الجزء الثالث - الكلام في الهدى والتوفيق

قال أبو محمد‏:‏ احتجت المعتزلة بقول الله عز وجل ‏"‏ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا حق وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ‏"‏ فأخبر تعالى أن الذين هدى بعض الناس لا كلهم وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ‏"‏ وهي قراة مشهورة عن عاصم بفتح الياء من يهدي وكسر الدال فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ من يضلل الله فلا هادي له ‏"‏ فأخبر تعالى أن الذين أضل فلم يهدهم وقال تعالى ‏"‏ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ‏"‏ فأخبر تعالى أن الذين هدى غير الذي أضل ومثل هذا كثير وكل ذلك كلام الله عز وجل وكله حق لا يتعارض ولا يبطل بعضه بعضاً قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ‏"‏ فصح يقيناً أن كل ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا مختلف فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها ظاهرة لائحة وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا وهدى الناس كلهم السبيل ثم هم بعد إما شاكر وإما كفور وأخبر تعالى في الآيات الأخر أنه هدى قوماً فاهتدوا ولم يهد آخرين فلم يهتدوا فعلمنا ضرورة أن الهدى الذي أعطاه الله عز وجل جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه هذا أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته فإذ لا شك في ذلك فقد لاح الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة وهي التي يقع الاسم منها على مسميين مختلفين بنوعهما فصاعداً فالهدى يكون بمعنى الدلالة تقول هديت فلاناً الطريق بمعنى أريته إياه ووقفته عليه وأعلمته إياه سواء سلكه أو تركه وتقول فلان هاد بالطريق أي دليل فيه فهذا الهدى الذي هداه الله ثمود وجميع الجن والملائكة وجميع الأنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي فهذا معنى ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له وخلقه لقبول الخير في النفوس فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم والمهتدين من الأنس والجن ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا قوله تعالى في الآيات المذكورة‏:‏ ‏"‏ إنا هديناه السبيل ‏"‏ فبين تعالى أن الذي هداهم له فهو الطريق فقط وكذلك أيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين ‏"‏ فهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ‏"‏ وهذا بلا شك غير ما هدى جميعهم عليه من الدلالة والتبيين للحق من الباطل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقوله تعالى أن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا نص جلي على ما قلنا وبيان أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون فيه إليها هدى لهم إلى تلك الطريق ونفى عنهم تعالى في الآخرة كل هدى إلى شيء من الطرق إلا طريق جهنم ونعوذ بالله من الضلال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقال بعض من يتعسف القول بلا علم أن قول الله عز وجل ‏"‏ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا هديناه السبيل ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وهديناه النجدين ‏"‏ إنما أراد تعالى بكل ذلك المؤمنين خاصة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا باطل لوجهين أحدهما تخصيص الآيات بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل والثاني أن نص الآيات يمنع من التخصيص ولا بد وهو أن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ‏"‏ فرد تعالى الضمير في فاستحبوا العمى على الهدى إلى المهديين أنفسهم فصح أن الذين هدوا لم يهتدوا وأيضاً فإن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ‏"‏ وقال له تعالى‏:‏ ‏"‏ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ‏"‏ فصح يقيناً أن الهدى الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم هو الدلالة وتعليم الدين وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله تعالى وحده فإن ذكر ذاكر قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ‏"‏ فليس هذا على ما ظنه من لا ينعم النظر من أن الله وحده لو أسمعهم لم يسمعوا بذلك بل ظاهر الآية مبطل لهذا الظن لأنه تعالى قال‏:‏ ‏"‏ ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ‏"‏ فصح يقيناً أن من علم الله تعالى فيه خيراً أسمعه وثبت أن فيه خيراً ثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏ لتولوا وهم معرضون ‏"‏ لو أسمعهم لم يسمعوا فصح يقيناً أنه أراد بلا شك أنه لو أسمعهم لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا أصلاً لأنه تعالى قد نص على أن إسماعه لا يكون إلا لمن علم فيه خيراً ومن المحال