن يطردوا أيضاً استدلالهم وإلا فهو فاسد فنقول أنه لا يكون القادر العالم فيما بيننا إلا ذا حياة ولا يكون حياً إلا بحياة لا يعقل غير هذا أصلاً ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم فقال إذا كان الحي لا يجب أن يقال أن له حياة من أجل أنه حي ولا أنه إذا كان حياً وجب أن يكون له حياة ولا أنه سمى الحي حياً لأن له حياة فكذلك لم يجب أن يكون الفاعل فاعلاً لأنه حي لكن لأن له فعلاً فقط ولا وجب أن يكون الفاعل فاعلاً لأنه عالم قادر لكن لأن له فعلاً وكذلك المؤلف لم يسم مؤلفاً لأن فيه تأليفاً ولا سمي الحكيم حكيماً لإحكامه الفعل ولا وجب المؤلف أن يكون محدثاً للتأليف الذي فيه على أن من قال بعض هذه القضايا فهو أصح قولاً ممن قال إن كون الحي حياً لا يقتضي بذلك الاستدلال أن يكون له حياة لأننا لم نجد قط حياً إلا بحياة ولا توهمنا ذلك إلا بالعقل ولا يتشكل في العقل البتة ولا يدخل في الممكن بدليل وقد وجدنا العنكبوت والنحل والخطاف تحكم أفعالها وبنائها بالطين وبالشمع مسدساً على رتبة واحدة وبالنسج ثم لا يجوز أن يسمى شيء منها حكيماً فإن قال إنما أقول أنه حي استدلالاً بأنه لا يموت والحي هو الذي لا يموت فقط كان قد أتى بأسخف قول وذلك يلزمه أن يقول أننا لسنا أحياء لأننا نموت وأنه لا حي في العالم لأن من قول هذا القائل أن الملائكة تموت فليس في العالم حي على قوله وقد أتى بعضهم بهذيان ظريف فقال قد وجدنا شيئاً فيه حياة وليس حياً وهو يد الإنسان ورجله قال أبو محمد ولقد كان ينبغي لمن هذا مقداره من الجهل أن يتعلم قبل أن يتكلم أما علم الجاهل أن الحياة إنما هي للنفس لا للجسد وأن الحي إنما هي النفس لا الجسد أما سمع قول الله عز وجل‏.‏

فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏.‏

وليت شعري لو عكس عليه هذا السخف فقيل له بل يد الإنسان حية ولا حياة فيها بماذا كان ينفصل من هذا الجنون المطابق لجنونه ثم إذ قد بطل قول هؤلاء فنقول بحول الله تعالى وقوته للطائفة الأخرى التي قالت أنه تعالى حي بحياة استدلالاً بالشاهد ما الفرق بينكم وبين من قال هو تعالى جسم لأن الأفعال لا تقع إلا من جسم فإنه على أصولكم لا يعقل إلا جسم وعرض فلما بطل إمكان الفعل من العرض صح وقوعه من الجسم فقط ولابد ولما صح أن العالم لا يكون إلا جسماً ذا ضمير صح أنه تعالى جسم ذو ضمير ولما صح أنه قادر والقادر لا يكون إلا جسماً صح أنه جسم فبأي شيء راموا الانفصال به عكس عليهم مثله سواء بسواء في استدلالهم وما التزموه لزمهم فإن قالوا أنه تعالى أخبر أنه حي ولم يخبر أنه جسم قلنا لهم وبالله التوفيق وإن الله تعالى لم يخبر بأن له حياة فإن قالوا إن الحي يقتضي أن له حياة قلنا لهم والحي يقتضي أنه جسم وهكذا أبداً فإن قالوا أنه تعال قال‏.‏

وتوكل على الحي الذي لا يموت‏.‏

فوجب أن يكون حياً بحياة قيل لهم وإن وجب هذا فقال تعالى‏.‏

لا تأخذه سنة ولا نوم‏.‏

