الجزء الثالث - الكلام في إعجاز القرآن

قال أبو محمد‏:‏ قد ذكرنا قيام البرهان عن أن القرآن معجز قد أعجز الله عن مثل نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من ذكرنا عن أن يأتوا بمثله وتبكيتهم بذلك في محافلهم وهذا أمر لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر وأجمع المسلمون على ذلك ثم اختلف أهل الكلام في خمسة أنحاء من هذه المسالة فالنحو الأول قول روي عن الأشعري وهو أن المعجز الذي تحدى الناس بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط ولا نزل إلينا ولا سمعناه وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان إذ من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل لما لم يعرفه قط ولا سمعه وأيضا ًفيلزمه ولا بد بل هو نفس قوله أنه إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فإن المسموع المتلو عندنا ليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر مجرد لا خلاف فيه لأحد فإنه خلاف للقرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو عشر سور منه وذلك الكلام الذي هو عند الأشعري هو المعجز ليس له سوراً ولا كثيراً بل هو واحد فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين‏.‏

وله قول آخر كقول جميع المسلمين إن هذا المتلو هو المعجز والنحو الثاني هل الإعجاز متماد أم قد ارتفع بتمام الحجة به في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض أهل الكلام أن الحجة قد قامت بعجز جميع العرب عن معارضته ولو عورض الآن لم تبطل بذلك الحجة التي قد صحت كما أن عصا موسى إذ قامت حجته بانقلابها حية لم يضره ولا أسقط حجته عودها عصا كما كانت وكذلك خروج يده بيضاء من جيبه ثم عودها كما كانت وكذلك سائر الآيات وقال جمهور أهل الإسلام أن الإعجاز باق إلى يوم القيامة والآية بذلك باقية أبداً كما كانت‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره لأنه نص قول الله تعالى إذ يقول‏:‏ ‏"‏ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا نص جرى على أنه لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقيناً أن ذلك على التأبيد وفي المستأنف أبداً ومن ادعى أن المراد بذلك الماضي فقد كذب لأنه لا يجوز أن تحال اللغة فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص أخر جلي وارد بذلك أو بإجماع متيقن أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولاسبيل في هذه المسألة إلى شيء من هذه الوجوه وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا ‏"‏ عموم لكل إنس وجن أبداً لا يجوز تخصيص شيء من ذلك أصلاً بغير ضرورة ولا إجماع‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر فلا حجة هاهنا تقوم له على الطائفة المذكورة فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين‏.‏

والنحو الثالث ما المعجز منه أنظمه أم في نصه من الإنذار بالغيوب فقال بعض أهل الكلام أن نظمه ليس معجزاً وإنما إعجازه ما فيه من الأخبار بالغيوب وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين معجز نظمه وما فيه من الأخبار بالغيوب وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو ضلال وبرهان ذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأتوا بسورة من مثله ‏"‏ فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره واكثر سوره ليس فيها أخبار بغيب فكأن من جعل المعجز الأخبار الذي فيه بالغيوب مخالفاً لما نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت والنحو الرابع ما وجه إعجازه فقالت طائفة وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة وقالت طوائف إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط فأما الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ ونحو هذا وموه بعضهم بأن قال لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما نعلم لهم شغباً غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه أما قولهم لو كان كما قلنا لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة أبلغ فهذا هو الكلام الغث حقاً لوجوه أحدها أنه قول بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله بنفسه فيقال له بل لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود فهذا أقوى من شغبهم‏.‏

وثانيها أنه لا يسأل الله تعالى عما يفعل ولا يقال له لم عجزت بهذا النظم دون غيره ولم أرسلت هذا الرسول دون غيره ولم قلبت عصا موسى حية دون أن تقلبها أسداً وهذا كله حمق ممن جاء به لم يوجبه قط عقل وحسب الآية أن تكون خارجة عن المعهود فقط‏.‏