الباطل أن يكون من علم الله تعالى فيه خيراً يتولى عن الخير ويعرض عنه فبطل ما حرفوه بظنونهم من كلام الله عز وجل وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ‏"‏ فإنه تعالى قسم من هدى السبيل قسمين كفوراً وشاكراً فصح ان الكفور أيضاً هدى السبيل فبطل ما توهموه من الباطل ولله تعالى الحمد وصح ما قلنا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد تلونا من كلام الله تعالى في الباب الذي قبل هذا والباب الذي قبله متصلاً به نصوص كثيرة بأن الله تعالى أضل من شاء من خلقه وجعل صدورهم ضيقة حرجة فإن اعترضوا بقول الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا‏:‏ ‏"‏ وما أضلنا إلا المجرمون ‏"‏ فلا حجة لهم في هذه الوجوه أحدها أنه قول كفار قد قالوا الكذب وحكى الله تعالى حينئذ ‏"‏ والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ‏"‏ فإن أبوا إلا الاحتجاج بقول الكفار فليجعلوه إلى جنب قول إبليس‏:‏ ‏"‏ رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ‏"‏ والوجه الثاني أننا لا ننكر إضلال المجرمين وإضلال إبليس لهم ولكنه إضلال آخر ليس إضلال الله تعالى لهم والثالث أنه لا عذر لأحد في أن الله تعالى أضله ولا لوم على الخالق تعالى في ذلك وأما من أضل آخر من دون الله تعالى فهو ملوم وقد فسر الله تعالى إضلاله لمن يضل كيف هو وفسر تعالى ذلك الإضلال تفسيراً أغنانا به عن تفسير الخلعاء العيارين كالنظام والعلاف وثمامة وبشر بن المعتمر والجاحظ والناشي وما هنالك من الأحزاب ومن تبعهم من الجهال فبين تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيق صدره عن قبول الإيمان وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ولا يصبر عليه ويوعر عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يتكلف في ذلك الصعود إلى السماء وفسر ذلك أيضاً عز وجل في آيه أخرى قد تلوناها آنفاً بأنه يجعل أكنه على قلوب الكافرين يحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاخة لبيانه وهداه وإن يفقهوه وإنه جعل تعالى بينهم وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم حجاباً مانعاً لهم من الهدى وفسره أيضاً تعالى بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها فامتنعوا بذلك من وصول الهدى إليها وفسر تعالى إضلال من دونه فقال تعالى أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار وفسر تعالى أيضاً القوة التي أعطاها المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبيت على قبول الحق وأنه تعالى يشرح صدورهم لفهم الحق واعتقاده والعمل به وأنه صرف لكيد الشيطان ولفتنته عنهم نسأل الله أن يمدنا بهذه العطية وأن يصرف عنا الإضلال بمنه وإن لا يكلنا إلى أنفسنا فقد خاب وخسر من ظن في نفسه أنه قد استكمل القوى حتى استغنى عن أن يزيده الله تعالى توفيقاً وعصمة ولم يحتج إلى خالقه في ان يصرف عنه فتنته ولا كيده لاسيما من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ولم يجعل عند خالقه قوه يصرف بها عنه كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ونبرأ إلى الله خالقنا تعالى من الحول والقوة كلها إلا ما أتانا منها متفضلاً علينا وأما كل ما جاء في القرآن من إضلال الشياطين للناس وإنسائهم إياهم ذكر الله تعالى وتزيينهم لهم ووسوستهم وفعل بعض الناس ذلك ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب وخالق لأفعال هؤلاء المضلين من الجن والإنس وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ حسداً من عند أنفسهم ‏"‏ لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها وهو خلق الله تعالى فيها فإن ذكروا قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فهو كما قال لك عز وجل وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم ‏"‏ وصدق الله عز وجل لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل اصلاً فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالاً بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك وبالله التوفيق فصح بهذه الآية أنه تعالى يضلهم بعد ان يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع به الإيمان فقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زايد أعطاه الله للكفار والعصاة وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحريجها والختم على القلوب والطبع عليها وأكنانها عن أن يفقهوا الحق فإن قالوا إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يمدها الله تعالى بتوفيق قلنا لهم من خلقها هذه الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق فإن قالوا الله تعالى هو خلقها كذلك أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية وركب فيها هذه الصفة المهلكة فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ أن هذا كله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا وقلنا لهم فمن خلق النفس وخلق فيها هذه الطبيعة الموجبة لهذه الأفاعيل فإن قالوا الله سبحانه وتعالى أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه الصفة المهلكة لها إن لم يمدها بلطف وتوفيق وكذلك إن قالوا أن النفس هي فعلت الطبيعة الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول محيلين أيضاً محالاً ظاهراً لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لفعلها وإما مضطرة إلى فعلها على ما هي عليها فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع طبيعتها مراراً بخلاف مالا توجد إلا عليه وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرة إلى هذا الفعل فلا بد من انه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى أن الله تعالى هو الذي أعطاها هذه الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين أن النفس أحدثت طبيعتها مع أنه أيضاً قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما القائلون بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا هاهنا وقالوا لا ندري ما معنى الإضلال ولا معنى الختم على قلوبهم ولا الطبع عليها وقال بعضهم معنى ذلك أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم انهم ضالون وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما تقول ضللت بعيري وهذه كلها دعاوي بلا برهان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لم نجد لهم تأويلاً أصلاً في قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا هو الإضلال حقاً وهو أن يحملهم اللجاج والعمى في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد من لا خير فيه من أسلافهم على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الضلال والختم والطبع والأكنة على القلوب وقد فسر الله كل ذلك تفسيراً جلياً وأيضاً فإنها ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن فلا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها التي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي نص قرآن أو كلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره أو يوجب صرفها ضرورة حس أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عند ما جاء من ذلك ولم يأت في هذه الألفاظ التي أضلهم الله تعالى فيها وخيرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا ضرورة بأنها مصروفة عن موضعها في اللغة بل قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل ميسر لما خلق له ‏"‏ فبين عليه السلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى المؤمن للخير الذي له خلقه وأن الخذلان تيسرة الفاسق للشر الذي له خلقه وهذا موافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وعامة المسلمين حاشا من أضله الله على علم من أتباع العيارين الخلعاء كالنظام وثمامة والعلاف والجاحظ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونبين هذا أيضاً بياناً طبيعياً ضرورياً لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له أدنى بصر بالنفس وأخلاقها وقدرة الله تعالى في اختراعها فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله عز وجل خلق نفس الإنسان مميزة عاقلة عارفة بالأشياء على ما هي عليه فهمه بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية فعالة منعمة معذبة ملتذة آلمة حساسة وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير وهما التمييز والهوى كل واحدة منهما تريد الغلبة على آثار النفس فالتمييز هو الذي خص به نفس الإنسان والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف والذي ليس ناطقاً و الهوى هو الذي يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقاً من حب اللذات والغلبة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه القوة في كل الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع منها معصية أصلاً بوجه من الوجوه فإذا عصم الله النفس غلب التمييز بقوة من عنده هي له مدد وعون فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في تمييزها من فعل الطاعات وهذا هو الذي يسمى العقل وإذا خذل جل وعز النفس أمد الهوى بالقوة هي الإضلال فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد وسائر الأخلاق الرذلة والمعاصي وقد قامت البراهين على أن النفس مخلوقة وكذلك جميع قواها المنتجة عن قوتيها الأولتين التمييز والهوى كل ذلك مخلوق مركب في النفس مرتب على ما هو عليه فيها كل جار على طبيعته المخلوقة لجري كيفياته بها على ما هي عليه فإذا قد صح أن كل ذلك خلق الله تعالى فلا مغلب لبعض ذلك على بعض إلا خالق الكل وحده لا شريك له وقد نص الله تعالى على ذم النفس جملة إلا من رحمها الله تعالى وعصمها قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ‏"‏ فأخبر عز وجل بنص ما قلنا فصح أن المرحومة المستثناة لا تأمر بالسوء وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ‏"‏ وذم الله تعالى الهوى في غير ما موضع من كتابه وهذا نص ما قلنا وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