فقولوا أنه تعالى يقظان فإن قالوا لم ينص تعالى على أنه يقظان قيل لهم ولا نص تعالى على أن له حياة فإن قالوا الحي يقتضي حياة قيل لهم ومن ليس نائماً ولا وسنان فهو يقظان ولا فرق ويقال لهم أخبرونا ماذا نفيتم عنه تعالى بإيجاب الحياة له أنفيتم عنه بذلك الموت المعهود والمواتية المعهودة أم موتاً غير معهود ومواتية غير معهودة ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا نفينا عنه الموت المعهود والمواتية المعهودة قلنا لهم إن الموت المعهود والمواتية المعهودة لا ينتفيان البتة إلا بالحياة المعهودة التي هي الحس والحركة والسكون الإراديان وهذا خلاف قولكم ولو قلتموه لأبطلنا قولكم بما أبطلنا به قول المجسمة وإن قالوا ما نفينا عنه تعالى إلا موتاً غير معهود ومواتية غير معهودة قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق هذا لا يعقل ولا يتوهم ولا قام به دليل ولا يجوز أن ينتفي ما ذكرتم بحياة يقتضيها اسم الحي المعقول وهكذا نقول في قولهم سميناه تعالى سميعاً لنفي الصمم وبصيراً لنفي العمى ومتكلماً لنفي الخرس فنسألهم هل نفيتم بذلك كله الخرس المعهود والصمم المعهود والعمى المعهود أم صمماً لا يعهد وعمى غير المعهود وخرساً غير المعهود فإن قالوا نفينا المعهود من كل ذلك قلنا إن الصمم المعهود لا ينتفي إلا بالسمع المعهود الذي هو بإذن سالمة والعمى المعهود لا ينتفي إلا بالبصر المعهود الذي هو حدقة سالمة والخرس المعهود لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو صوت من لسان وحنك وشفتين فإن قالوا بل نفينا من كل من ذلك غير المعهود قلنا هذا لا يعقل ولا يتوهم ولا يصح به دليل ولا ينتفي بما أردتم نفيه به وأيضاً فإن الباري تعالى لو كان حياً بحياة لم يزل وهي غيره لوجب ضرورة أن يكون تعالى مؤلفاً مركباً من ذاته وحياته وسائر صفاته ولكان كثيراً لا واحداً وهذا إبطال الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان قال أبو محمد وأما قولهم إنما خاطبنا الله بما نعقل ودعواهم أن في بديهة العقول أن الفاعل لا يكون إلا عالماً بعلم هو غيره حياً بحياة هي غيره قادراً بقدرة هي غيره متكلماً بكلام هو غيره سميعاً بسمع هو غيره بصيراً ببصر هو غيره فإنا نقول وبالله تعالى نتأيد أن هذه القضية كما ذكروا ما لم يقم برهان على خلاف ذلك ثم نسألهم هل عقلتم قط أو توهمتم ناراً محرقة تنبت في الشجر المثمر وهذه صفة جهنم التي أنكرتموها كفرتم وهل عقلتم قط طيراً حياً يؤكل دون أن يموت أو يعاني بنار وهذه صفة الجنة التي إن أنكرتموها كفرتم ومثل هذا كثير وإنما الحق أن لا نخرج عما عهدناه وما عقلناه إلا أن يأتي برهان فإن قنعوا بهذا القدر من الدعوى فليقنعوا بمثل هذا من المجسمة إذ قالوا إنما خاطبنا الله تعالى بما نفهم ونعقل لا بما لا يعقل وقد أخبرنا تعالى أن له عيناً ويداً ووجهاً وأنه ينزل ويجيء في ظلل من الغمام قالوا فكل هذا محمول على ما عقلنا من أنها جوارح وحركات وأنها جسم وأقنعوا به منهم أيضاً إذ قالوا أببديهة العقل وأوله عرفنا ووجب أنه لا يكون الفاعل إلا جسماً في مكان وبضرورة العقل علمنا أنه لا شيء إلا بجسم أو عرض وما لم يكن كذلك فهو عدم وإن ما لم يكن عرضاً فهو جسم والباري تعالى ليس عرضاً فهو جسم ولابد وأقنعوا بمثل هذا من المعتزلة إذ قالوا في إبطال الرؤية بضرورة العقل عرفنا أنه لا يرى إلا جسم ملون وما كان في حيز وإذ قالوا بضرورته وبديهته علمنا أن كل من فعل شيئاً فإنما يوصف به وينسب إليه فلو أنه تعالى خلق الشر والظلم لنسب إليه ووصف بهما واقنعوا بهذا من الدهرية إذ قالوا بضرورة العقل علمنا أنه لا يكون شيئاً إلا من شيء أو في شيء قال أبو محمد فكل طائفة من هذه الطوائف تدعي الباطل على العقول والحقيقة في هذا هو أن كل من ادعى في شيء ما أنه يعرف ببديهة العقل وضرورته وأوله أن ينظر في تلك الدعوى فإن كانت مما ترجع إلى الحواس المشاهدة فهي دعوى كاذبة فاسدة لأن العقول توجب أشياء لا تشكل في الحواس كالألوان التي لا يتوهمها الأعمى ولا يتشكلها بحاسة وهو موقن بها بضرورة عقله لصحة الخبر وتواتره عليها بوجودها وكالصوت الذي لا يتوهمه البتة ولا يشكله من ولد أصم أصلح وهو موقن بعقله بصحة الأصوات لتواتر الخبر عليه بصحتها وإن كانت تلك الدعوى ترجع إلى مجرد العقل دون توسط الحواس فهي دعوى صادقة وهذه الدعاوي التي ذكرنا عن الأشعرية والمجسمة والمعتزلة والدهرية فإنما غلطوا فيها لأنهم نسبوا إلى أول العقل ما أدركوه بحواسهم وقد قلنا أن العقل يوجب ولا بد معرفة أشياء لا تدرك بالحواس ولاسيما دعوى الدهرية فإنها تعارض بمثلها من أن بضرورة العقل وأوله علمنا أنه لا يمكن وجود جسم وعرض في زمان لا أول له وهذا هو الحق لا دعواهم التي عولوا فيها على ما شاهدوا بحواسهم فقط وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فيقال لهم إذا سميتموه حياً لنفي الموت والمواتية عنه تعالى وقادراً لنفي العجز وعالماً لنفي الجهل فيلزمكم ولابد أن تسموه حساساً لنفي الخدرعنه وسماماً لنفي الجسم عنه ومتحركاً لنفي السكون والجمادية عنه وعاقلاً لنفي ضد العقل عنه وشجاعاً لنفي الجبن عنه فإن امتنعوا من ذلك كانوا قد ناقضوا في استدلالهم في تسميتهم إياه حياً عالماً قادراً جواداً فإن قالوا أنه لا يجوز أن يسمى بشيء مما ذكرنا لأنه لم يأت به نص قيل لهم وكذلك لم يأت نص بأن له تعالى حياة ولا بأنه إنما سمي حياً عالماً قادراً لنفي أضداد هذه الصفات عنه لكن لما جاء النص بأنه تعالى يسمي الحي العالم القدير سميناه بذلك ولولا النص ما جاز لأحد أن يسمي الله تعالى بشيء م ذلك لأنه كان يكون مشبهاً له بخلقه لاسيما ولفظة الحي تقع في اللغة على العالم المميز بالحقائق قال تعالى‏.‏

لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين‏.‏