وثالثها أنه حين طردوا سؤالهم ربهم بهذا السؤال الفاسد لزمهم أن يقولوا هلا كان هذا الإعجاز في كلام بجمع اللغات فيستوي في معرفة إعجازه العرب والعجم لأن العجم لا يعرفون إعجاز القرآن إلا بأخبار العرب فقط فبطل هذا الشغب الغث والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما ذكرهم ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ويقال لهم‏:‏ إن كان كما تقولون ومعاذ الله من ذلك فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة وأما سائره فلا وهذا كفر لا يقوله مسلم فإن قالوا جميع القرآن مثل هذه الآيات في الإعجاز قيل لهم فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذاً وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزاً وغير معجز ثم نقول لهم قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏"‏ أمعجز هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزاً فإن قالوا ليس معجزاً كفروا وإن قالوا أنه معجز صدقوا وسألوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا نعم كابروا وكفوا مؤنتهم لأنها أسماء رجال فقط ليس على شروطكم في البلاغة فلو كان إعجاز القرآن لأنه في درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هرون والجاحظ وشعر أمرئ القيس ومعاذ الله من هذا لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن إن يأتي من يماثله ضروة فلا بد لهم من هذه الخطة أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط وأيضاً فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل فإن قالوا فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا قلنا وبالله تعالى التوفيق إن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين فلا لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه وبرهان هذا أن إنساناً لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجاً عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلاً وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار ‏"‏ لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ‏"‏ وحكى تعالى عن كافر قال‏:‏ ‏"‏ إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر ‏"‏ وحكى عن آخرين أنهم قالوا‏:‏ ‏"‏ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ‏"‏ فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاماً له أصاره معجزاً ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى غيره والحمد لله‏.‏

والنحو الخامس ما مقدار المعجز منه فقالت الأشعرية ومن وافقهم أن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو إنا أعطيناك الكوثر فصاعداً وإن ما دون ذلك ليس معجزاً واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأتوا بسورة من مثله ‏"‏ قالوا ولم يتحد تعالى بأقل من ذلك وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كله قليله وكثيره معجز وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأتوا بسورة من مثله ‏"‏ لأنه تعالى لم يقل إن ما دون السورة ليس معجزاً بل قد قال تعالى على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولا يختلف اثنان في أن كل شيء من القرآن قرآن فكل شيء من القرآن معجز ثم تعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا فنقول أخبرونا ماذا تعنون بقولكم أن المعجز مقدار سورة أسورة كاملة لا أقل أم مقدار كوثر في الآيات أم مقدارها في الكلمات أم مقدارها في الحروف ولا سبيل إلى وجه خامس فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من أولها ليست معجزة وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها من آخرها فمقدور على مثلها وإن قالوا بل مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ولزمهم مع ذلك أن والفجر وليال عشر والشفع والوتر معجز كآية الكرسي وآيتان إليها لأنها ثلاث آيات وهذا غير قولهم ومكابرة أيضاً أن تكون هذه الكلمات معجزة حاشا كله غير معجزة ولزمهم أيضاً أن والضحى والفجر والعصر هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهن ثلاث آيات فإن قالوا هن متفرقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية متفرقة وإمكان المجيء بمثلها ومن جعل هذا ممكناً فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه ولزمهم أيضاً أن ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ ليس معجزاً وهذا نقض لقولهم في أنه في أعلى درج البلاغة وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول وإن قالوا بل في عدد الكلمات أو قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهم إبطال احتجاجهم بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ بسورة من مثله ‏"‏ لأنهم جعلوا معجزاً ما ليس سورة ولم يقل تعالى بمقدار سورة فلاح تمويههم والثاني أن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفاً وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏"‏ اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفاً وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشر كلمات اثنين وستين حرفاً فهذا أكثر كلمات وحروفاً من سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا معجزاً عندكم ويكون ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ غير معجز فإن قالوا إن هذا غير معجز تركوا قولهم في إعجاز مقدار أقل سورة في عدد الكلمات وعدد الحروف وإن قالوا بل هو معجز تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضاً أننا إن أسقطنا من هذه الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمات أن لا يكون شيء من ذلك معجز فظهر سقوط كلامهم وتخليطه وفساده وأيضاً فإذا كانت الآية منه أو الآيتان غير معجزة وكانت مقدوراً على مثلها وإذا كان ذلك فكله مقدور على مثله وهذا كفر فإن قالوا إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها قيل لهم هذا غير قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة لأن طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ‏"‏ وإن كل كلمة قائمة المعنى يعلم إذا تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبداً لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال إن آية النبوة إن الله تعالى يطلقني على المشي في هذا الطريق الواضحة ثم لا يمشي فيها أحد غيري أبداً أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون من الآيات وإن الكلمة المذكورة أنها متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآناً فهي غير معجزة وهذا هو الذي جاء به النص والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعين عاماً ونحن نجد في القرآن إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما كقوله تعالى ‏"‏ وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ‏"‏ وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا في صدر ومثل هذا في القرآن كثير والحمد لله رب العالمين‏.‏