الكلام في القضاء والقدر

قال أبو محمد‏:‏ ذهب بعض الناس لكثرة استعمال المسلمين هاتين اللفظتين إلى أن ظنوا أن فيهما معنى الإكراه والإجبار وليس كما ظنوا وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبها نتخاطب ونتفاهم مرادنا أنه الحكم فقط ولذلك يقولون القاضي بمعنى الحاكم وقضى الله عز وجل بكذا أي حكم به ويكون أيضاً بمعنى أمر قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ‏"‏ إنما معناه بلا خلاف أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ويكون أيضاً بمعنى أخبر قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقضينا إليه ذلك الأمر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ‏"‏ بمعنى أخبرناه أن دابرهم مقطوع بالصباح وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنا في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً ‏"‏ أي أخبرناهم بذلك ويكون أيضاً بمعنى أراد وهو قريب من معنى حكم قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ‏"‏ ومعنى ذلك حكم بكونه فكونه ومعنى القدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء تقول قدرت البناء تقديراً إذا رتبته وحددته قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وقدر فيها أقواتها ‏"‏ بمعنى رتب أقواتها وحددها وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا كل شيء خلقناه بقدر ‏"‏ يريد تعالى برتبة وحد فمعنى قضى وقدر حكم ورتب ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كذا وإلى وقت كذا فقط وبالله تعالى التوفيق‏.‏

الكلام في البدل

قال أبو محمد‏:‏ قال بعض القائلين بالاستطاعة مع الفعل إذا سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من الإيمان أم لا يستطيع فأجاب أن الكافر مستطيع للإيمان على البدل بمعنى أن لا يتمادى في الكفر لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ والذي يجب أن يجيب به هو الجواب الذي بينا صحته بحول الله تعالى وقوته في كلامنا في الاستطاعة وهو ان تقول هو مستطيع في ظاهر الأمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للجمع بين الإيمان والكفر ما دام كافراً وما دام لا يؤتيه الله عز وجل العون فإذا آتاه إياه تمت استطاعته وفعل ولا بد فإن قيل فهو مكلف مأمور قلنا نعم فإن قيل أهو عاجز عن ما هو مأمور به ومكلف أن يفعله قلنا وبالله التوفيق هو غير عاجز بظاهر بنيته لسلامة جوارحه وارتفاع الموانع وهو عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ما لم ينزل الله تعالى له العون فيتم ارتفاع العجز عنه ويوجد الفعل ولا بد وتقول أن العجز في اللغة إنما يقع على الممنوع بآفة على الجوارح أو بمانع ظاهر إلى الحواس والمأمور بالفعل ليس بظاهر أمره عاجزاً إذ لا آفة في جوارحه ولا مانع له ظاهراً وهو في الحقيقة عاجز عن الجمع بين الفعل وضده وبين الفعل وتركه وعن فعل ما لم يؤته الله تعالى عوناً عليه وعن تكذيب علم الله تعالى الذي لم يزل بأنه لا يفعل إلا ما سبق علمه تعالى في هذه حقيقة الجواب في هذا الباب والحمد لله رب العالمين فإن قيل فهو مختار لما يفعل قلنا نعم اختياراً صحيحاً لا مجازاً لأنه مريد لكونه منه محب له مؤثر على تركه وهذا معنى لفظة الاختيار على الحقيقة وليس مضطراً ولا مجبراً ولا مكروهاً لأن في هذه ألفاظ في اللغة لا تقع إلا على الكاره لما يكون منه في هذه الحال وقد يكون المرء مضطراً مختاراً مكرهاً في حالة واحدة كإنسان في رجله أكلة لا دواء له إلا بقطعها فيأمر أعوانه مختاراً لأمره إياهم بقطعها وبحسمها بالنار بعد القطع ويأمرهم بإمساكه وضبطه وأن لا يلتفتوا إلى صياحه ولا إلى أمره لهم بتركه إذا أحس الألم ويتوعدهم على التقصير في ذلك الضرب والنكال الشديد فيفعلون به ذلك فهو مختار لقطع رجله إذ لو كره ذلك كراهة تامة لم يكرهه أحد على ذلك وهو بلا شك كاره لقطعها مضطر إليه إذ لو وجد سبيلاً بوجه من الوجوه دون الموت إلى ترك قطعها لم يقطعها وهو مجبر مكره بالضبط من أعوانه حتى يتم القطع والحسم إذ لو لم يضبطوه ويعسروه ويقهروه ويكرهوه ويجبروه لم يمكن من قطعها البتة إنما أتينا بهذا لئلا ينكر الجاهلون أن يكون أحد يوجد مختاراً من وجه مكرهاً من وجه آخر عاجزاً من وجه مستطيع من آخر قادر من وجه ممنوعاً من آخر وبالله تعالى نتأيد‏.‏