فأراد بالحي ها هنا العالم المميز بالإيمان المقر به وأيضاً فإنهم يدعون أنهم ينكرون التشبيه ثم يركبونه أتم ركوب فيقولون لما لم يكن الفعال عندنا إلا حياً عالماً قادراً وجب أن يكون الباري الفاعل للأشياء حياً عالماً قادراً وهذا نص قياسهم له على المخلوقات وتشبيهه تعالى بهم ولا يجوز عند القائلين بالقياس أن يقاس الشيء إلا على نظيره وأما أن يقاس الشيء على خلافه من كل جهة وعلى ما لا يشبهه في شيء البتة فهذا ما لا يجوز أصلاً عند أحد فكيف والقياس كله باطل لا يجوز وأيضاً فإن الحياة التي لا يعرف أحد بالعقل حياة غيرها إنما هي الحس والبركة الإرادية ولا يعرف أحد الحي إلا بالحساس المتحرك بإرادة وهذا أمر يعرف بالضرورة فمن أنكر ذلك فقد أنكر الحس والمشاهدة والضرورة وخرج عن أن يكلم فإن قال قائل منهم إن الموات قد يتحرك فلم يزد على أن أبان عن قوة جهله لأنه إنما قلنا الحركة الإرادية فإذا لم يفرق هذا الجاهل بين الحركة الإرادية والاضطرارية فينبغي له أن يتعلم قبل أن يتكلم وكل حركة ظهرت من غير حي فليست حركة إرادية له لكنها تحريك المحرك له إما الباري تعالى وإما من دونه ومما يبطل قولهم ضرورة أنه إنما سمي تعالى حياً لأنه عالم قادر وجودنا أحياء كثيرة ليسوا علماء ولا قادرين كالأطفال حين ولادتهم وكالنائم المستثقل وكالمخدور من المجانين وكضعاف الدود والصوداب وما لا ينتقل عن محله كالوصل وغيره وكالمريض من سائر الحيون فهذه كلها أحياء ليس شيء منها عالماً ولا قادراً فصح ضرورة أنه لا معنى للحياة يرتبط بالعلم والقدرة لكن الحق في ذلك أن بعض الأحياء عالم قادر وليس كل حي عالماً قادراً ولا سبيل إلى وجود حي غير حساس ولا متحرك بإرادة فإن ذكروا المغمى عليه فذلك عائد عليهم لأنه ليس عالماً ولا قادراً وأما الحس ففيه بالضرورة ولو جش جشاً قوياً لتألم ولأخبر بذلك عند انتباهه وكذلك الحس والحركة الإرادية باقيان لابد في بعض أعضاء المخدور والمغمى عليه ولابد وقد بينا الواجب في هذا وهو أنه لا يسمى الله عز وجل ولا نخبر عنه من طريق الاستدلال باسم يشاركه فيه شيء من خلقه ولا بخبر يشاركه فيه شيء من خلقه ولكننا نقول أنه تعالى لا يجهل شيئاً أصلاً وهذه صفة لا يستحقها أحد دونه تعالى ونقول لا يغفل البتة ولا يضل ولا يسهو ولا ينام ولا يتحير ولا ينحل ولا يخفى عليه متوهم ولا يعجز عن مسئول عنه ولا ينسى وكل هذا فلا يستحقه مخلوق دونه تعالى أصلاً ثم نقر بما جاء به القرآن والسنن كما جاء لا نزيد ولا ننقص منه ولا نحيله فنؤمن بأنه بخلاف المعهود فيما يقع عليه ذلك اللفظ من خلقه وأمالفظ الصفة في اللغة العربية وفي جميع اللغات فإنما هو عبارة عن معنى محمول في الموصوف بها لا معنى للصفة غير هذا البتة وهذا أمر لا يجوز إضافته إلى الله تعالى البتة إلا أن يأتي نص بشيء أخبر الله تعالى به عن نفسه فنؤمن به وندري حينئذ أنه اسم علم لا مشتق من صفة أصلاً وأنه خبر عنه تعالى لا يراد به غيره عز وجل ولا يرجع منه إلى سواه البتة والعجب كل العجب أنهم يسمون الله حياً لأنهم لم يجدوا الفعل يقع إلا من حي ثم يقولون أنه لا كالأحياء فعادوا إلى دليلهم فأفسدوه لأنهم إذا أوجبوا وقوع الفعل