الجزء الثالث - الكلام في الرؤية

قال أبو محمد‏:‏ ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان إلى أن الله تعالى لا يرى في الآخرة وقد روينا هذا القول عن مجاهد وعذره في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه وروينا هذا القول أيضاً عن الحسن البصري وعكرمة وقد روي عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى‏.‏
وذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا و الآخرة‏.‏

وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا أصلاً‏.‏

وقال الحسن بن محمد النجار‏:‏ هو جائز ولم يقطع به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين وعمدة من أنكر أن الرؤية المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة وهذا مبعد عن الباري عز وجل‏.‏

وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا سوء وضع منهم لأننا لم نقل قط بتجويز هذه الرؤية على الباري عز وجل و إنما قلنا أنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله تعالى وقد سماها بعض القائلين بهذا القول الحاسة السادسة وبيان ذلك أننا نعلم الله عز وجل بقلوبنا علماً صحيحاً هذا ما لا شك فيه فيضع الله في الأبصار قوة تشاهد بها الله وترى بها كالتي وضع في الدنيا في القلب و كالتي وضعها الله عز وجل في أذن موسى صلى الله عليه وسلم حتى شاهد الله وسمعه مكلماً له واحتجت المعتزلة بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ لا تدركه الأبصار ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك و الإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة برهان ذلك قول تعالى عز وجل‏:‏ ‏"‏ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏"‏ ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقاً جلياً لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله فلما ترآى الجمعان وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضاً فصمت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم كلا إن معي ربي سيهدين فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا في أن ما نفاه الله تعالى عز وجل فهو غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة ‏"‏ واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الحبائي فقال‏:‏ إن إلى هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم فهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت له النضرة وهي النعمة والنعمة نعمة فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لها وإنما ينتظر ما لم يقع بعد والثاني تواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان أن المراد بالنظر هو الرؤية لا ما تأوله المتأولون وقال بعضهم‏:‏ إن معناها إلى ثواب ربها أي منتظرة ناظرة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا فاسد جداً لأنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله فإن قال قائل‏:‏ إن حمل اللفظ على المعهود أولى من حمله على غير المعهود قيل له الأولى في ذلك حمل الأمور على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص أو إجماع أو ضررة ولم يأت نص ولا إجماع ولا ضررة تمنع ما ذكرنا في معنى النظر وقد وافقتنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير وأنه لا فعال إلا بمعاناة ولا رحيم إلا برقة قلب ثم أجمعوا معنا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير وأنه عز وجل فعال بلا معاناة ورحيم بلا رقة فأي فرق بين تجويزهم ما ذكرناه وبين تجويزهم رؤية و نظراً بقوة غير القوة المعهودة لولا الخذلان ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك‏.‏

وقد قال بعض المعتزلة‏:‏ أخبرونا إذا رؤي الباري أكله يرى أم بعضه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذا سألونا نحن و المعتزلة فقالوا‏:‏ إذا علمتم الباري تعالى أكله تعلمونه أم بعضه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلاً وبعضاً حيث لا كل ولا بعض و الكل والبعض لا يقعان إلا في ذي نهاية والباري تعالى خالق النهاية والمتناهى فهو عز وجل لا متناه ولا نهاية فلا كل له ولا بعض‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة القبول لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها ورؤية الله عز وجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا الله ذلك بفضله ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن جميع العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك فإن قال قائل‏:‏ إنما أخبر تعالى بالرؤية عن الوجه قيل وبالله تعالى التوفيق‏:‏ معروف في اللغة التي بها خوطبنا أن تنسب الرؤية إلى قال بعض الأعراب‏:‏ أنافس من ناجاك مقدار لفظة وتعتاد نفسي أن نأت عنك معينها وإن وجوهاً يصطبحن بنظرة إليك لمحسود عليك عيونها