من حي ليس كالأحياء الذين لا تقع الأفعال إلا منهم فقد أبطلوا أن يكون ظهور الأفعال دليلاً على أنها من حي كما عهدوه وقد علمنا يقيناً أن القدرة من كل قادر في العالم فإنما هي عرض فيه وأن الحياة في الحي المعهود بضرورة العقل عرض فيه أيضاً وإن العلم في كل عالم في العالم كذلك وقد وافقونا على أن الباري تعالى بخلاف ذلك فإذ قد بطل أن يكون هذا موصوفاً بصفة القادر فيما بيننا والعالم منا التي لولاها لم يكن العالم عالماً والقادر قادراً فإن الفعل فيما بيننا لا يقع إلا من أهل تلك الصفة فقد بطل ضرورة أن يسمى الباري تعالى باسم قادر أو عالم أو حي استدلالاً بأن الفعل فيما بيننا لا يقع إلا من عالم قادر وإذ قد جوزوا وجود علم ليس عرضاً وحياة ليست عرضاً وهذا أمر غير معقول أصلاً فلا ينكر وجود حي لا بحياة وسميع لا بسمع وبصير لا ببصر وكل هذا خروج عن المعهود ولا فرق وإنما يستجاز الخروج عن المعهود إذ جاء به نص من الخالق عز وجل أو قام به برهان ضروري وإلا فلا ولم يأت نص قط بلفظ الحيا ولا الإرادة ولا السمع ولا البصر واحتج بعضهم في معارضة من قال إن الحي لا يكون إلا حساساً متحركاً بإرادة لأننا لم نشاهد قط حياً إلا حساساً متحركاً بإرادة فقال هذا المعترض إن من اتفق له أن لا يرى نباتاً إلا أخضر ولا أخضر إلا نباتاً فقطع بأن كل أخضر فهو نبات فقد أخطأ قال أبو محمد فأول ما يقال له قل هذا لنفسك في استدلالك بأنك لم تر قط فعالاً إلا حياً عالماً قادراً ولا فرق ثم نعوذ بعون الله تعالى إلى بيان ما شغبوا به مما لا يعرفون الفرق بينه وبين ما يقع عليه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الأعراض تنقسم إلى قسمين أحدهما ذاتي لا يتوهم بطلانه إلا ببطلان حامله كالحس والحركة الإرادية للحي وكذلك احتمال الموت للإنسان مع إمكان التمييز للعلوم والتصرف في الصناعات وما أشبه هذا ومن هذه الأعراض تقوم فصول الأشياء وحدودها التي تفرق بينها وبين غيرها من الأنواع التي تقع معها تحت جنس واحد فهذا القسم مقطوع على وجوده في كل ما وقع اسم حامله عليه والقسم الثاني غيري وهو ما يتوهم بطلانه ولا يبطل بذلك ما هو فيه كاجترار البعير وحلاوة العسل وسواد الغراب فإن وجد عسل مر وقد وجدناه لم يبطل بذلك أن يكون عسلاً وكذلك لو وجد غراب أبيض وقد وجد لم يبطل بذلك أن يكون غراباً فمثل هذا القسم لا يقطع على أنه موجود ولابد أبداً فهذا الفرق بين ما شغب به من النبات لأنه إن توهم النبات أحمر أو أصفر لم يبطل أن يسمى نباتاً ولكنه إن توهم أن يكون النبات غير نام من الأرض ولا متغذ برطوباتها منجذباً بحر الهواء ورطوبته فإنه لا يكون نباتاً أصلاً وأيضاً فقد قال بعضهم أنه قد يعرف الباري حياً من لا يعرفه حساساً متحركاً بإرادة قيل له وقد يعرفه حياً من لا يعرف أن له حياة وقد يعرفه جسماً من لا يعرفه مؤلفاً ولا محدثاً وليس توهم الجهال لما توهموه من الحماقات حجة على أهل العقول والعلوم والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وبرهان ضروري وهو أن كل صفة في العالم فهي ضرورة ولابد عرض بين الطرفين أو أحد ذينك الطرفين وإما ذات ضد فحاملها بالضرورة قابل للأضداد فلا عالم في العالم إلا والجهل منه متوهم ولا قادر في العالم إلا والعجز منه متوهم ولا حي في العالم إلا والسكون والحركة والحس والحذر متوهمات كلها منه وقد علمنا أن الله تعالى أرحم الراحمين حقاً لا مجازاً من أنكر هذا فهو كافر حلال دمه وماله وهو تعالى يبتلي الأطفال بالجدري واواكل والجن والذبحة والأوجاع حتى يموتوا وبالجوع حتى يموتوا كذلك ويفجع الآباء بالأبناء وكذلك الأمهات والأحياء بعضهم ببعض حتى يهلكوا ثكلاً ووجداً وكذلك الطير بأولادها وليست هذه صفة الرحمة بيننا فصح يقيناً أنها أسماء لله سمى الله تعالى بها نفسه غير مشتقة من صفة محمولة فيه تعالى وحاشا له من ذلك فإن قالوا إن العالم القادر الحي الأول الرحيم بخلاف هذا قيل لهم صدقتم وهذا إبطال منكم لاستدلالكم بالشاهد بينكم على تسمية الباري وصفاته قال أبو محمد وأما وصفنا الباري تعالى بأنه الواحد الأول الحق الخالق من طريق الاستدلال فإنه لا يلزمنا في ذلك شيء مما ألزمناه خصومنا لأنه قد قام البرهان بأنه خالق ما سواه وليس في العالم خالق البتة بوجه من الوجوه وقد قام البرهان على أنه تعالى واحد لا واحد في العالم غيره البتة بوجه من الوجوه وكل ما في العالم فمتكثر باحتمال القسمة والتحري وقد قام البرهان على أنه تعالى الأول والأول في العالم البتة بوجه من الوجوه وكل ما في العالم ينافي الأول وقام البرهان بأنه تعالى الحق بذاته وإن كل ما في العالم فإنما هو محقق له تعالى وإنما كان حقاً بالباري جل وعز ولولاه لم يكن حقاً فهذا هو البرهان الصحيح الثابت الذي لا يعارض ببرهان البتة وهذا هو نفي التشبيه ثم إننا ننفي عن الباري تعالى جميع صفات العالم فنقول أنه تعالى لا يجهل أصلاً ولا يغفل البتة ولا يسهو ولا ينام ولا يحس ولا يخفى عليه متوهم ولا يعجز عن مسئول عنه لأننا قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا أن الله تعالى بخلاف خلقه من كل وجه فإذ ذلك كذلك فواجب نفي كل ما يوصف به شيء مما في العالم عنه تعالى على العموم وأما إثبات الوصف أو التسمية له تعالى فلا يجوز إلا بنص ونخبر عنه تعالى بأفعاله عز وجل فنقول أنه تعالى محي الموتى ومميت الأحياء إلا أن لا يثبت إجماع في إباحة شيء من ذلك ولولا الإجماع على إباحة إطلاق بعض ذلك ها هنا لما أجزناه ونقول أنه تعالى بكل شيء عليم لم يزل كذلك والمعنى في هذا أنه لم يزل يعلم أنه سيخلق الأشياء على حسب هيئة كل مخلوق منها لا على أن الأشياء لم تزل موجودة في علمه معاذ الله من هذا ولكن نقول لم يزل تعالى يعلم أنه سيحدث كل ما يكون شيئاً إذا أحدثه على ما يكون عليه إذا كان وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ونجمع إن شاء الله تعالى ها هنا بيان الرد على من أقدم أن يسمي الله تعالى بغير نص لكن بما دله عليه عقله وظنه أنه حسن ومدح أو استدلالاً بما سمى به تعالى نفسه أو تصريفاً من ذلك أو قياساً على ما شاهد من خلقه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الله تعالى سمى نفسه الرحمن الرحيم يغني عن ذلك قيل له نقضت أصلك لأن الحي يغنى على هذا عن أن يقال أن له حياة وأيضاً فإن الرحمن يغني عن الرحيم فإن قال قد وردالنص به قيل له صدقت ولا تتعد ما جاء به النص وامنع ما سواه وسمى نفسه العليم فسمه الداري الحبر الفهم الزكي العارف النبيل فكل هذا مدح ومعناه في اللغة بمعنى عليم ولا فرق وسمى نفسه الكريم فسمه السخي والجواد وسمى نفسه الحكيم فسمه الناقد العاقل وسمى نفسه العظيم فسمه الفخم الضخم وسمى نفسه الحليم فسمه المجتمل المتأني الصابر الصبور الصبار وأخبر أنه قريب فسمه الداني المجاور المياسر وسمى نفسه الواسع فسمه الرحب العريض وسمى نفسه العزيز فسمه الرئيس وأخبر أنه شاكر وشكور فسمه الحامد الحماد وسمنى نفسه القهار فسمه الظافر وسمى نفسه الآخر فسمه الثاني والتالي والخاتم وسمى نفسه الظاهر فسمه العارف والداري وسمى نفسه الكبير فسمه الرئيس والمتقدم وسمى نفسه القدير فسمه المطيق والمستطيع وسمى نفسه العلي فسمه العالي والرفيع والسامي وسمى نفسه البصير فسمه المعاين وسمى نفسه الجبار فسمه المتجبر الزاهي التياه وسمى نفسه المتكبر فسمه المستكبر المتعاظم المتنحي وسمى نفسه البر فسمه الزاكي المواصل وسمى نفسه المتعالي فسمه المتعظم المترفع وسمى نفسه الغني فسمه الموسر الملي المكثر الوافر وسمى نفسه الولي فسمه الصديق المصادق الوالي الحبيب وسمى نفسه القوي فسمه الجلد النجد الشجاع الجليد الشديد الباطش وسمى نفسه الحي وأخبر أن له نفساً فسمه المتحرك الحساس واقطع بأن له روحاً بمعنى النفس وسمى نفسه السميع البصير فسمه الشمام الذواق وسمى نفسه المجيد فسمه الشريف الماجد وسمى نفسه الحميد فسمه المحمد المحمود الممدوح الممدح وسمى نفسه الودود فسمه الواد المحب الحبيب الوديد وسمى نفسه الصمد فسمه المصمت وسمى نفسه الحق فسمه الصحيح الثابت وسمى نفسه اللطيف فسمه الخفيف وذكر تعالى أن له مكراً وكيداً فقل إن له دهاء ونكراً وحساً وثحيلاً وخدائع فهذا كله في اللغة وفيما بيننا سواء وسمى نفسه المتين فسمه الواضح البين اللائح البادي وسمى نفسه المؤمن فسمه المسلم المصدق وسمى نفسه الباطن فسمه الخفي الغائب المتغيب وسمى نفسه الملك والمليك فسمه السلطان وصح بالسنة أنه يسمى جميلاً فسمه قال أبو محمد فإن أبى من كل هذا نقض أصله وكذلك إن قال إن بعض ذلك يغني عن بعض لزمه إسقاط الحياة لأن الحي يغني عن ذكر الحياة على هذا الأصل ولزمه أن لا يقول أنه متكلم لأن الكلام مغن عن ذلك ولزمه أيضاً إسقاط السمع والبصر لأنه استغنى بالسميع والبصير ولزمه أيضاً إسقاط ما جاء به النص إذا كان بعضه يغني عن بعض والملك يغني عن مليك وأحد يغني عن واحد وجبار يغني عن متكبر وخالق يغني عن الباري وهكذا في سائر الأسماء فلم يبق إلا الرجوع إلى النصوص فقط فإذ قد صح هذا بيننا فلا يحل أن يسمى الله عز وجل القديم ولا الحنان ولا المنان ولا الفرد ولا الدايم ولا الباقي ولا الخالد ولا العالم ولا الداني ولا الرائي ولا السامع ولا المعتلي ولا العالي ولا المتبارك ولا الطالب ولا الغالب ولا الضار ولا النافع ولا المدرك ولا المبدىء ولا المعيد ولا الناطق ولا القادر ولا الوارث ولا الباعث ولا القاهر ولا الجليل ولا المعطي ولا المنعم ولا المحسن ولا الحكم ولا الحاكم ولا الواهب ولا الغفار ولا المضل ولا الهادي ولا العدل ولا الرضي ولا الصادق ولا المتطول ولا المتفضل ولا المان ولا الخير ولا الحافظ ولا البيدع ولا الإله ولا المجمل ولا المحيي ولا المميت ولا المنصف ولا بشيء لم يسم به نفسه أصلاً وإن كان في غاية المدح عندنا أو كان متصرفاً من أفعاله تعالى إلا أن نخبر عنه بكل هذا الذي ذكرنا بالإضافة إلى ما نذكر مع الوصف حينئذ والإخبار عن فعله تعالى فهذا جائز حينئذ فيجوز أن يقال عالم الخفيات عالم بكل شيء عالم الغيب والشهادة غالب على امره غالب على كل من طغى أو نحو هذا القادر على ما يشاء القاهر للملوك وارث الأرض ومن عليها المعطي لكل ما بأيدينا الواهب لنا كل ما عندنا المنعم على خلقه المحسن إلى أوليائه الحاكم بالحق المبدي لخلقه المعيد له المضل لأعدائه الهادي لأوليائه العدل في حكمه الصادق في قوله الراضي عمن أطاعه الغضبان على من عصاه الساخط على أعدائه الكاره لما نهى عنه بديع السموات والأرض إله الخلق محيي الأحياء والموتى مميت الأحياء والموتى المنصف ممن ظلم باني الدنيا وداحيها ومسويها ونحو هذا لأن كل هذا إخبار عن فعله تعالى وهذا مباح لنا بإجماع وهو من تعظيمه تعالى ومن دعائه عز وجل وليس لنا أن نسميه إلا بنص وكذلك نقول إن لله تعالى كيداً ومكراً وكبرياء وليس هذا من المدح فيما بيننا بل هو فيما بيننا ذم ولا يحل أن نقول أن لله تعالى عقلاً وشجاعة وعفة ودهاء وفهماً وذكاء وهذا غاية المدح فيما بيننا فبطل أن يراعي فيما يخبر به عن الله تعالى ما هو مدح عندنا أو ما هو ذم عندنا بل النص فقط وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة فلو كانت هذه الأسماء التي منعنا منها جائزاً أن تطلق لكانت أسماء الله تعالى أكثر من مائة ونيف وهذا باطل لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة غير واحد مانع من أن يكون له أكثر من ذلك ولو جاز ذلك لكان قوله عليه السلام كذباً وهذا كفر ممن أجازه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها فأسماؤه بلا شك كما هي داخلة فيما علمه آدم عليه السلام وتخصيص كلامه عليه السلام لا يحل فإذ ذلك كذلك فمن هو الذي اشتقها من الصفات فإن قالوا هو اشتقها كذبوا على الله تعالى جهاراً إذ أخبروا عنه بما لم يخبر به تعالى عن نفسه وهذا عظيم نعوذ بالله منه وهذه كلها براهين كافية لمن عقل وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين