الجزء الثالث - الكلام في التعديل والتجوير

قال أبو محمد رحمه الله‏:‏ هذا الباب هو أصل ضلالة المعتزلة نعوذ بالله من ذلك على أننا رأينا منهم من لا يرضى عن قولهم فيه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وذلك أن جمهورهم قالوا وجدنا من فعل الجور في الشاهد كان جائراً ومن فعل الظلم كان ظالماً ومن أعان فاعلاً على فعله ثم عاقبه عليه كان جائراً عابثاً قالوا والعدل من صفات الله تعالى والظلم والجور منفيان عنه قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما ربك بظلام للعبيد ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما ربك بظلام للعبيد ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‏"‏ وقال تعالى فما كان الله ليظلمهم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ لا ظلم اليوم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد علم المسلمون أن الله تعالى عدل لا يجور ولا يظلم ومن وصفه عز وجل بالظلم والجور فهو كافر ولكن ليس هذا على ما ظنه الجهال من أن عقولهم حاكمة على الله تعالى في أن لا يحسن منه إلا ما حسنت عقولهم وأنه يقبح منه تعالى ما قبحت عقولهم وهذا هو تشبيه مجرد لله تعالى بخلقه إذ حكموا عليه بأنه تعالى يحسن منه ما حسن منا ويقبح منه ما قبح منا ويحكم عليه في العقل بما يحكم علينا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا مذهب يلزم كل من قال لما كان الحي في الشاهد لا يكون إلا بحياة وجب أن يكون الباري تعالى حياً بحياة وليس بين القولين فرق وكلاهما لازم لمن التزم أحدهما وكلاهما ضلال وخطأ وإنما الحق هو أن كل ما فعله الله عز وجل أي شيء كان فهو منه عز وجل حق وعدل وحكمة وإن كان بعض ذلك منا جوراً وسفهاً وكل ما لم يفعله الله عز وجل فهو الظلم والباطل والعبث والتفاوت وأما أجراؤهم الحكم على البارئ تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض فضلال بين وقول سبق له أصل عند الدهرية وعند المنانية وعند البراهمة وهو أن الدهرية قالت لما وجدنا الحليم فيما بينا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة ووجدنا من فعله ما لا فائدة فيه فهو عابث هذا الشيء لا يعقل غيره قالوا ولما وجدنا في العالم ضراً وشراً وعبثاً وأقذاراً ودوداً وذباباً ومفسدين انتفى بذلك أن يكون له فاعل حكيم وقالت طائفة منهم مثل هذا سواء بسواء إلا أنهم زادوا فقالوا علمنا بذلك أن للعالم فاعلاً سفيهاً غير الباري تعالى وهو النفس وأن الباري الحكيم خلاها تفعل ذلك ليريها فساد ما تخيلته فإذا استبان ذلك لها أفسده الباري الحكيم تعالى حينئذ وأبطله ولم تعد النفس إلى فعل شيء بعدها‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ وأبطال هذا القول يثبت ما يبطل به قول المعتزلة سواء بسواء ولا فرق وقالت المنانية بمثل ما قالت الدهرية سواء بسواء إلا أنها قالت ومن خلق خلقاً ثم خلق من يضل ذلك فهو ظالم عابث ومن خلق خلقاً ثم سلط بعضهم على بعض وأغرى بين طائع خلقه فهو ظالم عابث قالوا فعلمنا أن خالق الشر وفاعله هو غير خالق الخير‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا نص قول المعتزلة إلا أنها زادت قبحاً بأن قالت أن الله تعالى لم يخلق من أفعال لا خيراً ولا شراً وأن خالق الأفعال الحسنة والقبيحة هو غير الله تعالى لكن كل أحد يخلق فعل نفسه ثم زادت تناقضاً فقالت أن خالق عنصر الشر هو إبليس ومردة الشياطين وفعله كل شر وخالق طباعهم على تضادها هو الله تعالى وقالت البراهمة أن من العبث وخلاف الحكمة ومن الجور البين أن يعرض الله تعالى لما يعلم انهم يعطبون عنده ويستحقون العذاب أن وقعوا فيه يريدون بذلك إبطال الرسالة والنبوات كلها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبالضرورة تعلم أنه لا فرق بين خلق الشر وبين خلق القوة التي لا يكون الشر إلا بها ولا بين ذلك وبين خلق من علم الله عز وجل أنه لا يفعل إلا الشر وبين خلق إبليس وأنظاره إلى يوم القيامة وتسليطه على إغواء العباد وإضلالهم وتقويته على ذلك وتركهم يضلهم إلا من عصم الله منهم فإن قالوا أن خلق الله تعالى إبليس وقوى الشر وفاعل الشر خير وعدل وحسن صدقوا وتركوا أصلهم الفاسد ولزمهم الرجوع إلى الحق في أن خلقه تعالى للشر والخير ولجميع أفعال عباده وتعذيبه من شاء منهم ممن لم يهده وإضلاله من أضله وهداه من هدى كل ذلك حق وعدل وحسن وإن أحكامنا غير جارية عليه لكن أحكامه جارية علينا وهذا هو الحق الذي لا يخفى إلا على من أضله الله تعالى نعوذ بالله من إضلاله لنا ولا فرق بين شيء مما ذكرناه في العقل البتة وبرهان ضروري‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ يقال لمن قال لا يجوز أن يفعل الله تعالى إلا ما هو حسن في العقل منا ولا أن يخلق ويفعل ما هو قبيح في العقل في ما بينا منا يا هؤلاء إنكم أخذتم الأمر من عند أنفسكم ثم عكستموه فمعظم غلطكم وإنما الواجب إذ أنتم مقرون بأن الله تعالى لم يزل واحداً وحده ليس معه خلق أصلاً ولا شيء موجود لا جسم ولا عرض ولا جوهر ولا عقل ولا معقول ولا سفه ولا غير ذلك ثم أقررتم بلا خلاف منكم انه خلق النفوس وأحدثها بعد ان لم تكن وخلق لها العقول وركبها في النفوس بعد ان لم تكن العقول البتة أن لا تحدثوا على الباري تعالى حكماً لازماً له من قبل بعض خلقه فليس في الجنون أفحش من هذا البتة ثم أخبرونا إذا كان الله وحده لا شيء موجود معه ففي أي شيء كانت صورة الحسن حسنة وصورة القبيح قبيحة وليس هنالك عقل أصلاً يكون فيه الحسن حسناً والقبيح قبيحاً ولا كانت هنالك نفس عاقلة أو غير عاقلة فيقبح عندها القبيح ويحسن الحسن فبأي شيء قام تحسين الحسن وتقبيح القبيح وهما عرضان لا بد لهما من حامل ولا حمل أصلاً ولا محمول ولا شيء حسن ولا شيء قبيح حتى أحدث الله تعالى النفوس وركب فيها العقول المخلوقة وقبح فيها على قولكم ما قبح وحسن فيها على قولكم ما حسن فإذ لا سبيل إلى أن يكون مع الباري تعالى في الأزل شيء موجود أصلاً قبيح ولا حسن ولا عقل يقبح فيه شيء أو يحسن فقد وجب يقيناً ألا يمتنع من قدرة الله تعالى وفعله شيء يحدثه لقبح فيه ووجب ألا يلزمه تعالى شيء لحسنه إذ لا قبح ولا حسن البتة فيما لم يزل فبالضرورة وجب أن ما هو الآن عندنا قبيح فإنه لم يقبح بلا أول بل كان لقبحه أول لم يكن موجوداً قبله فكيف أن يكون قبيحاً قبله وكذلك القول في الحسن ولا فرق ومن المحال الممتنع جملة أن يكون ممكناً أن يفعل الباري تعالى حينئذ شيئاً ثم يمتنع منه فعله بعد ذلك لأن هذا يوجب إما تبدل طبيعة والله تعالى منزه عن ذلك وأما حدوث حكم عليه فيكون تعالى متعبداً وهذا هو الكفر السخيف نعوذ بالله منه فإن قالوا لم يزل القبيح قبيحاً في علم الله عز وجل ولم يزل الحسن حسناً في علمه تعالى قلنا لهم هبكم أن هذا كما قلتم فعليكم في هذا حكمان مبطلان لقولكم الفاسد أحدهما أنكم جعلتم الحكم في ذلك لما في المعقول لا لما سبق في علم الله عز وجل فلم تجعلوا المنع من فعل ما هو قبيح عندكم ألا لأن العقول قبحته فأخطأتم في هذا والثاني أنه تعالى أيضاً لم يزل يعلم أن الذي يموت مؤمناً فإنه لا يكفر ولم يزل تعالى يعلم أن الذي يموت كافراً لا يؤمن فلم جوزتم قدرته على إحالة ما علم من ذلك وتبديله ولم تجوزوا قدرته تعالى على إحالة ما علم حسناً إلى القبح وإحالة ما علم قبيحاً إلى الحسن ولا فرق بين الأمرين أصلاً فإذا ثبت ضرورة أنه لا قبح لعينه ولا حسن لعينه البتة وانه لا قبيح إلا ما حكم الله تعالى بأنه قبيح ولا حسن إلا ما حكم بأنه حسن ولا مزيد وأيضاً فإن دعواكم أن القبيح لم يزل قبيحاً في علم الله تعالى ما دليلكم على هذا بل لعله تعالى لم يزل عليماً بأن أمر كذا يكون حسناً برهة من الدهر ثم يقبحه فيصير قبيحاً إذا قبحه لا قبل ذلك كما فعل تعالى بجميع الملل المنسوخة وهذا أصح من قولكم لظهور براهين هذا القول وبالله التوفيق ولم يزل سبحانه وتعالى عليماً أن عقد الكفر والقول به قبيح من العبد إذاً فعلهما معتقداً لهما لأن الله قبحهما لا لأنهما حركة أو عرض في النفس وهذا هو الحق لظهور براهين هذا أيضاً لا لأن ذلك قبيح لعينه ويقال لهم أيضاً أخبرونا من حسن الحسن في العقول ومن قبح القبح في العقول فإن قالوا الله عز وجل قلنا لهم أفكان الله تعالى قادر على عكس تلك الرتبة إذ رتبها على أن يرتبها بخلاف ما رتبها عليه فيحسن فيها القبيح ويقبح فيها الحسن فإن قالوا نعم أوجبوا أنه لم يقبح شيء إلا بعد ان حكم الله تعالى بقبحه ولم يحسن شيء إلا بعد ان حكم الله تعالى بحسنه وأنه كان له تعالى أن يفعل بخلاف ما فعل وله ذلك الآن وأبداً وبطل أن يكون تعالى متعبداً لنفسه وموجباً عليه ما يكون ظالماً مذموماً إن خالفه وإن قالوا لا يوصف تعالى بالقدرة على ذلك عجزوا ربهم تعالى ولزمهم القول بمثل قول علي الأسواري من أنه تعالى لا يقدر على غير ما فعل فحكم هذا الردي الدين والعقل بأنه أقدر من ربه تعالى وأقوى لأنه عند نفسه الخسيسة يقدر على ما فعل وعلى ما لم يفعل وربه تعالى لا يقدر إلا على ما فعل ولو علم المجنون أنه جعل ربه من الجمادات المضطرة إلى ما يبدو منها ولا يمكن أن يظهر منها غير ما يظهر لسخنت عينه ولطال عويله على عظيم مصيبته نعوذ بالله من الخذلان ومن عظم ما حل بالقدرية المتنطعين بالجهل والعمى والحمد لله على توفيقه إيانا حمداً كثيراً كما هو أهله‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويقال لهم هبكم شنعتم في القبيح بأنه قبيح فلم نفيتم عن الله عز وجل خلق الخير كله وخلق الحسن كله فقلتم لم يخلق الله تعالى الإيمان ولا الإسلام ولا الصلاة ولا الزكاة ولا النية الحسنة ولا اعتقاد الخير ولا إيتاء الزكاة ولا الصدقة ولا البر لأن خلق هذا قبيح أم كيف الأمر فبأن تمويهكم بذكر خلق الشر وأنتم قد استوى عندكم الخير والشر في أن الله تعالى لم قال أبو محمد‏:‏ وقرأت في مسائل لأبي هشام عبد السلام ابن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي رئيس المعتزلة وابن رئيسهم كلاماً له يردد فيه كثيراً دون حياء ولا رقبة يجب على الله أن يفعل كذا كأنه المجنون يخبر عن نفسه أو عن رجل من عرض الناس فليت شعري أما كان له عقل أو حس يسائل به نفسه فيقول ليت شعري من أوجب على الله تعالى هذا الذي قضى بوجوبه عليه ولا بد لكل وجوب وإيجاب من موجب ضرورة وإلا كان يكون فعلاً لا فاعل له وهذا أكفر مما أجازه فمن هذا الموجب على الله تعالى حكماً ما وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون أوجبه الله عليه بعض خلقه أما العقل وأما العاقل فإن كان هذا فقد رفع القلم عنه وأف لكل عقل يقوم فيه أنه حاكم على خالقه ومحدثه بعد أن لم يكن ومرتبه على ما هو عليه ومصرفه على ما يشاء وإما أن يكون تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب له على نفسه فإن قال بهذا قيل له فقد كان غير واجب عليه حتى أوجبه فإذ هو كذلك فقد كان مباحاً له أن يعذب من لم يقدره على ترك ما عذبه عليه وعلى خلاف سائر ما ذكرت أنه أوجبه على نفسه وإذا أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن واجباً عليه فممكن له أن يسقط ذلك الوجوب عن نفسه وإما أن يكون تعالى لم يزل موجباً ذلك على نفسه فإن قال بهذا لزمته عظيمتان مخرجتان له عن الإسلام وعن جميع الشرائع وهما أن الباري تعالى لم يزل فاعلاً ولم يزل فعله معه لأن الإيجاب فعل ومن لم يزل موجباً فلم يزل فاعلاً وهذا قول أهل الدهر نفسه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا بمانع بين جميع المعتزلة في إطلاق هذا الجنون من أنه يجب على الله أن يفعل كذا ويلزمه ان يفعل كذا فأعجبوا لهذا الكفر المحض وبهذا يلوح بطلان ما يتأولونه في قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ كتب على نفسه الرحمة ‏"‏ وقوله علي السلام حق العباد على الله أن لا يعذبهم يعني إذا قالوا لا إله إلا الله وحق على الله أن يسقيه من طينة الخبال يعني عن شارب الخمر وإن كل هذا إنما هو أن الله تعالى قضى بذلك وجعله حتماً واجباً وكونه حقاً فوجب ذلك منه تعالى لا عليه فأبدلت من منَ على وحروف الجر يبدل بعضها من بعض ثم نقول لهم من خلق إبليس ومردة الشياطين والخمر والخنازير والحجارة المعقودة والميسر والأصنام والأزلام وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب فمن قولهم وقول كل مسلم أن الله تعالى خالق هذا كله فلنسألهم أشيء حسن هو كل ذلك أم رجس وقبيح وشر فإن قالوا بل رجس وقبيح ونجس وشر وفسق صدقوا وأقروا أنه تعالى خلق الأنجاس والرجس والشر والفسق وما ليس حسناً فإن قالوا بل هي حسان في إضافة خلقها إلى الله تعالى وهي رجس ونجس وشر وفسق تسمية الله تعالى لها بذلك قلنا صدقتم وهكذا نقول أن الكفر والمعاصي هي في أنها أعراض وحركات خلق لله تعالى حسن من خلق الله تعالى كل ذلك وهي من العصاة بإضافتها إليهم قبائح ورجس وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أو لحم خنزير فإنه رجس ‏"‏ فليخبرونا بأي ذنب كان من هذه الأشياء وجب أن يسخطها الله تعالى وأن يرجسها ويجعل غيرها طيبات هل هاهنا إلا أنه تعالى فعل ما يشاء وأي فرق بين أن يسخط ما شاء فيلعنه مما لا يعقل ويرضى عما شاء من ذلك فيعلي قدره ويأمر بتعظيمه كناقة صالح والبيت الحرام وبين أن يفعل ذلك أيضاً فيمن يعقل فيقرب بعضاً كما شاء ويبعد بعضاً كما شاء وهذا ما لا سبيل إلى وجود الفرق فيه أبداً ثم نسألهم هل حابى الله تعالى من خلقه في أرض الإسلام بحيث لا يلفي إلا داعياً إلى الدين محسناً له على من خلقه في أرض الزنج والصين والروم بحيث لا يسمع إلا ذاماً لدين المسلمين مبطلاً له وصاداً عنه وهل رأوا فظ وسمعوا بمن خرج من هذه البلاد طالباً لصحة البرهان على الدين فمن أنكر هذا كابر العيان والحس ومن أذعن لها ترك قول المعتزلة الفاسد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والقول الصحيح هو أن العقل الصحيح يعرف بصحته ضرورة أن الله تعالى حاكم على كل ما دونه وأنه تعالى غير محكوم عليه وأن كل ما سواه تعالى فمخلوق له عز وجل كان جوهراً حاملاً أو عرضاً محمولاً لا خالق سواه وأنه يعذب من يشاء أن يعذبه ويرحم من يشاء أن يرحمه وأنه لا يلزم أحداً إلا ما ألزمه الله عز وجل ولا قبيح إلا ما قبح الله ولا حسن إلا ما حسن الله وأنه لا يلزم لأحد على الله تعالى حق ولا حجة ولله تعالى على كل من دونه وما دونه الحق الواجب والحجة البالغة لو عذب المطيعين والملائكة والأنبياء في النار مخلدين لكان ذلك له ولكان عدلاً وحقاً منه ولو نعم إبليس والكفار في الجنة مخلدين كان ذلك له وكان حقاً وعدلاً منه وإن كل ذلك إذ أباه الله تعالى وأخبر أنه لا يفعله صار باطلاً وجوراً وظلماً وأنه لا يهتدي أحد إلا من هداه الله عز وجل ولا يضل أحد إلا أضله الله عز وجل ولا يكون في العالم إلا ما أراده الله عز وجل كونه من خير أو شر وغير ذلك وما لم يرد عز وجل كونه فلا يكون البتة وبالله تعالى التوفيق ونحن نجد الحيوان لا يسمى عدوان بعضها على بعض قبيحاً ولا ظلماً ولا يلام على ذلك ولا يلام على من ربى شيئاً منها على العدوان عليها فلو كان هذا النوع قبيحاً لعينه وظلماً لعينه لقبح متى وجد فلما لم يكن كذلك صح أنه لا يقبح شيء لعينه البتة لكن إذا قبحه الله عز وجل فقط فإذا قد بطل قولهم بالبرهان الكلي الجامع لأصلهم الفاسد فلنقل بحول الله تعالى وقوته في إبطال أجزاء مسائلهم وبالله تعالى نستعين فأول ذلك أن نسألهم فنقول عرفونا ما هذا القبيح في العقل أعلى الإطلاق فقال قائلون من زعمائهم منهم الحارث بن علي الوراق البغدادي وعبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي وغيرهما أن كل شيء حسن بوجه ما قلت يمتنع وقوع مثله من الله تعالى لأنه حينئذ يكون حسناً إذ ليس قبيحاً البتة على كل حال وأما ما كان قبيحاً على كل حال فلا يحسن البتة فهذا منفي عن الله عز وجل أبداً قالوا ومن القبيح على كل حال أن تفعل بغيرك وما لا تريد أن يفعل بك وتكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وظن هؤلاء المبطلون إذ أتوا بهذه الحماقة أنهم أغربوا وقرطسوا وهم بالحقيقة وقد هذوا وهدروا وهذا عين الخطاء وإنما قبح بعض هذا النوع إذ قبحه الله عز وجل وحسن بعضه إذ حسنه الله عز وجل والعجب من مباهتتهم في دعواهم ان المحاباة ظلم ولا ندري في أي شريعة أم في أي عقل وجدوا أن المحاباة ظلم وأن الله تعالى قد أباحها إلا حيث شاء وذلك أن للرجل أن ينكح امرأتين وثلاثاً وأربعاً من الزوجات وذلك له مباح حسن وأن يطأ من إمائه أي عدد أحب وذلك له مباح حسن ولا يحل للمرأة أن تنكح غير واحد ولا يكون عبدها وهذا منه حسن وبالضرورة ندري أن في قلوبهن من الغيرة كما في قلوبنا وهذا محظور في شريعة غيرنا والنفار منه موجود في بعض الحيوان بالطبع والحر المسلم ملكه أن يستعبد أخاه المسلم ولعله عند الله تعالى خير من سيده في دينه وفي أخلاقه وقنوته ويبيعه ويهبه ويستخدمه ولا يجوز ان يستعبده هو أحد لا عبده ذلك ولا غيره وهذا منه حسن وقد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه المقدسة ما أكرمه الله تعالى به من أن لا ينكح أحد من بعده من نسائه أمهاتنا رضوان الله عليهن وأحب هو عليه السلام نكاح من نكح من النساء بعد أزواجهن وكل ذلك حسن جميل الصواب ولو أحب ذلك غيره كان مخطي الإرادة قبيحاً ظالماً ومثل هذا أن تتبع كثير جداً إذ هو فاش في العالم وفي أكثر الشريعة فبطل هذا القول الفاسد منهم وقد نص الله تعالى على إباحة ما ليس عدلاً عند المعتزلة بل على الإطلاق وعلى المحاباة حيث شاء وكل ذلك عدل منه قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ‏"‏ فأباح تعالى لنا أن لا نعدل بين ما ملكت أيماننا وأباح لنا محاباة من شئنا منهن فصح أن لا عدل إلا ما سماه الله عدلاً فقط وإن كل شيء فعله الله فهو العدل فقط لا عدل سوى ذلك وكذلك وجدنا الله تعالى قد أعطى الابن الذكر من الميراث حظين وإن كان غنياً مكتسباً وأعطى البنت حظاً واحداً وإن كانت صغيرة فقيرة فبطل قول المعتزلة وصح أن الله تعالى يحابي من يشاء ويمنع من يشاء وإن هذا هو العدل لا ما تظنه المعتزلة عدلاً بجهلها وضعف عقولها وأما تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه فإنما قبح ذلك فيما بيننا لأن الله تعالى حرم ذلك علينا فقط وقد علمت المعتزلة كثرة عدد من يخالفهم في أن هذا لا يقبح من الله تعالى الذي لا أمر فوقه ولا يلزمه حكم عقولنا وما دعواهم على مخالفيهم في هذه المسألة أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إلا كدعوى المجسم عليهم أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إذ أجازوا وجود الفعل ممن ليس جسماً وإذ أجازوا حياً بلا حياة وعالماً لا بعلم‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ وكلتا الدعويين على العقول كاذبة وقد بينا في ما سلف من كتابنا هذا غلط من ادعى في العقل ما ليس فيه وبينا أن العقل لا يحكم به على الله الذي خلق العقل ورتبه على ما هو به ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق وقال بعض المعتزلة أن من القبيح بكل حال والمحظور في العقل بكل وجه كفر نعمة المنعم وعقوق الأب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا غاية الخطأ لأن العاقل المميز بالأمور إذا تدبرها علم يقيناً أنه لا منعم على أحد إلا الله وحده لا شريك له الذي أوجده من عدم ثم جعل له الحواس والتمييز وسخر له ما في الأرض و كثيراً مما في السماء وخوله المال وإن كل منعم دون الله عز وجل فإن كان منعماً بمال فإنما أعطى من مال الله عز وجل فالنعمة لله عز وجل دونه وإن كان ممرضاً أو معتقاً أو خائفاً من مكروه فإنما صرف في ذلك كلما وهبه الله عز وجل من الكلام والقوة والحواس والأعضاء وإنما تصرف بكل ذلك في ملك الله عز وجل وفيما هو تعالى أولى به منه فالنعمة لله عز وجل دونه فالله تعالى هو ولي كل نعمة فإذ لا شك في ذلك فلا منعم إلا من سماه الله تعالى منعماً ولا يجب شكر منعم إلا بعد أن يوجب لله تعالى شكره فحينئذ يجب وإلا فلا ويكون حينئذ من لم يشكره عاصياً فاسقاً أتى كبيرة لخلاف أمر الله تعالى بذلك فقط ولا فرق بين تولدنا من مني أبوينا وبين تولدنا من التراب الأرضي ولا خلاف في أنه لا يلزمنا بر التراب ولا له علينا حق ليس ذلك إلا لأن الله تعالى لم يجعل له علينا حقاً وقد يرضع الصغير شاة فلا يجب لها عليه حق لأن الله تعالى لم يجعله لها وجعله للأبوين وإن كانا كافرين مجنونين ولم يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عنا بلذاتهما ليس هاهنا إلا أمر الله تعالى فقط وبرهان آخر أن امرأ لو زنى بامرأة عالماً بتحريم ذلك أو غير عالم إلا أنه ممل لا يلحق به الولد المخلوق من نطفته النزلة من ذلك الوطء فإن بره لا يلزم ذلك الولد أصلاً ويلزمه بر أمه لان الله تعالى أمره بذلك لها ولم يأمره بذلك في الذي تولد من نطفته فقط ولا فرق في العقل بين الرجل والمرأة في ذلك ولا فرق في المعقول وفي الولادة تولد الجنين من نطفة الواطئ لأمه بين أولاد الزنا وأولاد الرشدة لكن لما ألزم الله تعالى أولاد الرشدة المتولدين عن عقد نكاح أو ملك يمين فاسدين أو صحيحين بر آمائهم وشكرهم وجعل عقوقهم من الكبائر لزمنا ذلك ولما لم يلزم ذلك أولاد الزنية لم يلزمهم وقد علمنا نحن وهم يقيناً أن رجلين مسلمين لو خرجا في سفر فأغار أحدهما على قرية من قرى دار الحرب فقتل كل رجل بالغ فيها وأخذ جميع أموالهم وسبى ذراريهم ثم خمسن ذلك بحكم الإمام العدل ووقع في حظه أطفال قد تولى هو قتل آبائهم وسبى أمهاتهم ووقعن أيضاً بالقسمة الصحيحة في حصته فنكحهن وصرف أولادهن في كنس حشوشه وخدمة دوابه وحرثه وحصاده ولم يكلفهم من ذلك إلا ما يطيقون وكساهم وأنفق عليهم بالمعروف كما أمر الله تعالى فإن حقه واجب عليهم بلا خلاف ولو أعتقهم فإنه منعماً عليهم وشكره فرض عليهم وكذلك لو فعل ذلك بمن اشتراه هو مسلم بعد وأغار الثاني على قرية للمسلمين فأخذ صبياناً من صبيانهم فاسترقهم فقط ولم يقتل أحداً ولا سبى لهم حرمة فربى الصبيان أحسن تربية وكانوا في قرية شقاء وجهد وتعب وشظف عيش وسوء حال فرفه معايشهم وعلمهم العلم والإسلام وخولهم المال ثم أعتقهم فلا خلاف في أنه لا حق له عليهم وإن دمه وعداوته فرض عليهم وإنه لو وطئ امرأة منهن وهو محصن وكان أحدهم قد ولي حكماً للزمه شدخ رأسه بالحجارة حتى يموت أفلا يتبين لكل ذي عقل من أهل الإسلام إنه لا محسن ولا منعم إلا الله تعالى وحده لا شريك له إلا من سماه الله تعالى محسناً أو منعماً ولا شكر لازماً لأحد على أحد إلا من ألزمه الله تعالى شكره ولا حق لأحد على أحد إلا من جعل الله تعالى له حقاً فيجب كل ذلك إذ أوجبه الله تعالى وإلا فلا وقد أجمعوا معنا على أن من أفاض إحسان الدنيا على إنسان أفاضه بوجه حرمه الله تعالى فإنه لا يلزمه شكره و إن من أحسن إلى آخر غاية الإحسان فشكره بأن أعناه في دنياه بما لا يجوز في الدين فإنه مسيء إليه ظالم فصح يقيناً أنه لا يجب شيء ولا يحسن شيء ولا يقبح شيء إلا ما أوجبه الله تعالى في الدين أو حسنه الله تعالى في الدين أو قبحه الله في الدين فقط وبالله تعالى نتأيد وقال بعضهم الكذب قبيح على كل حال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كالأول وقد أجمعوا معنا على بطلان هذا القول وعلى تحسين الكذب في مواضع خمسة إذ حسنه الله تعالى وذلك نحو إنسان مسلم مستتر من أمام ظالم يظلمه ويطلبه فسأل ذلك الظالم هذا الذي استتر عنده المطلوب وسأل أيضاً كل من عنده خبره وعن ماله فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه أن صدقه ودله على موضعه وعلى ماله فإنه عاص لله عز وجل فاسق ظالم فاعل فعلاً قبيحاً وإنه لو كذبه وقال له لا أدري وكان مكانه ولا مكان ماله فإنه مأجور محسن فاعل فعلاً حسناً وكذلك كذب الرجل لامرأته فيما يستجر به مودتها وحسن صحبتها والكذب في حرب المشركين فيما يوجد به السبيل إلى إهلاكهم وتخليص المسلمين منهم فصح أنه قبح الكذب حيث قبحه الله عز وجل ولولا ذلك ما كان قبيحاً بالعقل أصلاً إذ ما وجب بضرورة العقل فمحال أن يستحيل في هذا العالم البتة عما رتبه الله عز وجل في وجود العقل إياه كذلك فصح كذبهم على العقول وقال بعضهم الظلم قبيح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كالأول ونسألهم ما معنى الظلم فلا يجدون إلا أن يقولوا أنه قتل الناس وأخذ أموالهم وآذاهم وقتل المرء نفسه أو التشويه بها أو إباحة حرمه للناس ينكحونهن وكل هذا فليس شيء منه قبيحاً لعينه وقد أباح الله عز وجل أخذ أموال قوم بخراسان من أجل ابن عمهم قتل بالأندلس رجلاً خطأ لم يرد قتله لكن رمى صيداً مباحاً له أو رمى كافراً في الحرب فصادف المسلم السهم وهو خارج من خلف جبل فمات ووجدناه تعالى قد أباح دم من زنى وهو محصن ولم يطئ امرأة قط إلا زوجة له عجوزاً شعرها سوداء وطئها مرة ثم ماتت ولا يجد من أن ينكح ولا من أن يتسرى وهو شاب محتاج إلى النساء وحرم دم شيخ زنى وله ماية جارية كالنجوم حسناً إلا أنه لم يكن له قط زوجة وأما قتل المرء نفسه فقد حسن الله تعالى تعريض المرء نفسه للقتل في سبيل الله عز وجل وصدمة الجموع التي يوقن أنه مقتول في فعله ذلك وقد أمر عز وجل من قبلنا بقتل نفسه قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ‏"‏ ولو أمرنا عز وجل بمثل ذلك لكان حسناً كما كان حسناً أمره عز وجل بذلك بني إسرائيل وأما التشويه بالنفس فإن الختان والإحرام والركوع والسجود لولا أمر الله تعالى بذلك وتحسينه إياه لكان لا معنى له ولكان على أصولهم تشويهاً ودليل ذلك أن امرأ من الناس لو قام ثم وضع رأسه في الأرض في غير صلاة بحضرة الناس لكان عابثاً بلا شك مقطوعاً عليه بالهوس وكذلك لو تجرد المرء من ثيابه أمام الجموع في غير حج ولا عمرة وكشف رأسه ورمى بالحصى وطاف ببيت مهرولاً مستديراً به لكان مجنوناً بلا شك لاسيما أن امتنع من قتل قملة ومن فلا رأسه ومن قص أظافره وشاربه لكن لما أمر الله عز وجل بما أمر به من ذلك كان فرضاً واجباً وحسناً وكان تركه قبيحاً وأنكره كفراً وأما أباح المرء حرمه للنكاح فهذا أعجب ما أتوا به أما علموا أن الله تعالى خلى بين عبده وإمائه يفجر بعضه ببعض وهو قادر على منعهم من ذلك فلم يفعل بل قوى آلاتهم وقوى شهواتهم على ذلك بإقرار المعتزلة فهذا من الله حسن ومن عباده قبيح لأن الله قبحه ولا مزيد ولو حسنه تعالى لحسن أما شاهدوا إنكاح الرجال بناتهم من رجال ثم يطلق الرجل منهم المرأة فمن آخر ثم آخر وهكذا ما أمكنهم وكذلك إن مات عنها فأي فرق في المعقول بين إباحة وطئها بلفظ زوجتك وأو أنكحتك وبين حظر وطئها بألا طلاق عليه بلفظة قم فطاها فهل هاهنا قبيح إلا ما قبحه الله عز وجل أو حسن إلا ما حسن الله عز وجل وقال بعضهم الكفر قبيح على كل حال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كالأول وما قبح الكفر إلا لأن الله قبحه ونهى عنه ولولا ذلك ما قبح وقد أباح الله عز وجل كلمة الكفر عند التقية وأباح بها الدم في غير التقية ولو أن أمرؤ اعتقد أن الخمر حرام قبل أن ينزل تحريمها لكان كافراً ولكان ذلك منه كفراً إن كان عالماً بإباحة الرسول صلى الله عليه ويلم ثم صار ذلك الكفر إيمان وصار الآن من اعتقد تحليلها كافراً وصار اعتقاد تحليلها كفراً فصح أن لا كفر إلا ما سماه الله تعالى كفراً ولا إيماناً إلا ما سماه إيماناً وأن الكفر لا يقبح إلا بعد أن قبحه الله عز وجل ولا يحسن الإيمان إلا بعد أن حسنه الله عز وجل فبطل كل ما قالوه في الجور والكفر والظلم وصح أنه لا ظالم إلا ما نهى الله عنه ولا جور إلا ما كان كذلك ولا عدل إلا ما أمر الله تعالى به أو إباحة أي شيء كان وبالله تعالى التوفيق فإذ هذا كما ذكرنا فقد صح أنه لا ظلم في شيء من فعل الباري تعالى ولو أنه تعالى عذب من لم يقدره على ما أمر به من طاعته لما كان ذلك ظلماً إذ لم يسميه تعالى ظلماً وكذلك ليس ظلماٍ خلقه تعالى للأفعال التي هي من عباده عز وجل وكفر وظلم وجور لأنه لا آمر عليه تعالى ولا ناهياً بل الأمر أمره والملك ملكه وقالوا تكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه قبيح في العقول جملة لا يحسن بوجه من الوجوه فيما بيننا فلا يحسن من الباري تعالى أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ نسي هؤلاء القوم مالا يجب أن ينسى ويقال لهم أليس قول القائل فيما بيننا اعبدوني اسجدوا لي قبحاً لا يحسن بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال فلا بد من نعم فيقال لهم أوليس هذا القول من الله تعالى حسناً وحقاً فلا بد من نعم فإن قالوا إنما قبح ذلك منا لأننا لا نستحقه قيل لهم وكذلك إنما قبح منا تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه لأننا لا نستحق هذه الصفة وأي شيء أتوا به من الفرق فهو راجع عليهم في تكليف ما لا يطاق ولا فرق وكذلك الممتن بإحسانه الجبار المتكبر ذو الكبرياء قبيح في ما بيننا على كل حال هو من الله تعالى حسن وحق وقد سمى نفسه الجبار المتكبر وأخبر أن له كبرياء وهو تعالى يمن بإحسانه فإن قالوا حسن ذلك منه لأن كل خلقه قيل لهم وكذلك حسن منه تكليف ما لا يستطيع ثم تعذيبه لأن كل خلقه وكذلك في ما بينا من عذب حيواناً بالنتف والضرب ثم أحسن علفه ورفهه فهو قبيح على كل وجه وفاعله عابث وهم يقولون أن الباري تعالى أباح ذلك الحيوان من أكلها وذبحها ثم يعوضها على ذلك وهذا منه عز وجل حسن ألا أن يلجؤا إلى أنه تعالى لا يقدر على تعويض الحيوان إلا بعد إيلامها وتعذيبها فهذا أقبح قول وأبينه كذباً وأوضحه نخبة وأتمه كفراً وأذمه للباري تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا إن إيلام الحيوان قد يحسن فيما بيننا مثل أن يسقي الإنسان من يحب ماء الأدوية الكريهة ويحجمه ويكويه ليوصله بذلك إلى منافع لولا هذا المكروه لم يكن ليصل إليها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه لم ينفكوا به مما سألهم عنه أصحابنا في هذه المسألة ونحن لم نسألهم عمن لا يقدر على نفعه إلا بعد الأذى الذي هو أقل من النفع الذي يصل إليه بعد ذلك الأذى وإنما سألناهم عمن يقدر على نفعه دون أن يبتديه بالأذى ثم لا ينفعه إلا حتى يؤذيه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكذلك تكليف من يدري المرء أنه لا يطيقه وأنه إذا لم يطقه عذبه قبيح فيما بيننا فقال قائل منهم إن هذا قد يحسن فيما بيننا وذلك أن يكون المرء يريد أن يقرر عند صديقه معصية عبده له فيأمره وهو يدري انه لا يطيعه فإن نهيه له حسن‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كالأول ولا فرق ولم نسألهم عمن لم يقدر على تعريف صديقه معصية غلامه له إلا بتكليفه أمامه مالا يطيعه فيه ولا عمن لا يقدر على منع العاصي له بأكثر من النهي وإنما نسألهم عمن لا منفعة له في أن يعلم زيد معصية غلامه له وعمن يقدر على أن يعرف زيداً بذلك ويقرره عنده بغير أن يأمر من لا يطيعه وعمن يقدر على منعه من المعصية فلا يفعل ذلك إلا أن يعجزوا ربهم كما ذكرنا فهذا مع أنه كفر فهو أيضاً كذب ظاهر لأنه تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم لوردوا لعادوا لما نهوا عنه فتقرر هذا عندنا تقرراً لو رأينا ذلك عياناً ما زادنا علماً بصحته وكذلك ما شاهدنا قوماً آخرين أرادوا ضروباً من المعاصي فحال الله تعالى بينهم وبينها بضروب من ألحوايل وأطلق آخرين ولم يحل بينهم وبينها بل قوي الدواعي لها ورفع الموانع عنها جملة حتى ارتكبوها فلاح كذب المعتزلة وعظيم إقدامهم على الافتراء على الله تعالى وشدة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وقوة جهلهم وتناقضهم نعوذ بالله من الخذلان ثم بعد هذا كله فأي منفعة لنا في تعريفنا أن فرعون يعصي ولا يؤمن وما الذي ضر الأطفال إذا ماتوا قبل أن يعرفوا من أطاع ومن عصى ونسألهم عمن أعطى آخر سيوفاً وخناجر وعتلاً للنقب وكل ذلك يصلح للجهاد ولقطع الطريق والتلصص وهو يدري أنه لا يستعمل شيئاً من ذلك في الجهاد إلا في قطع الطريق والتلصص وعمن مكن آخر من خمر وامرأة عاهرة وبغاء وأخلى له منزلاً مع كل ذلك أليس عابثاً ظالماً بلا خلاف فلا بد من نعم ونحن وهم نعلم أن الله عز وجل وهب لجميع الناس القوة التي بها عصوا وهو يدري أنهم يعصونه بها وخلق الخمر وبثها بين أيديهم ولم يحل بينهم وبينها وليس ظالماً ولا عابثاً فإن عجزوه تعالى عن المنع من ذلك بلغوا الغاية من الكفر فإن من عجز نفسه منا عن منع الخمر من شاربها وهو يقدر على ذلك لفي غاية الضعف والمهانة أو مريداً لكون ذلك كما شاء لا معقب لحكمه وهذا قولنا لا قولهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فانقطعوا عند هذه ولم يكن لهم جواب إلا أن بعضهم قال إنما قبح ذلك منا لجهلنا بالمصالح ولعجزنا عن التعويض ولأن ذلك محظور وهذا محظور علينا ولو أن امرءاً له منا عبيد وقد صح عنده بأخبار النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لا يؤمنون أبداً فإن كسوتهم وإطعامهم مباح له‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا عليهم لا لهم وإقراراً منهم بأنه إنما قبح ذلك منا لنه محرم علينا وكذلك كسوة العبيد الذين يوقن أنهم لا يؤمنون وإنما حسن ذلك لأننا مأمورون بالإحسان إلى العبيد وإن كانوا كفاراً ولو فعلنا بأهل دار الحرب لكنا عصاة لأننا نهينا عن ذلك ليس ها هنا شيء يقبح ولا يحسن إلا ما أمر الله تعالى فقط وأما قولهم أن ذلك قبح منا لجهلنا بالمصالح فليقنعوا بهذا فمن أجابهم بهذا بعينه في الفرق بين حسن تكليف الله تعالى ما لا يطاق وتعذيبه عليه منه وقبح ذلك منا وإنه إنما قبح منا لجهلنا بالمصالح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما نحن فكلا الجوابين عندنا فاسد ولا مصلحة فيما أدى إلى النار والخلود فيها بلا نهاية ولكنا نقول قبح منا ما نهانا الله عنه وحسن منا ما أمرنا به وكل ما فعله ربنا تعالى الذي لا آمر فوقه فهو عدل وحسن وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وسألهم أصحابنا فقالوا إن المعهود بيننا أن الحكيم لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة ومن فعل لغير ذلك فهو سفيه والباري تعالى يفعل لغير اجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة وهو حكيم‏.‏

فقالت طائفة من المعتزلة أن الباري تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم وقالت طائفة منهم لم يكن الحكيم في ما بيننا حكيماً لأنه يفعل لاجتلاب المنافع ودفع المضار لأنه قد يفعل ذلك كل ملتذ وكل متشف وإن لم يكن حكيما وإنما سمي الحكيم حكيما لإحكامه عمله‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذا ليس بشيء لأن من الحيوان ما يحكم عمله مثل الخطاف والعنكبوت والنحل ودود القز ولا يسمى شيء من ذلك حكيما ولكن إنما سمي الحكيم حكيما على الحقيقة لالتزامه الفضائل واجتنابه الرذائل فهذا هو العقل والحكمة المسمى فاعله حكيماً عاقلاً وهكذا هو في الشريعة لأن جميع الفضائل إنما هي طاعات الله عز وجل والرذائل إنما هي معاصيه فلا حكيم إلا من أطاع الله عز وجل واجتنب معاصيه وعمل ما أمره ربه عز وجل وليس من أجل هذا يسمى الباري حكيماً إنما سمي حكيماً لأنه سمى نفسه حكيماً فقط ولو لم يسمي نفسه حكيماً ما سميناه حكيماً كما لم نسمه عاقلاً إذ لم يسم بذلك ثم نقول لهم وأما قولكم إنما سمي الله حكيماً لفعله الحكمة فأنتم مقرون أنه أعطى الكفار قوة الكفر ولا يسمى مع ذلك مقوياً على الكفر وأما من قال منهم أنه تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم فكلام فاسد إذا قيل على عمومه لأن كل مستضر يفعله في دنياه وأخراه لم يصرف الله تعالى عنه تلك المضرة وقد كان قادراً على صرفها عنه إلا أن يعجزوه عن ذلك فيكفروا وسألهم أصحابنا فقالوا إذا كان الله عز وجل لا يفعل إلا ما هو عدل بيننا فلم خلق من يدري أنه يكفر به وأنه سيخلده بين أطباق النيران أبداً فأجابوا عن هذا بأجوبة فمن أظرفها أن كثيراً منهم قالوا لو لم يخلق من يكفر به ويخلده في نار جهنم لما استحق العذاب أحد ولا دخل النار أحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وتكفي من الدلالة على ضعف عقل هذا الجاهل هذا الجواب ونقول له ذلك ما كنا نبغي وهل الخير كله على ما بيننا إلا أن لا يعذب أحد بالنار وهل الحكمة المعهودة بيننا والعدل الذي لا عدل عندنا سواه إلا نجاة الناس كلهم من الأذى واجتماعهم في النعيم الدائم ولكن المعتزلة قوم لا يعقلون وأجاب بعضهم في هذا بأن قال لو كان هذا لسلم الجميع من اللوم ولكان لا شيء أوضع ولا أخس من العقل لأن الذي لا عقل له سالم من العذاب واللوم والأمم كلها مجمعة على فضل العقل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لو عرف هذا الجاهل معنى العقل لم يجب بهذا السخف لأن العقل على الحقيقة إنما هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي وما عدا هذا فليس عقلاً بل هو سخف وحمق قال الله عز وجل حكاية عن الكفار أنهم قالوا‏:‏ ‏"‏ لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ‏"‏ ثم صدقهم الله عز وجل في هذا فقال‏:‏ ‏"‏ فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ‏"‏ فصدق الله من عصاه أنه لا يعقل ثم نقول لهم نعم لا منزلة أخس ولا أوضع ولا أسقط من منزلة وموهبة أدت إلى الخلود في النيران عقلاً كانت أو غير عقل على قولكم في العقل لو كان كون الإنسان حشرة أو دودة أو كلباً كان أحظى له وأسلم وأفضل عاجلاً وآجلاً وأحب إلى كل ذي عقل صحيح وتمييز غير مدخول وإذا كان عند هؤلاء القوم العقل الموهوب وبالاً على صاحبه وسبباً إلى تكليفه أموراً لم يأت بها فاستحق النار فلا شك عند كل ذي حس سليم في أن عدمه خير من وجوده فإن قالوا أن التكليف لم يوجب عليه دخول النار قلنا نعم ولكنه كان سبباً إلى ذلك ولولا التكليف لم يدخل النار أصلاً وقد شهد الله عز وجل بصحة هذا القول شهادة لا تخفى على مسلم وهي قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا‏:‏ ‏"‏ فحمد الله تعالى إباءة الجمادات من قبول التمييز الذي به وقع التكليف وتحمل أمانة الشرائع وذم عز وجل اختيار الإنسان لتحملها وسمي ذلك منه ظلماً وجهلاً وجوراً وهذا معروف في بنية العقل والتمييز أن السلامة المضمونة لا يعدل بها التغرير المؤدي إلى الهلاك أو إلى الغنم وقال بعضهم خلق الله عز وجل من يكفر ومن يعلم أنه يخلده في النار ليعظ بذلك الملائكة وحور العين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خبط لا عهد لنا بمثله وهذا غاية السخف والعبث والظلم فأما العبث فإن في العقول منا أن من عذب واحداً ليعظ به الآخر فغاية العبث والسخف وأما الجور فأي جور أعظم فيما بيننا من أن يخلق قوماً قد علم أنه يعذبهم ليعظ بهم آخرين من خلقه مخلدين في النعيم فهلا عذب الملائكة وحور العين ليعظ بهم الجن والإنس وهل هذا على أصولهم إلا غاية المحاباة والظلم والعبث تعالى الله عن ذلك يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وسألهم أصحابنا عن إيلام الله عز وجل الصغار والحيوان وإباحته تعالى ذبحها فوجموا عند هذه وقال بعضهم لأن الله تعالى يعوضهم على ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا غاية العبث فيما بيننا ولا شيء أتم في العبث والظلم ممن يعذب صغيراً ليحسن بعد ذلك إليه فقالوا أن تعويضه بعد العذاب بالجدري و الأمراض أتم ألذ من تنعيمه دون تعذيب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وفي هذا عليهم جوابان أحدهما أن يقول لهم أكان الله تعالى قادراً على أن يوفي الأطفال والحيوان ذلك النعيم دون إيلام أو كان غير قادر على ذلك فإن قالوا كان غير قادر جمعوا مع الكفر الجنون لان ضرورة العقل يعلم بها انه إذا قدر على أن يعطيهم مقداراً ما من النعيم بعد الإيلام فلا شك في أنه قادر على ذلك المقدار نفسه دون إيلام يتقدمه ليس في العقل غير هذا أصلاً إذ ليس ها هنا منزلة زائدة في القدرة ولا فعلان مختلفان وإنما هو عطاء واحد لشيء واحد في كلا الوجهين وإن قالوا أنه قادر على ذلك فقد وجب العبث على أصولهم إذ كان قادراً على أن يعطيهم دون إيلام ما لم يعطهم إلا بعد غاية الإيلام والجواب الثاني أن نريهم صبياناً وحيواناً أماتهم في خير دون إيلام وهذه محاباة وظلم للمؤلم منهم فقالوا إن المؤلم لم يزداد في نعيمه لأجل إيلامه فقلنا لهم فهذه محاباة بزيادة النعيم للمؤلم فهلا ألم الجميع ليستوي بينهم في النعيم أو هلا تستوي بينهم في النعيم بأن لا يؤلم منهم أحداً وهذا ما لا انفكاك منه البتة وقال بعضهم فعل ذلك ليعظ بهم غيرهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا غاية الجور بيننا ولا عبث أعظم من أن يعذب إنساناً لا ذنب له ليوعظ بذلك آخرون مذنبون وغير مذنبين والله تعالى قد أنكر هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ‏"‏ فقد انتفى الله عز وجل عن هذا الظلم حقاً ولقد كان على أصولهم الفاسدة تعذيبه الطغاة وإيلامه البغاة ليعظ بذلك غيرهم أدخل في العدل والحكمة من أن يؤلم طفلاً أو حيوان لا ذنب لهما ليعظ بذلك آخرين بل لعل هذا الوجه قد صار سبباً إلى كفر كثير من الناس وأجاب بعضهم في ذلك بأن قال إنما فعل ذلك عز وجل بالأطفال ليؤجر آباءهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كالذي قبله في الجور بسواء ان يؤذى من لا ذنب له ليأجر بذلك مذنباً أو غير مذنب حاشا لله من هذا إلا ان في هذا مزية من التناقض لأن هذا التعليل ينقض عليهم في أولاد الكفار وأولاد الزنى ممن قد ماتت أمه وفي اليتامى من آبائهم وأمهاتهم ورب طفل قد قتل الكفار أو الفساق أباه وأمه وترك هو بدار مضيعة حتى مات هزلاً أو أكلته السباع فليت شعري من وعظ بهذا أو من أوجر به مع أن هذا مما لم يجدوه يحسن بيننا البتة بوجه من الوجوه يعني أن نؤذي إنساناً لا ذنب له لينتفع بذلك آخرون وهم يقولون أن الله تعالى فعل هذا فكان حسناً وحكمة ولجأ بعضهم إلى أن قال أن لله عز وجل في هذا سراً من الحكمة والعدل يوقن به وإن كنا لا نعلم لما هو ولا كيف هو‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإذ قد بلغوا ها هنا فقد قرب أمرهم بعون الله تعالى وهو أن يلزمهم تصديق من يقول لهم ولله تعالى في تكليف من لا يستطيع ثم تعذيبه عليه سر من الحكمة يوقن به ولا نعلمه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما نحن فلا نقول بهذا بل نقول أنه لا سر ها هنا أصلاً بل كل ذلك كما هو عدل من الله عز وجل لا من غيره ولله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولجأت طائفتان منهم إلى أمرين أحدهما قول بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد فإنه قال أن الأطفال لا يألمون البتة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا ندري لعله يقول مثل ذلك في الحيوان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا انقطاع سمج ولجاج في الباطل قبيح ودفع للعيان والحس وكل واحد منا قد كان صغيراً ويوقن أننا كنا نألم الألم الشديد الذي لا طاقة لنا بالصبر عليه والثانية عليه أحمد بن حابظ البصري والفضل الحربي وكلاهما من تلاميذ النظام فإنهما قالا أن أرواح الأطفال وأرواح الحيوان كانت في أجساد قوم عصاة فعوقبت بأن ركبت في أجساد الأطفال والحيوان لتؤلم عقوبة لها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن هرب عن الإذعان للحق أو عن الإقرار بالانقطاع إلى الكفر والخروج عن الإسلام فقد بلغ إلى حالة ما كنا نريد ان يبلغها لكن إذا آثر الكفر فإلى لعنة الله وحر سعيره ونعوذ بالله من الخذلان وإنما كلامنا هذا مع من يتقي مخالفة الإسلام فأما أهل الكفرفقد تم ولله الحمد إبطالنا لقولهم وقد أبطلنا قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله فأغنى عن إعادته وإذا بلغ خصمنا إلى مكابرة الحس أو إلى مفارقة الإسلام فقد انقطع وظهر باطل قوله ولله تعالى الحمد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن لجؤوا إلى قول معمر والجاحظ وقالوا أن آلام الأطفال هي فعل الطبيعة لا فعل الله تعالى لم يتخلصوا بذلك من الانقطاع بل نقول لهم هل الله عز وجل قادر على معارضة هذه الطبيعة المقطعة لحم هذا الصبي بالجدري والآكلة والخنازير المعدية له ووجع الحصاة واحتبس البول أو الغائط أو انطلاق البطن حتى يموت والعدو القاسي القلب يرحمه ويتقطع له لعظيم ما يرى به من التضور والأوجاع بقوة من عنده تعالى يفرجوا بها عن هذا الطفل المسكين المعذب أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا هو غير قادر على ذلك فما في العالم أعجز ممن تغلبه طبيعة هو خلقها وطبعها ووضعها فيمن هي فيه وربما غلبها طبيب ضعيف من خلقه بعقار ضعيف من خلقه فهل في الجنون والكفر أكثر من هذا القول أن يكون هو خلق الطبيعة ووضعها فيمن هي فيه ثم لا يقدر على كف عملها الذي هو وضعه فيها وإن قالوا بل هو قادر على صرف الطبيعة وكفها ولم يفعل دخل في نفس ما أنكر وأقر على ربه على أصله الفاسد بالظلم والعبث وبالضرورة ندري أن من رأى طفلاً في نار أو ماء وهو قادر على استنقاذه بلا مؤونة ولم يفعل فهو عابث ظالم ولكن الله تعالى يفعل ذلك وهو الحكم العدل في حكمه لا العابث ولا الظالم وهذا هو الذي أعظموا من ان يكون قادراً على هدي الكفار ولا يفعل ولجأ بعضهم إلى أن قال لو عاش هذا الطفل لكان طاغياً قلنا لهم لم نسألكم بعد عمن مات طفلاً إنما سألناكم عن إيلامه قبل بلوغه ثم نجيبهم عن قولهم فيمن مات من الأطفال أنه لو عاش لكان طاغياً فنقول لهم هذا أشد في الظلم أن يعذبه على ما لم يفعل بعد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قد وجدنا الله عز وجل قد حرم ذبح بعض الحيوان وأكله وأباح ذبح بعضه وأوجب ذبح بعضه إذا نذر الناذر ذبحه قرباناً فنقول للمعتزلة اخبرونا ما كان ذنب الذي أبيح ذبحه وسلخه وطبخه بالنار وأكله وما كان ذنب الذي حرم كل ذلك فيه حتى حرم العوض الذي تدعونه وما كان بخت الذي حرم إيلامه ووجدناه عز وجل قد أباح ذبح صغار الحيوان مع ما يحدث لأمهاتها من الحنين والوله كالإبل والبقر فأي فرق بين ذبحنا لمصالحنا أو لتعوض هي وبين ما حرم من ذبح أطفالنا وصغار أولاد أعدائنا لمصالحنا أو ليعوضوا فإن طردوا دعواهم في المصلحة لربهم أن كل من له مصلحة في قتل غيره كان له قتله فإن قالوا لا يجوز ذلك إلا حيث أباحه الله عز وجل تركوا قولهم ووقفوا للحق‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ وجدناه تعالى قد حرم قتل قوم مشركين يجعلون له الصاحبة والولد ويهود ومجوس إذا أعطونا ديناراً أو أربعة دنانير في العام وهم يكفرون بالله تعالى وأباح قتل مسلم فاضل قد تاب وأصلح لزنى سلف منه وهو محصن ولم يبح لنا من استبقاء مشركي العرب من عباد الأوثان إلا بأن يسلموا ولا بد فأي فرق بين هؤلاء الكفار وبين الكفار الذين افترض علينا إبقاؤهم لذهب نأخذه منهم في العام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقالوا لنا هل في أفعال الله تعالى عبث وضلال ونقص ومذموم فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أما أن يكون في أفعاله تعالى عبث يوصف به أو عيب مضاف إليه أو ضلال يوصف به أو نقص ينسب إليه أو جور منه أو ظلم منه أو مذموم منه فلا يكون ذلك أصلاً بل كل أفعاله عدل وحكمة وخير وصواب وكلها حسن منه تعالى ومحمود منه ولكن فيها على من ظهر منه ذلك الفعل وعبث منه وضلال منه وظلم منه ومذموم منه ثم نسألهم فنقول لهم هل في أفعاله تعالى سخف وجنون وفضائح ومصائب وقبح وسخام وأقذار وإنتان ونجس وسخنه للعين وسواد للوجه فإن قالوا لا أكذبهم الله عز وجل بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ‏"‏ وموت الأنبياء وفرعون وإبليس وكل ذلك مخلوق وإن قالوا أن الله تعالى خالق كل ذلك ولكن لا يضاف شيء منه إلى الله عز وجل على الوجه المذموم ولكن على الوجه المحمود قلنا هذا قولنا فيما سألتمونا عنه ولا فرق فإن قالوا أترضون بأفعال الله عز وجل وقضائه قلنا نعم بمعنى أننا مسلمون لفعله وقضائه ومن الرضى بفعله وقضائه أن نكره ما كره إلينا قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ‏"‏ ثم نسألهم عن هذا بعينه فنقول لهم أترضون بفعل الله تعالى وقضائه فإن قالوا نعم لزمهم الرضى بقتل من قتل من الأنبياء وبالخمور والأنصاب والآلام وبإبليس ويلزمهم أن يرضى منهم بالخلود في النار من خلد فيها وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وسأل بعض أصحابنا بعض المعتزلة فقال إذا كان عندكم إنما خلق الله تعالى الكفار وهو يعلم انهم لا يؤمنون وأنه سيعذبهم بين أطباق النيران أبداً ليعظ بهم الملائكة وحور العين فقد كان يكفي من ذلك خلق واحد منهم فقال له المعتزلة ان المؤمنين الذين يدخلون الجنة والملائكة وحور العين وجميع من لا عذاب عليه من الأطفال أكثر من الكفار بكثير جداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولم يخرج بهذا الجواب مما ألزمه السائل لأن الموعظة كانت تتم بخلق واحد هذا لو كان يخلق من يعذب ليوعظ به آخر وجه في الحكمة بيننا وأيضاً فلولا ذكره الملائكة لكان كاذباً في ظنه إن عدد الداخلين في الجنة من الناس أكثر من الداخلين النار لأن الأمر بخلاف ذلك لأن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏"‏ فأبى أكثر الناس إلا كفورا ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ‏"‏ فليت شعري في أي حكمة وجدوا فيما بينهم أو بيننا أو في أي عدل خلق من يكون أكثرهم مخلدين في جهنم على أصول هؤلاء الجهال وأما نحن فإنه لو عذب أهل السماوات كلهم وجميع من عمر الأرض لكان عدلاً منه وحقاً له وحكمة منه ولو لم يخلق النار وأدخل كل من خلق الجنة لكان حقاً منه وعدلاً وحكمة منه لا عدل ولا حكمة ولا حق إلا ما فعل وما أمر به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولجأ قوم منهم إلى أن قالوا أن الله تعالى لم يعلم من يكفر ولا من يؤمن وأقروا أنه لو علم من يموت كافراً لكان خلقه له جوراً وظلماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهؤلاء أيضاً مع عظيم ما أتوا به من الكفر في تجهيل ربهم تعالى فلم يتخلصوا مما ألزمهم أصحابنا لأنه ليس من الحكمة خلق من لا يدري أيموت كافراً فيعذبه أم لا وهذا هو التغرير بمن خلق وتعريضهم للهلكة على جهالة وهذا ليس من الحكمة ولا من العدل فيما بيننا لمن يمكنه أن لا يغرر وقد كان الباري تعالى قادراً على أن لا يخلق كما قد كان لم يزل لا يخلق ثم خلق إلا أن يلجأ إلى أنه تعالى لا يقدر على أن لا يخلق فيجعلوه مضطراً ذا طبيعة غالبة وهذا كفر مجرد محض ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإذا أقرت المعتزلة أن أطفال بني آدم كلهم أولاد المشركين وأولاد المسلمين في الجنة دون عذاب ولا تقرير تكليف فقد نسوا قولهم الفاسد أن العقل أفضل من عدمه بل ما نرى السلامة على قولهم وضمانها والحصول على النعيم الدائم في الآخرة بلا تقرير إلا في عدم العقل فكيف فارقوا هذا الاستدلال وأما نحن فنقول إن من أسعده الله تعالى من الملائكة فلم يعرضهم لشيء من الفتن أعلى حالاً من كل خلق غيرهم ثم بعدهم الذين عصم الله تعالى من النبيين عليهم الصلاة والسلام وأمنهم من المعاصي ثم من سبقت لهم من الله تعالى الحسنى من مؤمني الجن والإنس الذين لا يدخلون النار والحور العين اللاتي خلقن لأهل الجنة على أن لهؤلاء المذكورين حاشا الحور العين حالة من الخوف طول بقائهم في الدنيا ثم يوم الحشر في هول المطلع وشنعة ذلك الموقف الذي لا يقي به شيء إلا السلامة منه ولا يهنأ معه عيش حتى يخلص منه وقد تمنى كثير من الصالحين العقلاء الفضلاء أن لو كانوا نسياً منسياً في الدنيا ولا يعرضوا لما عرضوا له على أنهم قد آمنوا بالضمان التام الذي لا ينجس ولقد أصابوا في ذلك إذ السلامة لا يعد لها شيء إلا عند عقول المعتزلة القائلين بأن الثواب والنعيم بعد الضرب بالسياط والضغط بأنواع العذاب والتعريض بكل بلية أطيب وألذ وأفضل من النعيم السالم من أن يتقدمه بلاء ثم الأطفال الذين يدخلون الجنة دون تكليف ولا عذاب ومن بلغ ولا تمييز له ثم منزلة من دخل النار ثم أخرج منها بعد أن دخل فيها على ما فيها من البلاء نعوذ بالله منه وأما من يخلد في النار فكل ذي حس سليم توقن نفسه يقين ضرورة أن الكلب والدود والقرد وجميع الحشرات أحسن حالاً في الدنيا والآخرة منه وأعلى مرتبة وأتم سعداً وأفضل صفة وأكرم عناية من عند الباري تعالى منه ويكفي من هذا إخبار الله تعالى إذ يقول‏:‏ ‏"‏ ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ‏"‏ فنص تعالى على أن حال الجمادية أحسن منه حالة فاعجبوا للمعتزلة القائلين أن الله تعالى أعطى من يتمنى يوم القيامة أن يكون تراباً أفضل عطية عنده ولم يترك في قدرته أصلح مما عمل به وأن خلقه له كان خيراً له من أن لا يخلقه ونحن نعوذ بالله لأنفسنا من أن يعمل بنا ما عمل بهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن عجائبهم قولهم أن الله تعالى لم يخلق شيئاً لا يعتبر به أحد من المكلفين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فنقول لهم ما دليلكم على هذا وقد علمنا بضرورة الحس أن لله تعالى في قعور البحار وأعماق الأرض أشياء كثيرة لم يرها إنسان قط فلم يبق إلا أن يدعو عوض الملائكة والجن في عمق الجبال وقعور البحور فهذه دعوة مفتقرة إلى دليل وإلا فهي باطلة قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ‏"‏ وأيضاً فما تبطل به دعوى هؤلاء القائلين بغير علم على الله‏.‏

إن الله تعالى إذا خلق زيداً وله من الطول كذا وكذا فإنه لو خلقه على أقل من ذلك الطول بإصبع لكان الاعتبار بخلقه سواء كما هو الآن ولا مزيد وهكذا كل مقدار من المقادير فإن ادعوا أن الزيادة في العدد زيادة في العبرة لزمهم أن يلزموا ربهم تعالى أن يزيد في مقدار طول كل ما خلق لأنه كان يكون زيادة في الاعتبار وإلا فقد قصر وبالجملة فهو سهم لا يحصيه إلا الذي خلقهم نعوذ بالله مما ابتلاهم به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهم مقرون أن العقول معطاة من عند الله عز وجل فنسألهم أفاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقول أم لا فإن قالوا لا كابروا الحس ولزمهم مع ذلك أن عقل النبي صلى الله عليه وسلم وتمييزه وعقل عيسى وإبراهيم وموسى وأيوب وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتمييزهم عقل مريم بنت عمران وتمييزها بل تمييز جبريل وميكائيل وسائر الملائكة ثم تمييز أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعقولهم وتمييز أمهات المؤمنين وبنات النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله على جميع من ذكرنا وعقولهن ثم تمييز سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وعقولهم ليس شيء من ذلك أفضل من العقل والتمييز المعطيين لهذا المخنث البغاء الزقان ولهذه الزانية الخليقة المتبرجة السحاقة ولهذا الشيخ الذي يلعب مع الصبيان بالكعاب في الخانات ويعجفهم إذا قدر ومن بلغ هذا المبلغ وساوى بين من أعطى الله عز وجل كل من ذكرنا من العقل والتمييز فقد كفى خصمه مؤونته وإن قالوا بل الله تعالى فاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقل والتمييز قيل لهم صدقتم وهذا هو المحاباة والجور على أصولكم ولا محاباة على الحقيقة أكثر من هذا وهي عندنا حق وعدل منه تعالى لا يسأل عما يفعل ولعمري أن فيهم لا عجباً إذ يقولون أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه إلا ما أعطى سائرهم فهلا إن كانوا صادقين ساوى جميعهم إبراهيم النظام وأبا الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر والجبائي في دقة نظرهم وقوتهم على الجدال إذ كلهم فيما منحهم الله عز وجل من ذلك سواء فإذ لا شك في عجزهم عن بلوغ ذلك فلا شك في أن كل أحد لا يقدر أن يزيد فيما منحه الله تعالى به وليس يمكنهم أصلاً أن يدعوا ها هنا أنهم كلهم قادرون على ذكاء الذهن وحدة النظر وقوة الفطنة وجودة الحفظ و البتة لدقيق الحجة وإن لم يظهروا كما ادعوا ذلك في الأعمال الصالحة فصحت المحاباة من الله تعالى يقيناً عياناً لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قروا أن العقول والذكاء وقبول العلم وذكاء الخاطر ودقة الفهم غير موهوبة من الله تعالى عز وجل قلنا لهم فمن خلقها فإن قالوا هي فعل الطبيعة قلنا لهم ومن خلق الطبيعة التي فعلت العقول وكل ذلك بذاتها متفاضلة فمن قولهم ان الله تعالى خلقها فيقال لهم فهو موجب المحاباة إذ رتب الطبيعة رتبة المحاباة ولا بد وإن قالوا لم تخلق الطبيعة ولا العقول لحقوا بالدهرية وصاروا إلى ما لم يرد لهم المصير إليه وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة ندري أن من كان تمييزه أتم كان اهتداؤه واعتصامه أتم على أصولهم وهذا هو المحاباة التي أنكروها وسموها ظلماً وجوراً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومهما أمكنهم من الدفاع والقحة في شيء ما فإنه لا يمكنهم اعتراض أصلاً في أن فضل الله تعالى على المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام وعلى يحيى بن زكريا إذ جعل عيسى نبياً ناطقاً عاقلاً في المهد رسولاً حين سقوطه من بطن أمه وإذ أتى يحيى الحكم صبياً أتم وأعلا وأكثر من فضله على ولد في أقاصي بلاد الخزر والزنج حيث لم يسمع قط ذكر محمد صلى الله عليه وسلم إلا متبعاً أقبح الذكر من التكذيب وانه كان متخيلاً وأكثر من فضله بلا شك على فرعون إذ دعا موسى عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ ‏"‏ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إن من ضل بعد هذا لضال وإن من قال أن فضل الله عز وجل وعطاءه لموسى وعيسى ويحيى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعصمته لهم كفضله وعطائه على فرعون وملئه وعصمته لهم الذين نص عز وجل على أنه شد على قلوبهم شداً منعهم الإيمان حتى يروا العذاب الأليم فلا ينفعهم إيمانهم حينئذ لضعيف العقل قليل العلم مهلهل اليقين ولا بيان أبين من هذه الآية في تفضيل الله عز وجل بعض خلقه على بعض واختصاص بعضهم بالهدى والرحمة دون بعض ومحاباته من شاء منهم وإضلاله من ضل منهم وأيضاً فإنهم لا يستطيعون ان الله عز وجل فضل بني آدم على كثير ممن خلق قال تعالى‏:‏ ‏"‏ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ‏"‏ وهي المحاباة بعينها التي هي عند المعتزلة جور وظلم فيقال لهم على أصلكم الفاسد هل لا رزق الله العقل سائر الحيوان فيعرضهم بذلك للمراتب السني التي عرض لها بني آدم وهلا ساوى بين الحيوان وبيننا في أن لا يعرضنا كلنا للمهالك والفتن فهل هذا إلا محاباة مجردة وفعل لما يشاء لا معقب لحكمه لا يسأل عما يفعل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد ذكر بعضهم أن الله تعالى قبح في عقول بني آدم أكل ما يعطيهم وأكل أموال غيرهم ولم يقبح ذلك في عقول الحيوان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأقر هذا الجاهل بأن الله تعالى هو المقبح والمحسن فإذ ذلك كذلك فلا قبيح إلا ما قبح الله ولا محسن إلا ما حسن وهذا قولنا ولم يقبح الله تعالى قط خلقه لما خلق وإنما قبح منا كون ذلك الذي خلق من المعاصي فينا فقط وبالله تعالى التوفيق وإن الأمر لأبين من ذلك ألم تروا أن الله خلق الحيوان فجعل بعضهم أفضل من بعض بلا عمل أصلاً ففضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق نعم وعلى نوق الأنبياء الذين هم أفضل من صالح وإنما أتينا بهذا لئلا يقولوا أنه تعالى إنما فضلها تفضيلاً لصالح عليه السلام وجعل تعالى الكلب مضروباً به المثل بالخساسة والرذالة وجعل القردة والخنازير معذباً بعضه من عصاه بتصويره في صورتها فلولا أن صورتها عذاب ونكال ما جعل القلب في صورتها أشد ما يكون من عذاب الدنيا ونكالها وجعل بعض الحيوان متقرباً إلى الله عز وجل بذبحه وبعضه محرم ذبحه وبعضه مأواه الرياض والأشجار والخضر وبعضه مأواه الحشوش والرداع والدبر وبعضه قوياً وبعضه ضعيفاً وبعضه منتفعاً به في الأودية وبعضه سماً قاتلاً وبعضه قوياً على الخلاص ممن أراد بطيرانه وعدوه أو قوته وبعضه لا مهيناً مخلص عنده وبعضه خيلاً في نواصيها الخير يجاهد عليها العدو وبعضه سباعاً ضارية مسلطة على سائر الحيوان ذاعرة لها قاتلة لها آكلة لها وجعل سائر الحيوان لا ينقصر منها وبعضها حيات عادية مهلكة وبعضها مأكولاً على كل حال فأي ذم كان لبعضه حتى سلط عليه غيره فأكله وقتله وأبيح ذبحه وقتله وإن لم يؤكل كالقمل والبراغيث والبق والوزغ وسائر الهوام ونها عن قتل النحل وعن قتل الصيد في الحرمين والأحرام وأباحه في غير الحرمين والأحرام فإن قالوا أن الله تعالى يعوض ما أباح ذبحه وقتله منها قيل له فهلا أباح ذلك فيما حرم قتله ليعوضه أيضاً وهذه محاباة لا شك فيها مع أنه في المعهود من المعقول عين العبث إلا أن يقولوا أنه تعالى لا يقدر على نعيمها إلا بتقديم الأذى فإنهم لا ينفكون بهذا من المحاباة لها على من لم يبح ذلك فيها من سائر الحيوان مع أنه تعجيز لله عز وجل ولو ويقال لهم ما لذي عجزه عن ذلك وأقدره على تنعيم من تقدم له الأذى في الدنيا أطبيعة فيه جارية على بنيتها أم فوقه وأهب له تلك القدرة ولا بد من أحد هذين القولين وكلاهما كفر مجرد وأيضاً فإن قولهم يبطل بتنعيم الله عز وجل الأطفال الذين ولدوا أحياء وماتوا من وقتهم دون ألم سلف لهم ولا تعذيب فهلا فعل بجميع الحيوان كذلك على أصولكم فقد كان عز وجل قادراً على ان يجعل غذاءنا في غير الحيوان لكن في النبات والثمار كعيش كثير من الناس في الدنيا لا يأكلون لحماً فما ضرهم ذلك في عيشهم شيئاً فهل ها هنا إلا أن الله تعالى لا يجوز الحكم على أفعاله بما يحكم به على أفعالنا لأننا مأمورون منهيون وهو تعالى آمرنا لا مأمور ولا منهي فكل ما فعله عدل وحكمة وحق وكل ما فعلناه فإنه إن وافق أمره عز وجل كان عدلاً وحقاً وإن خالف أمره عز وجل كان جوراً وظلماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما الحيوان فإن قولنا فيه هو نص ما قاله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إذ يقول عز وجل‏:‏ ‏"‏ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ‏"‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وإذا الوحوش حشرت ‏"‏ فنحن موقنون الوحوش كلها وجميع الدواب والطير تحشر كلها يوم القيامة كما شاء الله تعالى ولما شاء عز وجل و أما نحن فلا ندري لماذا والله أعلم بكل شيء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء فنحن نقر بهذا وبأنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء ولا ندري ما يفعل الله بهما بعد ذلك إلا أنا ندري يقيناً أنها لا تعذب بالنار لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ وبيقين ندري أن هذه الصفة ليست إلا في الجن والإنس خاصة ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى وقد أيقنا ان سائر الحيوان الذي في هذا العالم ما عدا الملائكة والحور والإنس والجن فإنه غير متعبد بشريعته وأما الجنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ‏"‏ والحيوان حاشا من ذكرنا لا يقع عليهم اسم مسلمين لأن المسلم هو المتعبد بالإسلام والحيوان المذكور غير متعبد بشرع فإن قال قائل أنكم تقولون أن أطفال المسلمين وأطفال المشركين كلهم بالجنة فهل يقع على هؤلاء اسم مسلمين فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن نقول نعم كلهم مسلمون بلا شك لقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ‏"‏ ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل مولود يولد على الفطرة ‏"‏ وروي على الملة ‏"‏ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه ‏"‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالتهم الشياطين عن دينهم فصح لهم كلهم اسم الإسلام والحمد لله رب العالمين وقد نص عليه السلام على أنه رأى كل من مات طفلاً من أولاد المشركين وغيرهم في روضة مع إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم وأما المجانين ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة نبي وقد هرم أو أصم لا يسمع فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تبعث لهم يوم القيامة نار موقدة ويأمرون بدخولها فمن دخلها كانت عليه برداً ودخل الجنة أو كلاماً هذا معناه فنحن نؤمن بهذا ونقر به ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإذا قد بلغ الكلام هاهنا فلنصله إن شاء الله تعالى راغبين في الأجر من الله عز وجل على بيان الحق فنقول وبالله تعالى نتأيد أن الله تعالى قد نص كما ذكرنا أنه آخذ من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وهذا نص جلي على أنه عز وجل خلق أنفسنا كلها من عهد آدم عليه السلام لأن الأجساد حينئذ بلا شك كانت تراباً وماء وأيضاً فإن المكلف المخاطب إنما هو النفس لا الجسد فصح يقيناً أن نفوس كل من يكون من بني آدم إلى يوم القيامة كانت موجودة مخلوقة حين خلق آدم بلا شك ولم يقل الله عز وجل أنه أفنانا بعد ذلك ونص تعالى على انه خلق الأرض والماء حينئذ بقوله تعالى إنه جعل من الماء كل شيء حي وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ‏"‏ وأخبر عز وجل أنه خلقنا من طين والطين هو التراب والماء وإنما خلق تعالى من ذلك أجسامنا فصح أن عنصر أجسامنا مخلوق منذ أول خلقه تعالى السماوات وأن أرواحنا وهي أنفسنا مخلوقة منذ أخذ الله تعالى عليها العهد وهكذا قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ‏"‏ وثم توجب في اللغة التي بها نزل القرآن التعقيب بمهلة ثم يصور الله تعالى من الطين أجسامنا من اللحم والدم والعظام بأن يحيل أعراض التراب والماء وصفاتهما فتصير نباتاً وحباً وثماراً يتغذى بها فتستحيل فينا لحماً وعظماً ودماً وعصباً وجلداً وغضاريف وشعراً ودماغاً ونخاعاً وعروقاً وعضلاً وشحماً ومنياً ولبناً فقط وكذلك تعود أجسامنا بعد الموت تراباً ولا بد وتصعد رطوباتها المائية وأما جمع الله تعالى الأنفس إلى الأجساد فهي الحياة الأولى بعد افتراقها الذي هو الموت الأول فتبقى كذلك في عالم الدنيا الذي هو عالم الابتلاء ما شاء الله تعالى ثم ينقلنا بالموت الثاني الذي هو فراق الأنفس للأجساد ثانية إلى البرزخ الذي تقيم فيه الأنفس إلى يوم القيامة وتعود أجسامنا تراباً كما قلنا ثم يجمع الله عز وجل يوم القيامة بين أنفسنا وأجسادنا التي كانت بعد أن يعيدها وينشرها من القبور وهي المواضع التي استقرت أجزاؤها فيها لا يعلمها غيره ولا يحصيها سواه عز وجل لا إله إلا هو فهذه الحياة الثانية التي لا تبيد أبداً ويخلد الإنس والجن مؤمنهم في الجنة بلا نهاية وكافرهم بالنار بلا نهاية وأما الملائكة وحور العين فكلهم في الجنة فيها خلقوا من النور وفيها يبقون أبداً بلا نهاية ولم ينقلوا عنها قط ولا ينقلون هذا كله نص قول الله عز وجل إذ يقول‏:‏ ‏"‏ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ‏"‏ وإذ يقول تعالى مصدقاً للقائلين‏:‏ ‏"‏ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين‏"‏ فلا يشذ عن هذا أحد إلا من أبانه الله تعالى بمعجزة ظهرت فيه كمن أحياه الله عز وجل آية لنبي كالمسيح عليه السلام وكالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذرروت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم فهؤلاء والذي أماته الله مائة عام ثم أحياه كلهم ماتوا ثلاث موتات وحيوا ثلاث مرات وأما من ظن أن الصعقة التي تكون يوم القيامة موت فقد أخطأ بنص القرآن الذي ذكرنا لأنها كانت تكون حينئذ لكل أحد ثلاث موتات وثلاث إحياءات وهذا كذب وباطل وخلاف للقرآن وقد بين عز وجل هذا نصاً فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ‏"‏ فبين تعالى أن تلك الصعقة إنما هي فزع لا موت وبين ذلك بقوله تعالى في سورة الزمر‏:‏ ‏"‏ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ‏"‏ الآية فبين تعالى أن تلك الصعقة مستثنى منها من شاء الله عز وجل وفسر بها الآية التي ذكرنا قبل وبينت أنها فزعة لا موتة وكذلك فسرها النبي غليه الصلاة والسلام بأنه أول من يقوم فيرى موسى عليه السلام قائماً فلا يدري أكان ممن صعق فأفاق أم جوزي بصعقة الطور فسماها إفاقة ولو كانت موتة ما سماها إفاقة بل إحياء فكذلك كانت صعقة موسى عليه الصلاة والسلام يوم الطور فزعة لا موتة قال تعالى ‏"‏ وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك ‏"‏ وهذا ما لا خلاف فيه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فصح بما ذكرنا ان الدور سبع وهي عالمون كل علم منها قائم بذاته فأولها دار الابتداء وعالمه وهو الذي خلق عز وجل فيه الأنفس جملة واحدة وأخذ عليها العهد هكذا نص تعالى على أنها الأنفس بقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ‏"‏ وهي دار واحدة لأنهم كلهم فيها مسلمون وهي دار طويلة على آخر النفوس جداً إلا على أول المخلوقين فهي قصيرة عليهم جداً وثانيها وهي دار الابتلاء وعالمه وهي التي نحن فيها وهي التي يرسل الله تعالى النفوس إليها من عالم الابتداء فتقيم فيه في أجسادها متعبدة ما أقامت حتى تفارقه جيلاً بعد جيل حتى تستوفي جميع الأنفس المخلوقة بسكناها الموفق لها فيه ثم ينقضي هذا العالم وهي دار قصيرة جداً على كل نفس في ذاتها لأن مدة عمر الإنسان فيها قليل ولو عمر ألف عام فكيف بأعمار جمهور الناس التي هي من ساعة إلى حدود المائة عام ثم داران اثنان للبرزخ وهما اللتان ترجع إليهما النفوس عند خروجها من هذا العالم وفراقها أجسادها وهما عند سماء الدنيا نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أنه رأى ليلة أسرى به عليه الصلاة والسلام آدم في سماء الدنيا وعن يمينه أسوده وعن يساره أسوده فسأل عنها فأخبر أنها نسم بنيه وأن الذين على يمينه أرواح أهل السعادة والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء وقد نص الله تعالى على هذا نصاً فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ هكذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أرواح الشهداء في الجنة وكذلك الأنبياء بلا شك فمن الباطل أن يفوز الشهداء بفضل يحرمه الأنبياء وهم المقربون الذين ذكر الله تعالى أنهم في الجنة إذ يقول تعالى‏:‏ ‏"‏ فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ‏"‏ فهاتان داران قائمان لم يدخل أهلهما بعد لا الجنة ولا ناراً بنص القرآن والسنة وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ النار يعرضون عليها غدواً وعشي ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ‏"‏ وقال تعالى حاكياً عن الكفار أنهم يقولون يوم البعث‏:‏ ‏"‏ يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ‏"‏ فصح أنهم لم يعذبوا في النار بعد وهكذا جاءت الأخبار كلها بأن الجميع يوم القيامة يصيرون إلى الجنة وإلى النار لا قبل ذلك حاشا الأنبياء والشهداء فقط ولا ينكر خروجهم من الجنة لحضور الحساب فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة ثم خرج عنها قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ‏"‏ وهما داران طويلتان على أول النفوس جداً حاشا آخر المخلوقين فهي قصيرة عليهم جداً وإنما ستقصرها الكفار كما قال عز وجل في القرآن لأنهم انتقلوا عنها إلى عذاب النار نعوذ بالله منها فاستقلوا تلك المدة وإن كانت طويلة حتى ظنها بعضهم لشدة ما صاروا إليه يوماً أو بعض يوم وقال بعضهم إن لبثتم إلا عشرا ثم الدار الخامسة هي عالم البعث وهو يوم القيامة وهو عالم الحساب ومقداره خمسون ألف سنة قال تعالى‏:‏ ‏"‏ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ‏"‏ فصح أنه يوم القيامة وبهذا أيضاً جاءت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الأيام التي قال الله تعالى فيها أن اليوم منها ألف سنة فهي آخر قال تعالى‏:‏ ‏"‏ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ‏"‏ فهي أيام أخر بنص القرآن ولا يحل إحالة نص عن ظاهره بغير نص آخر أو إجماع بيقين أو ضرورة حس ثم الدار السادسة والسابعة داران للجزاء وهما الجنة والنار وهما داران لا آخر لهما ولا فناء لهما ولا لمن فيهما نعوذ بالله من سخطه الموجب للنار ونسأله الرضى منه الموجب للجنة وما توفيقنا إلا بالله الرحيم الكريم وأما من قال أن قوله تعالى في يوم القيامة إنما هو مقداره خمسين ألف سنة لو تولى ذلك الحساب غيره فهو مكذب لربه تعالى مخالف للقرآن ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول ذلك اليوم وبضرورة العقل ندري أنه لو كلف جميع أهل الأرض محاسبة أهل حصر واحد فيما أضمروه وفعلوه وموازنة كل ذلك ما قاموا به في ألف ألف عام فبطل هذا القول الكاذب بيقين لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإذ قد بينا بطلان قول المعتزلة في تحكمهم على ربهم و إيجابهم عليه ما أوجبوا بآرائهم السخيفة وتشبيههم إياه بأنفسهم فيما يحسن منهم ويقبح و تجويزهم إياه فيما فعل وقضى وقدر فلنبين بحول الله وقوته أنهم المجورون له على الحقيقة لا نحن ثم نذكر ما نص الله تعالى عليه مصدقاً لقولنا ومكذباً لقولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز وجل نتأيد أن من المحال البين أن يقول المعتزلة أننا نجور الله تعالى ونحن نقول أنه لا يجوز البتة ولا جار قط وإن كل ما فعل أو يفعل أي شيء كان فهو العدل والحق والحكمة على الحقيقة لا شك في ذلك وأنه لا جور إلا ما سماه الله عز وجل جوراً وهو ما ظهر في عصاة عباده من الجنوالإنس مما خالف أمره تعالى وهو خالقه فيهم كما شاء فكيف يكون مجور إليه عز وجل من هذه هي مقالته وإنما المجور لربه تعالى من يقول فيما أخبر الله عز وجل أنه خلقه هذا جور وظلم فإن قائل هذا القول لا يخلو ضرورة من أحد الوجهين لا ثالث لهما إما أنه مكذب لربه عز وجل في إخباره في القرآن أنه برأ المصائب كلها وخلقها وأنه تعالى خلقنا وما نعمل وأنه خلق كل شيء بقدر محرف لكلام ربه تعالى الذي هو غاية البيان عن مواضعه مبدل له بعد ما سمعه وقد نص الله تعالى فيمن يحرف الكلم عن مواضعه ويبدله بعدما سمعه ما نص فهذا خطة كفر إن التزمها والثانية وهي تصديق الله عز وجل في إخباره بذلك وتجويزه في فعله لا بد له من ذلك وهذه أيضاً خطة كفر إن التزمها أو الانقطاع والتناقض والثبات على اعتقاد الباطل بلا حجة تقليداً للعيارين الشطار الفساق كالنظام والعلاف و بشر نخاس الرقيق ومعمر المتهم عندهم في دينه وثمامة الخليع المشهور بالقبائح والجاحظ وهو من عرف هذلاً وعيارة وانهمالاً وهذه أسلم الوجوه لهم ونعوذ بالله من مثلها ثم هم بعد هذا صنفان أصحاب اللطف وأصحاب اللطف فأما أصحاب الأصلح فإن أصحاب الأصلح يصفونهم بأنهم مجورون لله مجهولون له وأصحاب الأصلح يصفهم أصحاب اللطف بأنهم معجزون لله تعالى مشبهون له بخلقه فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقد نص الله تعالى على أنه يفعل ما يشاء بخلاف ما قالت المعتزلة فقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ‏"‏ وأمرنا عز وجل أن ندعوه فنقول‏:‏ ‏"‏ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا غاية البيان في أنه عز وجل له أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وأنه لو شاء ذلك لكان من حقه ولو لم يكن له ذلك لما أمرنا بالدعاء في أن لا يحملنا ذلك ولكان الدعاء بذلك كالدعاء في أن يكون إلهاً خالقاً على أصولهم ونص تعالى كما تلونا على أنه قد حمل من كان قبلنا الإصر وهو الثقل الذي لا يطاق وأمرنا أن ندعوه بأن لا يحمل ذلك علينا وأيضاً فقد أمرنا تعالى في هذه الآية أن ندعوه في أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وهذا تكليف ما لا يطاق نفسه لأن النسيان لا يقدر أحد على الخلاص منه ولا يتوهم التحفظ منه ولا يمكن أحداً دفعه عن نفسه فلولا أن له تعالى أن يؤاخذنا بالنسيان من شاء من عباده لما أمرنا بالدعاء في النجاة منه وقد وجدنا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مؤاخذين بالنسيان منهم أبونا آدم صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ‏"‏ يريد نسيانه عداوة إبليس له الذي حذره الله تعالى منها ثم وآخذه على ذلك وأخرجه من الجنة ثم تاب عليه وهذا كله على أصول المعتزلة جور وظلم تعالى الله عن ذلك وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ لو شاء الله ما أشركوا ‏"‏ ولو في اللغة التي بها نزل القرآن حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقيناً أن ترك الشرك من المشركين ممتنع لامتناع مشيئة الله تعالى لتركه وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ‏"‏ ومشيئة الله هي تفسير إذن الله وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا إن يشاء الله ‏"‏ فهذا نص جلي على انه لا يمكن أحداً أن يؤمن إلا بإذن الله عز وجل له في الإيمان فصح يقيناً أن كل من آمن فلم يؤمن إلا بإذن الله عز وجل وإنه تعالى شاء أن يؤمن وإن كل من لم يؤمن فلم يأذن الله تعالى له في الإيمان ولا شاء ان يكون منه الإيمان هذا نص هاتين الآيتين اللتين لا يحتملان تأويلاً غيره أصلاً وليس لأحد أن يقول أنه تعالى عنى الإكراه على الإيمان لأن نص الآيتين مانع من هذا التأويل الفاسد لأنه تعالى أخبر أن كل من آمن فإنما آمن بإذن الله عز وجل وإن من لم يؤمن فإن الله تعالى لم يشاء أن يؤمن فيلزمهم على هذا أن كل مؤمن في العالم فمكره على الإيمان وهذا شر من قول الجهمية وأشد فإن قالوا أن إذن الله تعالى ها هنا إنما أمره لزمهم ضرورة أحد وجهين لا بد منهما إما ان يقولوا أن الله تعالى لم يأمر الكفار بالإيمان لأن النص قد جاء بأنه تعالى لو أذن لهم لآمنوا وأما ان يقولوا أن كل من في العالم فهم مؤمنون لأنهم عندهم مأذون لهم في الإيمان إذا كان الإذن هو الأمر وكلا القولين كفر مجرد ومكابرة للعيان ونعوذ بالله من الضلال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ الإذن هاهنا ومشيئته تعالى هو خلق الله تعالى للإيمان فيمن آمن وقوله لإيمانه كن فيكون وعدم إذنه تعالى وعدم مشيئته للإيمان هو أن لا يخلق في المرء الإيمان فلا يؤمن لا يجوز غير هذا البتة إذ قد صح أن الإذن ها هنا ليس هو الأمر وقال عز وجل ‏"‏ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ‏"‏ فأخبر تعالى أنه هدى بعضهم دون بعض وهذا عند المعتزلة جور وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ‏"‏ فنص على انه خلقهم ليدخلهم النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ‏"‏ وأمر تعالى أن ندعوه فنقول‏:‏ ‏"‏ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ‏"‏ فنص تعالى على بزيغ قلوب من لم يهدهم من الذين زاغوا إذ أزاغ الله قلوبهم وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ‏"‏ فقطع تعالى على ان كلماته قد حقت على الفاسقين انهم لا يؤمنون فمن الذي حقق عليهم أن لا يؤمنوا إلا هو عز وجل وهذا جور عند المعتزلة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل آية ذكرناها في باب الاستطاعة منهن حجة عليهم في هذا الباب وكل آية نتلوها إن شاء الله عز وجل في باب إثبات أن الله عز وجل أراد كون الكفر والفسق بعد هذا الباب منهي أيضاً حجة عليهم في هذا الباب وكذلك كل آية نتلوها إن شاء الله عز وجل في إبطال قول من قال ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه الله أبا جهل وفرعون وأبا لهب مما يستدعي إلى الإيمان فإنها حجة عليهم في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتجت المعتزلة بقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما ربك بظلام للعبيد ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما ربك بظلام للعبيد ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه حجة لنا عليهم لأنه تعالى أخبر أنه قادر على أن يسمعهم والإسماع ها هنا الهد بلا شك لأن آذانهم كانت صحاحاً ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ‏"‏ إنما معناه بلا شك لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا لأنه محال أن يهديهم الله وقد علم من قلوبهم خيراً فلا يهتدوا هذا تناقض قد تنزه كلامه عز وجل فصح أنه كما ذكرنا يقيناً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وسائرها لا حجة لهم في شيء منه بل هو حجة لنا عليهم وهو نص قولنا أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وأفعال العباد بين السماء والأرض بلا شك فالله تعالى خلقها بالحق الذي هو اختراعه لها وكل ما فعل تعالى حق وإضلاله من أضل حق له ومنه تعالى وهداه من هدى حق منه تعالى ومحاباته من حابى بالنبوة وبالطاعة حق منه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال أن الله تعالى خلق شيئاً بغير الحق أو أنه تعالى خلق شيئاً لاعباً أو أنه تعالى ظلم أحداً بل فعله عدل وصلاح ولقد ظهر لكل ذي فهم أننا قائلون بهذه الآيات على نصها وظاهرها فأي حجة لهم علينا في هذه النصوص لو عقلوا وأما المعتزلة فيقولون أنه تعالى لم يخلق كثيراً مما بين السماوات والأرض لا سيما عباد بن سليمان منهم تلميذ هشام بن عمرو الفوطي القائل أن الله تعالى لم يخلق الجدب ولا الجوع ولا الأمراض ولا الكفار ولا الفساق ومحمد بن عبد الله الإسكافي تلميذ جعفر بن حرب القائل أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا المزامير ولا الطنابير وكل ذلك ليس بخلق من خلق الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهم يقولون أن الله عز وجل لو حابى أحداً لكان ظالماً لغيره وقد صح أن الله تعالى حابى موسى وإبراهيم ويحيى ومحمداً صلوات الله عليهم دون غيرهم ودون أبي لهب وأبي جهل وفرعون والذي حاج إبراهيم في ربه فعلى قول المعتزلة يجب أن الله تعالى ظلم هؤلاء الذين حابى غيرهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم منه إلا بترك قولهم الفاسد وأما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ‏"‏ فهكذا نقول ما خلقهم الله تعالى إلا ليكونوا له عباداً مصرفين بحكمه فيهم منقادين لتدبيره إياهم وهذه حقيقة العبادة والطاعة أيضاً عبادة وقال تعالى حاكياً عن القائلين ‏"‏ أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ‏"‏ وقد علم كل أحد ان قوم موسى عليه السلام لم يعبدوا قط فرعون عبادة تدين لكن عبدوه عبادة تذلل فكانوا له عبيداً فهم له عابدون وكذلك قول الملائكة عليهم السلام بل كانوا يعبدون الجن وقد علم كل أحد أنهم لم يعبدوا الجن عبادة تدين لكنهم عبدوهم عبادة تصرف لأمرهم وإغوائهم فكانوا لهم بذلك عبيداً فصح القول بأنهم يعبدونهم وهذا بين وقال بعض أصحابنا معنى هذه الآية أنه تعالى خلقهم ليأمرهم بعبادته ولسنا نقول بهذا لأن فيهم من لم يأمره الله تعالى قط بعبادته كالأطفال والمجانين فصار تخصيصاً للآية بلا برهان والذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه لأنه المشاهد المتيقن العام لكل واحد منهم واما ظن المعتزلة في هذه الآية فباطل يكذبه إجماعهم معنا أن الله تعالى لم يزل يعلم أن كثيراً منهم لا يعبدونه فكيف يجوز أن يخبر أنه خلقهم لأمر قد علم أنه لا يكون منهم إلا أن يصيروا إلى قول من يقول انه تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون فيتم كفر من لجأ إلى هذا ولا يخلصون مع ذلك من نسبة العبث إلى الخالق تعالى إذ غرر من خلق فيما لا يدري أيعطبون فيه أم يفوزون وتحيرت المعتزلة القائلون بالأصلح وبإبطال المحاباة في وجه العدل في ستة عشر باباً وهي العدل في إدامة العذاب العدل في إيلام الحيوان العدل في تبليغ من في المعلوم أنه يكفر العدل في المخلوق العدل في إعطاء الاستطاعة العدل في الإرادة العدل في البدل العدل في الأمر العدل في عذاب الأطفال العدل في استحقاق العذاب في إخلاف أحوال المخلوقين العدل في المعرفة العدل في اللطف العدل في الأصلح العدل في نسخ الشرائع العدل في النبوة‏.‏

وارده من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه قال أبو محمد‏:‏ قالت المعتزلة أن الله تعالى لم يشأ أن يكفر الكافر ولا أن يفسق الفاسق ولا ان يشتم تعالى ولا أن يقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحتجوا بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولا يرضى لعباده الكفر ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ‏"‏ وقالوا من فعل ما أراد الله فهو مأجور محسن فإن كان الله تعالى أراد ان يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق فقد فعلا جميعاً ما أراد الله منهما فهما محسنان مأجوران وذهب أهل السنة أن لفظة شاء وأراد لفظة مشتركة تقع إلى معنيين أحدهما الرضى والاستحسان فهذا منهي عن الله تعالى انه أراده أو شاءه في كل ما نهى عنه والثاني أن يقال أراد وشاء بمعنى أراد كونه وشاء وجوده فهذا هو الذي نخبر به عن الله عز وجل في كل موجود في العالم من خير أو شر فسلكت المعتزلة سبيل السفسطة في التعلق في الألفاظ المشتركة الواقعة على معنيين فصاعداً أو التمويه الذي يضمحل إذا فتش ويفتضح إذا بحث عنه وهذا سبيل الجهال الذي لا حيلة بأيديهم إلا المخرفة وقال أهل السنة ليس من فعل ما أراد الله تعالى وما شاء الله كان محسناً وإنما المحسن من فعل بأمر الله تعالى به ورضيه منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم فنقول لهم اخبرونا كان الله تعالى قادراً على منع الكافر من الكفر والفاسق من الفسق وعلى منع من شتمه من النطق ومن إمراره على خاطره وعلى منع من قتل من قتل من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أم كان عاجزاً عن المنع من ذلك فإن قالوا لم يكن قادراً على المنع من شيء من ذلك فقد أثبتوا له معنى العجز ضرورة وهذا كفر مجرد وإبطال لإلاهيته تعالى وقطع عليه بالضعف والنقص وتناهي القوة وانقطاع القدرة مع التناقض الفاحش لأنهم مقرون أنه تعالى هو أعطاهم القوة التي بها كان الكفر والفسق وشتمه تعالى وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن المحال المحض أن يكون تعالى لا يقدر على أن لا يعطيهم الذي أعطاهم وهذه صفة المضطر المجبر وإن قالوا بل هو قادر على منعهم من ذلك أقروا ضرورة أنهم مريد لبقائهم على الكفر وأنه المبقي للكافر والكفر وحالف الزمان الذي امتد فيه الكافر على كفره والفاسق على فسقه وهذا نفسه هو قولنا أنه أراد كون الكفر والفسق والشتم له وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يرض عن شيء من ذلك بل سخطه تعالى وغضب على فعله وقالت المعتزلة إن كان الله تعالى أراد كون كل ذلك فهو إذاً يغضب مما أراد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونحن نقر أنه تعالى يغضب على فاعل ما أراد كونه منه ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم فإذا هذا عندكم منكر وأنتم مقرون به بأنه قادر على المنع منه فهو عندكم يغضب مما أقر ويسخط ما يقره ولا يغيره ويثبت ما لا يرضى وهذا هو الذي شنعوا فيه ولا يقدرون على دفعه والشناعة عليهم راجعة لأنهم أنكروا ما لزمهم وبالضرورة ندري أن من قدر على المنع من شيء فلم يفعل ولا منع منه فقد أراد وجود كونه ولو لم يرد كونه لغيره ولمنع منه ولما تركه يفعل فإن قالوا أنه حكيم وخلاهم دون منع لسر من الحكمة له في ذلك قيل له فاقنعوا بمثل هذا الجواب ممن قال لكم أنه أراد كونه لأنه حكيم كريم عزيز وله في ذلك سر من الحكمة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما نحن فنقول أنه تعالى أراد كون كل ذلك ولا سر ها هنا وأن كل ما فعل فهو حكمة وحق وأن قولهم هذا هادم لمقدمتهم الفاسدة أنه يقبح من الباري تعالى ما يقبح منا وفيما بيننا وما علم قط ذو عقل أن عن خلى منا عدوه منطلق اليد على وليه وأحب الناس إليه يقتله ويعذبه ويلطمه ويهينه ويتركه ينطلق على عبيده وإمائه يفجر بهم وبهن طوعاً وكرهاً والسيد حاضر يرى ويسمع وهو قادر على المنع من ذلك فلا يفعل بل لا يقنع بتركهم إلا حتى يعطي عدوه القوة على كل ذلك والآلات المعينة له ويمده بالقوى شيئاً بعد شيء فليس حكيماً ولا حليماً ولكنه عابث ظالم جائر فيلزمهم على أصلهم الفاسد أن يحكموا على الله تعالى بكل هذا لأنهم معترفون بأنه تعالى فعل كل هذا وهذا لا يلزمنا لأننا نقول أن الله تعالى بفعل ما يشاء وأن كل ما فعل مما ذكرنا وغيره فهو كله منه تعالى حكمة وحق وعدل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فبطل بضرورة المشاهدة قولهم أن الله تعالى لم يرد كون الكفر أو كون الفسق أو كون شتمه تعالى وقتل أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولو لم يرد كونه لمنع من ذلك كما منع من كون كل ما لم يرد أن يكون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويكفي من هذا كله اجتماع الأمة على قول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهذا على عمومه موجب أن كل ما في العالم كان أو يكون أي شيء كان فقد شاء الله تعالى وكل ما لم يكن ولا يكون فلم يشأه الله تعالى وقد نص الله تعالى نصاً لا يحتمل تأويلاً على أنه تعالى أراد كون كل ذلك فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ‏"‏ فنص تعالى نصاً جلياً على أنه لا يشاء أحد استقامة على طاعته تعالى إلا أن شاء الله تعالى أن يستقيم فلو صح قول المعتزلة أن الله تعالى شاء أن يستقيم كل مكلف لكان بنص القرآن كل مكلف مستقيم لأن الله تعالى عندهم قد شاء ذلك وهذا تكذيب مجرد لله تعالى نعوذ بالله من مثله فصح يقيناً لا مدخل للشك في صحته أنه تعالى شاء خلاف الاستقامة منهم ولم يشأ أن يستقيموا بنص القرآن وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه الآية غاية في البيان لأن الله تعالى جعل عدة ملائكة النار فتنة للذين كفروا وليقولوا ماذا أراد الله بهذا مثلاً فأخبر تعالى أراد أن يفتن الذين كفروا وأن يضلهم فيضلوا وأنه تعالى قصد إضلالهم وحكم بذلك كما قصد هدى المؤمنين وأراده وكذلك قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فنص تعالى على أنه نزل القرآن هدى للمؤمنين وعمي للكفار و بيقين ندري أنه تعالى إذا نزل القرآن أراد أن يكون كما قال تعالى عمي للكفار وهدى للمؤمنين وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ‏"‏ هكذا هي الآية كلها موصولة بعضها ببعض فنص تعالى على أنه لو شاء لأمن الناس والجن وهم أهل الأرض كلهم ولو في لغة العرب التي بها خاطبنا الله عز وجل ليفهمنا حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقيناً أن الله لم يشأ أن يؤمن كل من في الأرض وإذ لا شك في ذلك فباليقين أنه شاء منهم خلاف الإيمان وهو الكفر والفسق لا بد ولو كان الله تعالى أذن للكافرين في الإيمان على قول المعتزلة لكان كل من في الأرض قد آمن لأنه تعالى قد نص على أنه لا يؤمن أحد إلا بإذنه وهذا أمر من المعتزلة يكذبه العيان فصح أن المعتزلة كذبت وأن الله تعالى صدق وأنه لم يأذن قط لمن مات كافراً في الإيمان وأن من عمي عن هذه لأعمى القلب وكيف لا يكون أعمى القلب من أعمى الله قلبه عن الهدى وبالضرورة ندري أن قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ‏"‏ حق وإن من لم يأذن الله تعالى إلا في الإيمان فإنه تعالى لم يشأ أن يؤمن وإذ لم يشأ أن يؤمن فبلا شك أنه تعالى شاء أن يكفر هذا مالا انفكاك منه وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا إن يشاء الله ‏"‏ فبين الله تعالى أتم بيان على أن الآيات لا تغني شيئاً ولا النذر وهم الرسل وإنه لا يؤمن من شيء من ذلك إلا من شاء الله عز وجل أن يؤمن فصح يقيناً أنه لا يؤمن إلا من شاء الله إيمانه ولا يكفر إلا من شاء الله كفره فقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏"‏ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ‏"‏ فبالضرورة نعلم أن من صبا و جهل فإن الله تعالى لم يصرف عنه الكيد الذي صرفه برحمته عمن لم يصب ولم يجهل وإذا صرفه تعالى عن بعض ولم يصرفه عن بعض فقد أراد تعالى إضلال من صبا وجهل وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ‏"‏ فليت شعري إذ قال تعالى أنه جعل قلوب الكافرين في أكنة ان يفقهوا القرآن وجعل الوقر في آذانهم أتراه أراد أن يفقهوه و أراد أن لا يفقهوه وكيف يسوغ في عقل أحد أن يخبر تعالى أنه فعل عز وجل شيئاً لم يرد أن يفعله ولا أراد كونه ولا شاء إيجاده وهذا تخليط لا يتشكل في عقل كل ذي مسكة من عقل فصح يقيناً أن الله تعال أراد كون الوقر في آذانهم وكون الأكنة على قلوبهم وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ‏"‏ فنص تعالى على أنه لم يرد أن يجعلنا أمة واحدة ولكن شاء أن يضل قوماً ويهدي قوماً فصح يقيناً أنه تعالى شاء إضلال من ضل وقال تعالى مثنياً على قوم ومصدقاً لهم في قولهم ‏"‏ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ‏"‏ فقال النبيون عليهم الصلاة والسلام واتباعهم قول الحق الذي شهد الله عز وجل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأن الله تعالى نجاهم منه ولم ينج الكافرين منه وأن الله تعالى إن شاء ان يعودوا في الكفر عادوا فيه فصح يقيناً أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر وقد قالت المعتزلة في هذه الآية معنى إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا في غاية الفساد لأن الله تعالى لو أمرنا بذلك لم يكن عوداً في ملة الكفر بل كان يكون ثباتاً على الإيمان وتزايداً فيها وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ‏"‏ فليت شعري إذ زاد لهم الله مرضاً أتراه لم يشأ ولا أراد ما فعل من زيادة المرض في قلوبهم وهو الشرك والكفر وكيف يفعل الله ما لا يريد أن يفعل وهل هذا إلا إلحاد مجرد ممن قاله وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ‏"‏ فنص تعالى على أنه لو شاء لم يقتتلوا فوجب ضرورة أنه شاء وأراد أن يقتتلوا وفي اقتتال المقتتلين ضلال بلا شك فقد شاء الله تعالى كون الضلال ووجوده بنص كلامه تعالى وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ‏"‏ فنص تعالى على انه أراد فتنة المفتتنين وهم الكفار وكفرهم الذين لم يملك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله شيئاً فهذا نص على أن الله تعالى أراد كون الكفر من الكفار وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا غاية البيان في أنه تعالى لم يرد ان يطهر قلوبهم وبالضرورة ندري أن من يرد الله أن يطهر قلبه فقد أراد فساد دينه الذي هو ضد طهارة القلب وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ‏"‏ وهذا غاية البيان في أن الله تعالى لم يرد هدى الجميع وإذا لم يرد هداهم فقد أراد كون كفرهم الذي هو ضد الهدى وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا غاية البيان في أنه تعالى لم يشأ هدى الكفار لكن حق قوله بأنهم لا بد من أن يكفروا فيكونوا من أهل جهنم وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فأخبر تعالى أنه شاء أن يضل من أضله وشاء ان يهدي من جعله على صراط مستقيم وهم بلا شك غير الذين لم يجعلهم على صراط مستقيم ‏"‏ وأراد فتنتهم وأن لا يطهر قلوبهم وأن يكونوا من أصحاب النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏ ‏"‏ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ‏"‏ فشهد الخليل عليه السلام أن من لم يهده الله تعالى ضل وصح أن من ضل فلم يهده الله عز وجل ومن لم يهده الله وهو قادر على هداه فقد أراد ضلاله وإضلاله ولم يرد هداه وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله ما أشركوا ‏"‏ فصح يقيناً لا إشكال فيه ان الله تعالى شاء أن يشركوا إذ نص على أنه لو شاء أن لا يشركوا ما أشركوا وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه ‏"‏ وهذا نص على انه تعالى شاء أن يفعلوه إذ أخبر أنه لو شاء أن لا يفعلوه ما فعلوه وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فنص تعالى على أنه لو لم يشاء أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ما أوحوه ولو شاء أن لا يلبس بعضهم دين بعض وأن لا يقتلوا أولا دهم ما لبس عليهم دينهم ولا قتلوا أولا دهم فصح ضرورة أنه تعالى شاء أن يلبس دين من التبس دينه وأراد كون قتلهم أولادهم وأن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لسلطهم عليكم ‏"‏ فصح يقيناً أنه تعالى سلط أيدي الكفار على من قتلوه من الأنبياء والصالحين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء فنص على أنه يريد هدى قوم فيهديهم ويشرح صدورهم للإيمان ويريد ضلال آخرين فيضلهم بأن يضيق صدورهم ويحرجها فكأنما كلفوا الصعود إلى السماء فيكفروا وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ واصبر وما صبرك إلا بالله ‏"‏ فنص تعالى على أن من صبر فصبره ليس إلا بالله فصح أن من صبر فإن الله أتاه الصبر ومن لم يصبر فإن الله عز وجل لم يؤته الصبر وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تنازعوا ‏"‏ فنهانا عن الاختلاف وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ‏"‏ فنص تعالى أنه خلقهم للاختلاف إلا من رحم الله منهم ولو شاء لم يختلفوا فصح يقيناً أن الله خلقهم لما نهاهم عنه من الاختلاف وأراد كون الاختلاف منهم وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا ‏"‏ إلى قوله تعالى وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة فنص تعالى على أنه أغرى الكفار وسلب المؤمنين في الملك وأنه بعث أولئك الذين دخلوا المسجد ودخلوه مسخط لله تعالى بلا شك فصح يقيناً أنه تعالى خلق كل ذلك و أراد كونه وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك ‏"‏ فهذا نص جلي على ان الله أتى الملك ذلك الكافر فصح يقيناً أن الله تعالى فعل تمليكه وملكه على أهل الإيمان ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن ذلك يسخط الله عز وجل ويغضبه ولا يرضاه وهو نفس الذي أنكرته المعتزلة وشنعت به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم عما مضت الدنيا عليه منذ كانت من أولها إلى يومنا هذا من النصر النازل على ملوك أهل الشرك والملوك الجورة والظلم والغلبة المعطاة لهم على من ناوأهم من أهل الإسلام وأهل الفضل واحترام من أرادهم بالموت أو باضطراب الكلمة ويأت النصر لهم بوجوه الظفر الذي لا شك في أن الله تعالى فاعله من أماته أعدائهم من أهل الفضل وتأييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى فاعله من أماته من أهل الفضل وتأييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى أراد كونه وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ‏"‏ فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً على أنه كره أن يخرجوا في الجهاد الذي افترض عليهم الخروج فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كره تعالى كون ما أراد ونص على أنه ثبطهم عن الخروج في الجهاد ثم عذبهم على التثبيط الذي أخبر تعالى أنه فعله ونص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا يقين ليس بأمر إلزام لأن الله تعالى لم يأمرهم بالقعود عن الجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم بل لعنهم وسخط عليهم إذ قعدوا فإذ لا شك في هذا فهو ضرورة أمر تكوين فصح ان الله تعالى خلق قعودهم المغضب له الموجب لسخطه وإذا نص تعالى على أمر فلا اعتراض لأحد عليه وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ‏"‏ وهذا نص جلي على أنه عز وجل أراد أن يموتوا وهم كافرون وأنه تعالى أراد كفرهم والقاف من تزهق مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء معطوفة على ما أراد الله عز وجل من أن يعذبهم بها في الدنيا والواو تدخل المعطوف في حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن قال قائل فإن الله عز وجل قال في الذين قعدوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ‏"‏ فلهذا ثبطهم قلنا لا عليكم أكانوا مأمورين بالخروج معه عليه السلام متوعدين بالنار إن قعدوا لغير عذر أم كانوا غير مأمورين بذلك فإذ لا شك في أنهم كانوا مأمورين فقد ثبطهم الله عز وجل عما أمرهم به وعذبهم على ذلك وخلق قعودهم عما أمرهم به ثم نقول لهم أكان تعالى قادراً على ان يكف عن أهل الإسلام خبالهم وفتنتهم لو خرجوا معهم أم لا فإن قالوا لم يكن قادراً على ذلك عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا أنه تعالى كان قادراً على ذلك رجعوا إلى الحق وأقروا أن الله تعالى ثبطهم وكره كون ما افترض عليهم وخلق قعودهم الذي عذبهم عليه ولامهم عليه كما شاء لا معقب لحكمه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذ جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلاً بأنه عز وجل أراد ضلال من ضل وشاء كفر من كفر فقد علمنا ضرورة أن كلام الله تعالى لا يتعارض فلما اخبر عز وجل أنه لا يرضى لعباده الكفر فبالضرورة علمنا أن الذي نفا عز وجل هو غير الذي اثبت فإذ لا شك في ذلك فالذي نفى تعالى هو الرضى بالكفر والذي أثبت هو الإرادة لكونه والمشيئة لوجوده وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة فإن أبت المعتزلة من قبول كلام ربهم وكلام نبيهم صلى الله عليه وسلم وكلام إبراهيم ويوسف وشعيب وسائر الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وأبت أيضاً من قبول اللغة وما أوجبته البراهين الضرورية مما شهدت به الحواس والعقول من الله تعالى لو لم يرد كون ما هو موجود كائن لمنع منه وقد قال تعالى ‏"‏ الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ‏"‏ فشهد الله تعالى بتكذيبهم واستعاضته من ذلك بأصول المنانية أن الحكيم لا يريد كون الظلم ولا يخلقه فلبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولقد لجأ بعضهم إلى أن قال أن الله تعالى في هذه الآيات معنى ومراداً لا نعلمه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تجاهل ظاهر وراجع لنا عليهم سواء بسواء في خلق الله تعالى أفعال عباده ثم يعذبهم عليها ولا فرق فكيف وهذا كله لا معنى له بل الآيات كلها حق على ظاهرها لا يحل صرفها عنه لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ قرآناً عربياً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ تبياناً لكل شيء ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ‏"‏ فأخبر تعالى أن القرآن تبيان لكل شيء فقالت المعتزلة أنه لا يفهمه أحد وأنه ليس بياناً نعوذ بالله من مخالفة الله عز وجل ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا فرق بين ما تلونا من الآيات في أن الله تعالى شاء كون الكفر والضلال وبين قوله تعالى ‏"‏ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله يفعل ما يشاء ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ يجتبي من رسله من يشاء ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ يرزق من يشاء ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يختص برحمته من يشاء ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فعال لما يريد ‏"‏ فهذا العموم جامع المعاني هذه الآيات ونص القرآن وإجماع الأمة على ان الله عز وجل حكم بأن من حلف فقال إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله على أي شيء حلف فإنه إن فعل ما حلف عليه أن لا يفعله فلا حنث عليه ولا كفارة تلزمه لأن الله تعالى لو شاء لأنفذه وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن اعترضوا بقول الله عز وجل وقالوا‏:‏ ‏"‏ لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ‏"‏ فلا حجة لهم في هذه الآية لأن الله عز وجل لا يتناقض كلامه بل يصدق بعضهم بعضاً وقد أخبر تعالى أنه لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وأنه لو لم يشاء أن يشركوا ما أشركوا وأنه شاء إضلالهم وأنه لا يريد أن يطهر قلوبهم فمن المحال الممتنع أن يكذب الله عز وجل قوله الذي أخبر به وصدقه فإذ لا شك في هذا فإن في الآية التي ذكروا بيان نقض اعتراضهم بها بأوضح برهان وهو أنه لم يقل تعالى أنهم كذبوا في قولهم‏:‏ ‏"‏ لو شاء الرحمن ما عبدناهم ‏"‏ فكان يكون لهم حينئذ في الآية متعلق وإنما أخبر تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم عندهم لكن تخرصاً ليس في هذه الآية معنى غير هذا أصلاً وهذا حق وهو قولنا أن الله تعالى لم ينكر قط فيها ولا في غيرها معنى قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم بل صدقه في الآيات الأخر وإنما أنكر عز وجل أن قالوا ذلك بغير علم لكن بالتخرص وقد أكذب الله عز وجل من قال الحق الذي لا حق أحق منه إذ قاله غير معتقد له قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلما قالوا أصدق الكلام وهو الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول غير معتقدين لذلك سماهم الله تعالى كاذبين وهكذا فعل عز وجل في قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم قالوا هذا الكلام الذي هو الحق غير عالمين بصحته أنكر تعالى عليهم أن يقولوه متخرصين وبرهان هذا قول الله تعالى أثر هذه الآية نفسها‏:‏ ‏"‏ أم أتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون ‏"‏ ‏"‏ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ‏"‏ فبين تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم من كتاب أتاهم وأن الذين قالوا معتقدين له إنما هو أنهم اهتدوا باتباع آثار آبائهم فهذا هو الذي عقدوا عليه وهذا أنكر تعالى عليهم لا قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلاً والحمد لله رب العالمين فإن اعترضوا بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن سكتوا ها هنا لم يهنهم التمويه وقلنا لهم صلوا القراءة وأتموا معنى الآية فإن بعد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ‏"‏ متصلاً به‏:‏ ‏"‏ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فآخر هذه الآية يبين أولها وذلك أن الله تعالى أيضاً لم يكذبهم فيما قالوه من ذلك بل حكى عز وجل انهم قالوا‏:‏ ‏"‏ لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ‏"‏ ولم يكذبهم في ذلك أصلاً بل حكى هذا القول عنهم كما حكى تعالى أيضاً قولهم‏:‏ ‏"‏ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ‏"‏ ولو أنكر عز وجل قولهم ذلك لأكذبهم فإذ لم يكذبهم فلقد صدقهم في ذلك والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن اعترضوا بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إنما تلونا جميع الآيات على نسقها في القرآن واتصالها خوف أن يعترضوا بالآية ويسكتوا عند قوله يخرصون فكثيراً ما احتجنا إلى بيان مثل هذا من الاقتصار على بعض الآية دون بعضها من تمويه من لا يتقي الله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه الآية من أعظم حجة على القدرية لأنه تعالى لم ينكر عليهم قولهم‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ‏"‏ ولو أنكره لكذبهم فيه وإنما أنكر تعالى قولهم ذلك بغير علم وإن وافقوا الصدق والحق كما قدمنا آنفاً وقد بين تعالى أنه إنما أنكر عليهم ذلك بقوله عز وجل في الآية نفسها ‏"‏ إن تتبعون إلا الظن وإن انتم إلا تخرصون ‏"‏ ثم لم يدعنا تعالى في لبس من ذلك بل واتبع ذلك نسقاً واحداً بأن قال‏:‏ ‏"‏ فلله الحجة البالغة فلو شاء لهديكم أجمعين ‏"‏ فصدقهم عز وجل في قولهم إنه لو شاء ما أشركوا ولا آباؤهم ولا حرموا ما حرموا وأخبر تعالى أنه لو شاء لهداهم فاهتدوا وبين تعالى أن له الحجة عليهم في ذلك ولا حجة لأحد عليه تعالى وأنكر عز وجل أن اخرجوا ذلك فخرج العذر لأنفسهم أو فخرج الاحتجاج على الرسل عليهم السلام كما تفعل المعتزلة ثم بين تعالى أنه إنما أنكر أيضاً تكذيبهم رسله بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ كذلك كذب الذين من قبلهم ‏"‏ بالذال المشددة بلا خلاف من القراء ودعواهم أن الله تعالى حرم ما ادعوا تحريمه وهم كاذبون بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ‏"‏ فوضح بكل ما ذكرنا بطلان قول المعتزلة الجهال وبأن صحة قولنا أن الله تعالى شاء كون كل ما في العالم من إيمان وشرك وهدى وضلال وإن الله تعالى أراد كون ذلك كله وكيف يمكن أن ينكر تعالى قولهم لو شاء الله ما أشركنا وقد أخبرنا عز وجل بهذا نصاً في قوله في السورة نفسها‏:‏ ‏"‏ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو واعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا ‏"‏ فلا ح يقيناً صدق ما قلنا من انه تعالى لم يكذبهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وهذا مثل ما ذكر الله تعالى من قولهم‏:‏ ‏"‏ أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ‏"‏ فلم يورد الله عز وجل قولهم هذا تكذيباً بل صدقوا في ذلك بلا شك ولو شاء الله لأطعم الفقراء والمجاويع وما أرى المعتزلة تنكر هذا وإنما أورد الله تعالى قولهم هذا لاحتجاجهم به في الامتناع من الصدقة وإطعام الجائع وبهذا نفسه احتجت المعتزلة على ربها إذ قالت يكلفنا ما لا يقدرنا عليه ثم يعذبنا بعد ذلك على ما أراد كونه منا فسلكوا مسلك القائلين لم كلفنا الله عز وجل إطعام هذا الجائع ولو أراد إطعامه لأطعمه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ تباً لمن عارض أمر ربه تعالى واحتج عليه بل لله الحجة البالغة ولو شاء لأطعم من ألزمنا إطعامه ولو شاء لهدى الكافرين فآمنوا ولكنه تعالى لم يرد ذلك بل أراد أن يعذب من لا يطعم المسكين ومن أضله من الكافرين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وحسبنا الله ونعم الوكيل وقالت المعتزلة معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض ‏"‏ وسائر الآيات التي تلوتهم إنما هو لو شاء عز وجل لاضطرهم إلى الإيمان فآمنوا مضطرين فكانوا لا يستحقون الجزاء بالجنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تأويل جمعوا فيه بلايا جمة أولها أنه قول بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو ساقط ويقال لهم ما صفة الإيمان الضروري الذي لا يستحق عليه الثواب عندكم وما صفة الإيمان غير الضروري الذي يستحق به الثواب عندكم فإنهم لا يقدرون على فرق أصلاً إلا أن يقولوا هو مثل ما قال الله عز وجل إذ يقول تعالى‏:‏ ‏"‏ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ‏"‏ ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون ‏"‏ ومثل حالة المحتضر عند المعاينة التي لا يقبل فيها إيمانه وكما قيل لفرعون‏:‏ ‏"‏ الآن وقد عصيت قبل ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فيقال لهم كل هذه الآيات حق وقد شاهدت الملائكة تلك الآيات وتلك الأحوال ولم يبطل بذلك قبول إيمانهم فهلا على أصولكم صار إيمانهم إيمان اضطرار لا يستحقون عليه جزاء في الجنة أما صار جزاؤهم عليه أفضل من جزاء كل مؤمن دونهم وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً ثم نقول لهم أخبرونا عن إيمان المؤمنين إذ صح عندهم صدق النبي بمشاهدة المعجزات من شق القمر وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير ونبعان الماء الغزير من بين الأصابع وشق البحر وإحياء الموتى وأوضح كل ذلك بنقل التواتر الذي به صح ما كان قبلنا من الوقائع والملوك وغير ذلك مما يصير فيه من بلغه كمن شاهده ولا فرق في صحة اليقين لكونهم هل إيمانهم إلا إيمان يقين قد صح عندهم وأنه حق ولم يتخالجهم فيه شك فإن علمهم به كعلمهم أن ثلاثة أكثر من اثنين وكعلمهم ما شاهدوه بحواسهم في أنه كله حق وعلموه ضرورة أم إيمانهم ذلك ليس يقيناً مقطعوعاً بصحة ما آمنوا به عنده كقطعهم على صحة ما علموه بحواسهم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا بل هو الآن يقين قد صح علمهم بأنه حق لا مدخل للشك فيه عندهم كتيقنهم صحة ما علموه بمشاهدة حواسهم قلنا لهم نعم هذا هو الإيمان الاضطراري بعينه وإلا ففرقوا وهذا الذي موهتم بأنه لا يستحق عليه من الجزاء كالذي يستحق على غيره وبكل تمويهكم بحمد الله تعالى إذ قلتم ان معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض إنه كان يضطرهم إلى الإيمان فإن قالوا بل ليس إيمان المؤمنين هكذا ولا علمهم بصحة التوحيد والنبوة على يقين وضرورة قيل لهم قد أوجبتم أن المؤمنين على شك في إيمانهم وعلى عدم يقين في اعتقادهم وليس هذا إيماناً بل كفر مجرد ممن كان دينه هكذا فإن كان هذا صفة إيمان المعتزلة فهم أعلم بأنفسهم وأما نحن فإيمانناولله الحمد إيمان ضروري لا مدخل للشك فيه كعلمنا أن ثلاثة أكبر من اثنين وأن كل بناء فمبني وكل من أتى بمعجزة فمحق في نبوته ولا نبالي إن كان ابتداء علمنا استدلالاً أم مدركاً بالحواس إذ كانت نتيجة كل ذلك سواء في تيقن صحة الشيء المعتقد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم عن الذين يرون بعض آيات ربنا يوم لا ينفع نفساً إيمانها أكان الله تعالى قادراً على أن ينفعهم بذلك الإيمان ويجزيهم عليه جزاءه لسائر المؤمنين أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا بل هو قادر على ذلك رجعوا إلى الحق والتسليم لله عز وجل وأنه تعالى منع من شاء وأعطى من شاء وأنه تعالى أبطل إيمان بعض من آمن عند رؤية آية من آياته ولم يبطل إيمان من آمن عند رؤية آية أخرى وكلها سواء في باب الإعجاز وهذا هو المحاباة المحضة والجور البين عند المعتزلة فإن عجزوا ربهم تعالى عن ذلك أحالوا وكفروا وجعلوه تعالى مضطراً مطبوعاً محكوماً عليه تعالى الله عن ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏"‏ فهؤلاء قوم يونس لما رأوا العذاب آمنوا فقبل الله عز وجل إيمانهم وآمن فرعون وسائر الأمم المعذبة لما رأوا العذاب فلم يقبل الله عز وجل منهم ففعل الله تعالى ما شاء لا معقب لحكمه فظهر فساد قولهم في أن الإيمان الاضطراري لا يستحق عليه جزاء جملة وصح أن الله تعالى يقبل إيمان من شاء ولا يقبل إيمان من شاء ولا مزيد ثم يقال لهم وبالله تعالى التوفيق هبكم لو صح لكم هذا الباطل الغث الذي هديتم به من أن معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى إنما هو لاضطرهم إلى الإيمان فأخبرونا لو كان ذلك فأي ضرر كان يكون في ذلك على الناس والجن بل كان يكون في ذلك الخير كله وماذا ضر الأطفال إذ لم يكن لهم إيمان اختياري كما تزعمون وقد حصلوا على أفضل المواهب من السلامة من النار بالجملة ومن هول المطلع وصعوبة الحساب وفظاعة تلك المواقف كلها ودخل الجنة جميعهم بسلام آمنين منعمين لم يروا فزعاً رآه غيرهم وأيضاً فإن دعواهم هذه التي كذبوا فيها على الله عز وجل إذ وصفوا عن مراد الله تعالى ما لم يقله تعالى فقد خالفوا فيها القرآن واللغة لأن اسم الهدى والإيمان لا يقعان البتة على معنى غير المعنى المعهود في القرآن واللغة وهما طاعات الله عز وجل والعمل بها والقول بها والتصديق بجميعها الموجب كل ذلك بنص القرآن رضي الله عز وجل وجنته ولا يسمى الجماد والحيوان غير الناطق ولا المجنون ولا الطفل مؤمناً ولا مهتدياً إلا على معنى جرى أحكام الإيمان على المجنون والطفل خاصة وبرهان ما قلنا قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فصح أن الهدى الذي لو أراد الله تعالى جمع الناس عليه وهو المنقذ من النار والذي لا يملأ جهنم من أهله وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ‏"‏ فصح أن الإيمان جملة شيء واحد هو المنقذ من النار الموجب للجنة وأيضاً فإن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏"‏ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ‏"‏ ويقول‏:‏ ‏"‏ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ‏"‏ ويقول تعالى‏:‏ ‏"‏ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ‏"‏ فهذه الآيات مبنية أن الهدى المذكور هو الاختياري عند المعتزلة لأنه تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لا إكراه في الدين ‏"‏ فصح يقيناً أن الله تعالى لم يرد قط بقوله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض إيماناً فيه إكراه فبطل هذرهم والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لنا فإذا أراد الله تعالى كون الكفر والضلال فأريدوا ما أراد الله تعالى من ذلك قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق ليس لنا أن نفعل ما لم نؤمر به ولا يحل لنا أن نريد ما لم يأمرنا الله تعالى بإرادته وإنما علينا ما أمرنا به فنكره ما أمرنا بكراهيته ونحب ما أمرنا بمحبته ونريد ما أمرنا بإرادته ثم نسألهم هل أراد الله تعالى إمراض النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمرضه وموته صلى الله عليه وسلم إذ أماته وموت إبراهيم ابنه إذ أماته أولم يرد الله تعالى شيئاً من ذلك فلا بد من أن الله تعالى أراد كون كل ذلك فيلزم أن يريدوا موت النبي صلى الله عليه وسلم ومرضه وموت ابنه إبراهيم لأن الله تعالى أراد كل ذلك فإن أجابوا إلى ذلك ألحدوا بلا خلاف وعصوا الله ورسوله وإن أبوا من ذلك بطل ما أرادوا إلزامنا إياه إلا أنه لازم لهم على أصولهم الفاسدة لا لنا لأنهم صححوا هذه المسألة ونحن لم نصححها ومن صحح شيئاً لزمه ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق لسنا ننكر في حال ما يباح لنا فيه إرادة الكفر من بعض الناس فقد أثنى الله عز وجل على ابن آدم في قوله لأخيه‏:‏ ‏"‏ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ‏"‏ فهذا ابن آدم الفاضل فقد أراد أن يكون أخوه من أصحاب النار وأن يبوء بإثمه مع إثم نفسه وقد صوب الله عز وجل قول موسى وهارون عليهما السلام‏:‏ ‏"‏ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما ‏"‏ فهذا موسى وهارون عليهما السلام قد أرادا وأحبا أن لا يؤمن فرعون وأن يموت كافراً إلى النار وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه دعا على عتبة بن أبي وقاص أن يموت كافراً إلى النار فكان كذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأصدق الله عز وجل أنا عن نفسي التي هو أعلم بما فيها مني أن الله تعالى يعلم أني لأسر بموت عقبة بن أبي معيط كافراً وكذلك أمر أبي لهب لأذاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتتم كلمة العذاب عليهما وأن المرء ليسر بموت من استبلغ في أذاه ظلماً بأن يموت على أقبح طريقة وقد روينا هذا عن بعض الصالحين في بعض الظلمة ولا حرج على من ائتسى بمحمد وبموسى وبأفضل ابني آدم صلى الله عليه وسلم وليت شعري أي فرق بين لعن الكافر والظالم والدعاء عليه بالعذاب في النار وبين الدعاء عليه بأن يموت غير متوب عليه والمسرة بكلا الأمرين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لسلطهم عليكم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما النصر إلا من عند الله ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ هو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ‏"‏ فصح يقيناً أن الله تعالى سلط الكفار على من سلطهم عليهم من الأنبياء وعلى أهل بئر معونة ويوم أحد ونصرهم إملاء لهم وابتلاء للمؤمنين وإلا فيقال لمن أنكر هذا أتراه تعالى كان عاجزاً عن منعهم فإن قالوا نعم كفروا وناقضوا لأن الله تعالى قد نص على أنه كف أيدي الكفار عن المؤمنين إذ شاء وسلط أيديهم على المؤمنين ولم يكفها إذ شاء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقال بعض شيوخ المعتزلة أن إسلام الله تعالى من أسلم من الأنبياء إلى أعدائه فقتلوهم وجرحوهم وإسلام من أسلم من الصبيان إلى أعدائه يحضونهم ويغلبونهم على أنفسهم بركوب الفاحشة إذا كان ليعوضهم أفضل الثواب فليس خذلاناً فقلنا دعونا من لفظة الخذلان فلسنا نجيزها لأن الله تعالى لم يذكرها في هذا الباب لكنا نقول لكم إذا كان قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم ما يكون من الكفر وكان الله عز وجل بقولكم قد أسلم أنبياؤه صلوات الله عليهم إلى أعدائه ليعوضهم أجل عوض فقد أقررتم بزعمكم أن الله عز وجل أراد إسلامهم إلى أعدائهم وإذا أراد الله عز وجل ذلك بإقراركم فقد أراد بإقراركم كون أعظم ما يكون من الكفر وشاء وقوع أعظم الضلال ورضي ذلك لأنبيائه عليهم السلام على الوجه الذي تقولونه كائناً ما كان وهذا لا مخلص لهم منه وأيضاً فنقول لهذا القائل إذا كان إسلام الأنبياء إلى أعداء الله عز وجل يقتلونهم ليس ظلماً أو عبثاً على توجيهكم المناقض لأصولكم في أنه أدى إلى أجزل الجزاء فليس خذلاناً وكذلك إسلام المسلم إلى عدوه يحضه ويرتكب فيه الفاحشة فهو على أصولكم خير وعدل فيلزمكم أن تتمنوا ذلك وأن تسروا بما نيل من الأنبياء عليهم السلام في ذلك وأن تدعوا فيه إلى الله تعالى وهذا خلاف قولكم وخلاف إجماع أهل الإسلام وهذا لا مخلص لهم منه ولا يلزمنا نحن ذلك لأننا لا نسر إلا بما أمرنا الله تعالى بالسرور به ولا نتمنى إلا ما قد أباح لنا تعالى أن ندعوه فيه وكل فعله عز وجل وإن كان عدلاً منه وخيراً فقد افترض تعالى علينا أن ننكر من ذلك ما سماه من غيره ظلماً وأن نبرأ منه ولا نتمناه لمسلم فإنما نتبع ما جاءت به النصوص فقط وبالله تعالى التوفيق وقال قائل من المعتزلة إذا حملتم قول تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ‏"‏ فما يدريكم لعله عليكم عمى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الله تعالى قد نص على انه لا يكون عمى إلا على الذين لا يؤمنون ونحن مؤمنون ولله تعالى الحمد فقد أمنا ذلك وقد ذم الله تعالى قوماً حملوا القرآن على غير ظاهره فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ يحرفون الكلم عن مواضعه ‏"‏ فهذه صفتكم على الحقيقة الموجودة فيكم حساً فمن حمل القرآن على ما خوطب به من اللغة العربية واتبع بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن له هدى وشفاء ومن بدل كلنه عن مواضعه وادعى فيه دعاوى برأيه وكهانات بطنه وأسراراً وأعرض عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم المبين عن الله تعالى بأمره ومال إلى قول المنانية فهو الذي عليه القرآن عمى وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن نوادر المعتزلة وعظيم جهلها وحماقتها وإقدامها أنهم قالوا أن الشهادة التي غبط الله تعالى بها الشهداء وأوجب لهم بها أفضل الجزاء وتمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفضلاء المسلمين ليس هي قتل الكافر للمؤمن ولا قتل الظالم للمسلم البريء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وجنون المعتزلة وجهلهم و إهذارهم ووساوسهم لا قياس عليها وحق لمن استغنى عن الله عز وجل وقال أنه يقدر على ما لا يقدر عليه ربه تعالى وقال أن عقله كعقول الأنبياء عليهم السلام سواء بسواء أن يخذله الله عز وجل مثل هذا الخذلان نعوذ بالله من خذلانه ونسأله العصمة فلا عاصم سواء أما سمعوا قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ‏"‏ ثم إنهم فسروا الشهادة بعقولهم فقالوا إنما الشهادة الصبر على الجراح المؤدي إلى القتل والعزم على التقدم إلى الحرب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وفي هذا الكلام من الجنون ثلاثة أضرب أحدها أنه كلام مبتدع لم يقبله أحد قبل متأخريهم المنسلخين من الخير جملة والثاني أنه لو وضح ما ذكروا لكانت الشهادة في الحياة لا بالموت لأن الصبر على الجراح والعزم على التقدم لا يكونان إلا في الحياة والشهادة في سبيل الله لا تكون بنص القرآن وصحيح الأخبار وإجماع الأمة إلا بالقتل والثالث أن الذي منه هربوا فيه وقعوا بعينيه وهو أن الشهادة التي تمنى المسلمون بها أن كانت العزم على التقدم إلى الحرب والصبر على الجراح المؤدية إلى القتل فقد حصل تمني قتل الكفار للمسلمين وتمني أن يجرحوا المسلمين جراحاً تؤدي إلى القتل وتمني ثبات الكفار على الكفر حتى يجرحوا أهل الإسلام جراحاً قاتلة وحرب الكفار للمسلمين للمسلمين وثباتهم لهم وجراحهم إياهم معاص وكفر بلا شك فقد حصلوا على تمني المعاصي وهو الذي به شنعوا وبالله تعالى التوفيق فبطل كل ما شنعت به المعتزلة والحمد لله رب العالمين كثيراً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وضل جمهور المعتزلة في فصل من القدر ضلالاً بعيداً فقالوا بأجمعهم حاشا ضرار بن عمرو وحفصاً الفرد وبشر بن المعتمر ويسيراً ممن اتبعهم أنه ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه جميع الناس كافرهم ومؤمنهم ولا عنده هدي أهدى مما قد هدى به الكافر والمؤمن هداً مستويا وأنه ليس يقدر على شيء هو أصلح مما فعل بالكفار والمؤمنين ثم اختلف هؤلاء فقال جمهورهم أنه تعالى قادر على أمثال ما فعل من الصلاح بلا نهاية وقال الأقل منهم وهم عباد ومن وافقه هذا باطل لأنه لا يجوز أن يترك الله تعالى شيئاً يقدر عليه من الصلاح من أجل فعله لصلاح ما وحجتهم في هذا الكفر الذي أتوا به أنه لو كان عنده أصلح أو أفضل مما فعل بالناس ومنعهم إياه لكان بخيلاً ظالماً لهم ولو أعطى شيئاً من فضله بعض الناس دون بعض لكان محابياً ظالماً والمحاباة جور ولو كان عنده ما يؤمن به الكفار إذاً أعطاهم إياه ثم منعهم إياه لكان ظالماً لهم غاية الظلم قالوا وقد علمنا أن إنساناً لو ملك أموالاً عظيمة تفضل عنه ولا يحتاج إليها فقصده جار فقير له تحل له الصدقة فسأله درهماً يحيي به نفسه وهو يعلم فقره إليه ويعلم أنه يتدارك به رمقه فمنعه لا لمعنى فإنه بخيل قالوا فلو علم أنه إذا أعطاه الدرهم سهلت عليه أفعال كلفه إياها فمنعه من ذلك لكان بخيلاً ظالماً فلو علم أنه لا يصل إلى ما كلفه إلا بذلك الدرهم فمنعه لكان بخيلاً ظالماً سفيهاً فهذا كل ما احتجوا به لا حجة لهم غير هذه البتة وذهب ضرار بن عمرو وحفص الفرد وبشر بن المعتمر ومن وافقهم وهم قليل منهم إلى أن عند الله عز وجل ألطافاً كثيرة لا نهاية لها لو أعطاها الكفار لآمنوا إيماناً اختياريا يستحقون به الثواب بالجنة وقد أشار إلى نحو هذا ولم يحققه أبو علي الجباي وابنه أبو هاشم وكان بشر بن المعتمر يكفر من قال بالأصلح والمعتزلة اليوم تدعي أن بشراً تاب عن القول باللطف ورجع إلى القول بالأصلح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وحجة هؤلاء أنه تعالى قد فعل بهم ما يؤمنون عنده لو شاؤوا فليس لهم عليه غير ذلك ولا يلزمه أكثر من ذلك فعارضهم أصحاب الأصلح بأن قالوا أن الاختيار هو ما يمكن فعله ويمكن تركه فلو كان الكفار عند إتيان الله تعالى بتلك الألطاف يختارون الإيمان لأمكن أن يفعلوه وأن لا يفعلوه أيضاً فعادت الحال إلى ما هي عليه إلا أن يقولوا أنهم كانوا يؤمنون ولا بد فهذا اضطرار من الله تعالى لهم إلى الإيمان لا اختيار قالوا ونحن لا ننكر هذا بل الله تعالى قادر على أن يضطرهم إلى الإيمان كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ‏"‏ قالوا فالذي فعل الله تعالى بهم أفضل وأصلح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا لازم لمن لم يقل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لزوماً لا ينفكون عنه وأما نحن فلا يلزمنا وإنما سألناهم هل الله تعالى قادر على أن يأتي الكفار بألطاف يكون منهم قال أبو محمد‏:‏ كأن أصحاب الأصلح غيب عن هذا العالم أو كأنهم إذا حضروا فيه سلبت عقولهم وطمست حواسهم وصدق الله فقد نبه على مثل هذا إذ يقول تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏"‏ أترى هؤلاء القوم ما شاهدوا أن الله عز وجل منع الأموال قوماً وأعطاها آخرين ونبأ قوماً وأرسلهم إلى عباده وخلق قوماً آخرين في أقاصي أرض الزنج يعبدون الأوثان وأمات قوماً من أوليائه ومن أعدائه عطشاً وعنده مجادح السماوات وسقى آخرين الماء العذب أما هذه محاباة ظاهرة فإن قالوا أن كل ما فعل من ذلك فهو أصلح بمن فعله به سألناهم عن إماتته تعالى الكفار وهم يصيرون إلى النار وإعطائه تعالى قوماً مالاً ورياسة فبطروا وهلكوا وكانوا مع القلة والخمول صالحين وأفقر أقواماً فسرقوا وقتلوا وكانوا في حال الغنى صالحين وأصح أقواماً وجمل صورهم فكان ذلك سبباً لكون المعاصي منهم وتركوها إذ أسنوا وأمرض أقواماً فتركوا الصلاة عمداً وضجروا وثربوا وتكلموا بما هو الكفر أو قريب منه وكانوا في صحتهم شاكرين لله يصلون ويصومون أهذا الذي فعل الله بهم كان أصلح لهم فإن قالوا نعم كابروا المحسوس وإن قالوا لو عاشوا لزادوا قلنا لهم فإنما كان أصلح لهم أن يخترمهم الله عز وجل قبل البلوغ أو يطيل أعمارهم في الكفر ويملكهم الجيوش فيهلك بها أرض الإسلام ويقوي أجسادهم وأذهانهم فيضل بهم جماعة كما فعل لسعيد الفيومي اليهودي وأباريطا اليعقوبي النصراني والمتحققين بالكلام من اليهودي والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية أما كان أصلح لهم ولمن ضل منهم أن يميتهم صغاراً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فانقطعوا فلجأ بعضهم إلى أن قال لعله قد سبق في علم الله تعالى أنه لو أماتهم صغاراً لكفر خلق من المؤمنين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وفي هذا الجواب من السخافة وجوه جمة أولها أنه دعوى بالدليل والثاني أنهم لا ينفكون به مما ألزمناهم ونقول لهم كان الله عز وجل قادراً على أن يميتهم ولا يوجب موتهم كفر أحد فإن قالوا لا عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا بل كان قادراً على ذلك ألزموه الجور والظلم على أصولهم ولا بد من أحد الأمرين والثالث أنه ما يسمع في العالم بأسخف من قول من قال أن إنساناً مؤمناً يكفر من أجل صغير مات فهذا أمر ما شوهد قط في العالم ولا توهم ولا يدخل في الإمكان ولا في العقل وكم طفل يموت كل يوم منذ خلق الله تعالى الدنيا إلى يوم القيامة فهل كفر أحد قط من أجل موت ذلك الطفل وإنما عهدنا الناس يكفرون عندما يقع لهم من الغضب الذي يخلقه الله عز وجل في طبائعهم وبالعصبية التي آتاهم الله عز وجل أسبابها وبالملك الذي أتاهم الله إياه إذا عارضهم فيه عارض والرابع أنه ليس في الجور ولا في العبث ولا في الظلم ولا في المحاباة أعظم من أن يبقي طفلاً حتى يكفر فيستحق الخلود في النار ولا يميته طفلاً فينجو من النار من أجل صلاح قوم لولا كفر هذا المنحوس لكفر أولئك وما في الظلم والمحاباة أقبح من هذا وهل هذا إلا كمن وقف إنساناً للقتل فأخذ هو آخر من عرض الطريق فقتله مكانه فظهر فساد هذا القول السخيف الملعون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقال بعضهم قد يخرج من صلبه مؤمنون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد يموت الكافر عن غير عقب وقد يلد الكافر كفاراً أضر على الإسلام منه ومع هذا فكل ما ذكرنا يلزم أيضاً في هذا الجواب السخيف وأيضاً فقد يخرج من صلب المؤمن كافر طاغ وظالم باغ يفسد الحرث والنسل ويثير الظلم ويميت الحق ويؤسس القتالات والمنكرات حتى يضل بها خلق كثير حتى يظنوا أنها حق وسنة فأي وجه لخلق هؤلاء على أصول المعتزلة الضلال نعم وأي معنى وأي إصلاح في خلق إبليس ومردة الشياطين وإعطائهم القوة على إضلال الناس من الحكمة المعهودة بيننا وبالضرورة نعلم أن من نصب المصائد للناس في الطرقات وطرح الشوك في ممشاهم فإنه عائب سفيه فيما بيننا والله تعالى خلق كل ما ذكرنا بإقرارهم وهم الحكيم العليم ثم وجدناه تعالى قد شهد للذين بايعوا تحت الشجرة بأنه علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ثم أمات منهم من ولي منهم أمور المسلمين سريعاً ووهن قوي بعضهم وملك عليهم زياداً والحجاج وبغاة الخوارج فأي مصلحة في هذا للحجاج ولقطري أو لسائر المسلمين لو عقلت المعتزلة ولكن الحق هو قولنا وهو أن كل ذلك عدل من الله وحق وحكمة وهلاك ودمار وإضلال للحجاج المسلط ولقطري ونظايرهما أراد الله تعالى بذلك هلاكهم في الآخرة ونعوذ بالله من الخذلان ثم نسألهم ماذا تقولون إذا أمر الله عز وجل بجلد الحرة في الزنا ماية جلدة ويجلد الأمة نصف ذلك أليس هذا محاباة للأمة وإذا خول الله عز وجل قوماً أموالاً جمة فعاثوا فيها وحرم آخرين أما هذا عين المحاباة والجور على أصلهم الفاسد فيمن منع جاره الفقير إلا أن يطردوا قولهم فيصير إلى قول من ذكر أن الواجب يواسي الناس في الأموال والنساء على السوا وبالجملة فإن القوم يدعون نفي التشبيه ويكفرون من شبه الله تعالى بخلقه ثم لا نعلم أحداً أشد تشبيهاً لله تعالى بخلقه منه فيلزمونه الحكم ويحرون عليه لأمر والنهي ويشبهونه بخلقه تعالى فيما يحسن منه ويقبح ثم نقضوا أصولهم إذ من قولهم أن ما صلح بيننا بوجه من الوجوه فلسنا نبعده عن الباري تعالى ونحن نجد فيما بيننا يحابي أحد عبيده على الآخر فيجعل أحدهم مشرفاً على ماله وعياله وحاضناً لولده ويرتضيه لذلك من صغره بأن يعلمه الكتاب والحساب ويجعل الآخر رائضاً لدابته وجامعاً للزبل لبستانه ومنقياً لحشه ويرتضيه لذلك من صغره وكذلك الإماء فيجعل إحداهن محل إزاره ومطلباً لولده ويجعل الثانية خادماً لهذه في الطبخ والغسل وهذا عدل بإجماع المسلمين كلهم فلم أنكروا أن يحابى الباري من شاء من عباده بما أحب من التفضيل ووجدوا في الشاهد من يعطي المحاويج من ماله فيعطي أحدهم ما يغنيه ويخرجه عن الفقر وذلك نحو ألف دينار ثم يعطي آخر مثله ألف دينار ويزيد هألف دينار فإنه وإن حابى فمحسن غير ملوم فلم منعوا ربهم من ذلك وجوروه إذا فعله وهو تعالى بلا شك أتم ملكاً لكل ما في العالم من أحدنا لما خوله عز وجل من الأملاك ونقضوا أصلهم في أن ما حسن في الشاهد بوجه من الوجوه لم يمنعوا وقوعه من الباري جل وعز ووجدوا في الشاهد من يدخر أموالاً عظيمة فيؤدي جميع الحقوق اللازمة له حتى لا يبقى بحضرته محتاج ثم يمنع سائر ذلك فلا يسمى بخيلاً فلأي شيء منعوا ربهم جل وعز من مثل ذلك وجوروه وبخلوه إذا لم يعط أفضل ما عنده وهذا كله بين لا إشكال فيه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم عن قول لهم عجيب وهو أنهم أجازوا أن يخلق الله عز وجل أضعف الأشياء ثم لا يكون قادراً على أضعف منه فهكذا هو قادر فاعل أصلح الأشياء ثم لا يكون قادر على أصلح منه وعلى أصغر الأشياء وهو الجزء الذي لا يتجزأ ولا يقدر على أصغر منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا إيجاب منهم لتناهي قدرة الله عز وجل وتعجيز له تعالى وإيجاب لحدوثه وإبطال إلاهيته إذ التناهي في القوة صفة المحدث المخلوق لا صفة الخالق الذي لم يزل وهذا خلاف القرآن وإجماع المسلمين وتشبيه الله تعالى بخلقه في تناهي قدرتهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولكنه لازم لكل من قال بالجزء الذي لا يتجزأ وبالقياس لزوماً صحيحاً لا انفكاك لهم منه ونعوذ بالله من هذه المقالات المهلكة بل نقول أن الله تعالى كل ما خلق شيئاً صغيراً أو ضعيفاً أو كبيراً أو قوياً أو مصلحة فإنه أبداً بلا نهاية قادر على خلق أصغر منه وأضعف وأقوى وأصلح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم أيقدر الله تعالى على ما لو فعله لكفر الناس كلهم فإن قالوا لا لحقوا بعلي الأسواري وهم لا يقولون بهذا ولو قالوه لأكذبهم الله تعالى إذ يقول‏:‏ ‏"‏ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ‏"‏ وإن قالوا نعم هو قادر على ذلك قلنا لهم فقد قطعتم بأنه تعالى يقدر على الشر ولا يقدر على الخير هذه مصيبة على أصولهم ولزمهم أيضاً فساد أصلهم في قولهم أن من قدر على شيء قدر على ضده لأنهم يقولون أن الله تعالى يقدر على ما يكفر الناس كلهم عنده ولا يقدر على مل يؤمن جميعهم عنده‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسأل من قال منهم أنه تعالى يقدر على مثل ما فعل من الصلاح بلا نهاية لا على أكثر من ذلك فنقول لهم أن على أصولكم لم تنفكوا من تجوير الباري جل وعز لأن بضرورة الحس ندري إذا استضافت المصالح بعضها إلى بعض كانت أصلح من انفراد كل مصلحة على الأخرى فإذا هو قادر عندكم على ذلك ولم يفعله بعباده فقد لزمه ما ألزمتموه لو كان قادراً على أصلح مما فعل ولم يفعله فقالوا هذا كالدواء والطعام والشراب لكل ذلك مقدار يصلح به من أعطيه فإذا استضافت إليه أمثاله كان ضرراً قال علي رضي الله عنه ولم يقل قط ذو عقل ومعرفة بحقايق الأمور إن غفار كذا مصلحة جملة وعلى كل حال ولا أن الأكل مصلحة أبداً وعلى الجملة ولا أن الشراب مصلحة بكل وجه أبداً وإنما الحق أن مقداراً من الدواء مصلحة لعلة كذا فقط فإن زاد أو نقص أو تعدى به تلك لعلة كان ضرراً وكذلك الطعام والشراب هما مصلحة في حال ما وبقدر ما فما زاد أو تعدى به وقته كان ضرراً ليس إطلاق اسم الصلاح في شيء من ذلك أولى من إطلاق اسم الضرر لأن كلا الأمرين موجود في ذلك كما ذكرنا وليس الصلاح من الله عز وجل للعبد والهدى له والخير من قبله عز وجل كذلك بل على الإطلاق والجملة وعلى كل حال بل كلما زاد الصلاح وكثر الهدى وكبر وزاد الخير وكبر فهو أفضل فإن قالوا نجد الصلاة والصيام إثماً في وقت ما وأجراً في آخر قلنا ما كان من هذا منهياً عنه فليس صلاحاً البتة ولا هو هدى ولا خير بل هو إثم وخذلان وضلال وليس في هذا كلمنا كم لكن فيما هو صلاح حقيقة وهدى حقيقة وخير حقيقة وهذا ما لا مخلص منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقال أصحاب الأصلح منهم أن من علم الله تعالى أنه يؤمن من الأطفال إن عاش أو يسلم من الكفار إن عاش أو يتوب من الفساق إن عاش فإنه لا يجوز البتة أن يميته الله قبل ذلك قالوا وكذلك من علم الله تعالى أنه إن عاش فعل خيرا فلا يجوز البتة أن يميته الله قبل فعله قالوا ولا يميت الله تعالى أحداً إلا وهو يدري أنه إن أبقاه طرفة عين فما زاد فإنه لا شيئاً من الخير أصلاً بل يكفر أو يفسق ولا بد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا من طوامهم التي جمعت الكفر والسحق ولم ينفكوا بها فما فروا عنه من تجوير الباري تعالى بزعمهم وأما الكفر فإنه يلزمهم أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بلغ لكفر أو فسق وليت شعري إذ هذا عندهم كما زعموا فلم أمات بعضهم أثر ولادته ثم آخر بعد ساعة ثم يوم ثم يومين وهكذا شهراً بعد شهر وعاماً بعد عام إلى أن أمات بعضهم قبل بلوغه بيسير وكلهم عندهم سواء في أنهم لو عاشوا لكفروا أو فسقوا كلهم وإذ عنى بهم هذه العناية فلم أبقى من الأطفال من درى أنه يكفر ويفسق نعم ويؤتيهم القوى والتدقيق في الفهم كالفيومي سعيد بن يوسف والمعمس داود بن قزوان وإبراهيم البغدادي وأبي كثير الطبراني متكلمي اليهود وأبي ربطه اليعقوبي ومقرونيش الملكي من متكلمي النصارى وقردان بخت المثاني حتى أضلوا كثيراً يشبههم وتمويهاتهم ومخارفتهم ولا سبيل إلى وجود فرق أصلاً وهذا محاباة وجور على أصولهم ثم نجده تعالى قد عذب بعض هؤلاء الأطفال باليتم والقمل والعرى والبرد والجوع وسوء المرقد والعمى والبطلان والأوجاع حتى يموتوا كذلك وبعضهم مرفه مخدوم منعم حتى يموت كذلك ولعلهما لأب وأم وكذلك يلزمهم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسائر الصحابة رضي الله عنهم نعم ومحمد صلى الله عليه وسلم وموسى وعيسى وإبراهيم وسائر الرسل عليهم الصلوة والسلام أن كل واحد منهم لو عاش طرفة عين على الوقت الذي مات فيه لكفر أو فسق ولزمهم مثل هذا في جبريل وميكائيل وحملة العرش عليهم السلام إن كانوا يقولون بأنهم يموتون فإن تمادوا على هذا كفروا وقد صرح بعضهم بذلك جهارا وإن أبوا تناقضوا ولزمهم أن الله تعالى يميت من يدري أنه يزداد خيراً ويبقي من يدري أنه يكفر وهذا عندهم على أصولهم عين الظلم والعبث‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ وأجاب بعضهم في هذا السؤال بأن قال أن النبي صلى الله عليه وسلم امتحنه الله عز وجل قبل موته بما بلغ ثوابه على طاعته فيه مبلغ ثوابه على كل طاعة تكون منه لو عاش إلى يوم القيامة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا جنون ناهيك به لوجوده أولها أنه محاباة مجردة له عليه السلام على غيره وهلا فعل ذلك بغيره وعجل راحتهم من الدنيا ونكدها وثانيها أن هذا القول كذب بحت وذلك أن المحن في العالم معروفة وهي إما في الجسم بالعلل وأما في المال بالإتلاف وأمل في النفوس بالخوف والهوان والهم بالأهل والأحبة والقطع دون الأمل لا محنة في العالم تخرج عن هذه الوجوه إلا المحنة في الدين فقط نعوذ بالله من ذلك فأما المحنة في الجسم فكذبوا وما مات عليه السلام إلا سليم الأعضاء سويها معافى من مثل محنة أيوب عليه السلام وسائر أهل البلاء نعوذ بالله منه وأما في المال فما شغله الله عز وجل منه بما يقتضي محنته في فضوله ولا أحوجه إلى أحد بل أقامه على حد الغنى بالقوت ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقر به من ربه عز وجل له‏:‏ ‏"‏ وأما النفس فأي محنة لمن قال الله عز وجل له والله يعصمك من الناس ‏"‏ ولمن رفع له ذكره وضمن له إظهار دينه على الدين كله ولو كره أعداؤه وجعل شانئه الأبتر وأعزه بالنصر على كل عدو فأي خوف وأي هوان يتوقعه عليه السلام وأما أهله وأحبته فاخترم بعضهم فأجره فيهم كإبراهيم ابنه وخديجة وحمزة وجعفر وزينب وأم كلثوم ورقية بناته رضي الله عنهم وأقر عينه ببقاء بعضهم وصلاحه كعائشة وسائر أمهات المؤمنين وفاطمة ابنته وعلي والعباس والحسن والحسين وأولاد العباس وعبد الله بن جعفر وأبي سفيان بن الحارث رضي الله عن جميعهم فأي محنة ها هنا أليس قد أعاد الله تعالى من مثل محنة حبيب بن عدي سمية أم عمار رضي الله عنهم أليس من قتل من الأنبياء عليهم السلام ومن أنشر بالمنشار وأحرق بالنيران أعظم محنة ومن خالفه قومه فلم يتبعه منهم إلا اليسير وعذب الجمهور كهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم اعظم محنة وهل هذه إلا مكابرة وحماقة وقحة وأي محنة تكون لمن أوجب الله عز وجل على الجن والإنس طاعته وأكرمه برسالته وأمنه من كل الناس و أكب عدوه لوجهه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهل هذه إلا نعم وخصائص وفضائل وكرامات ومحاباة مجردة له على جميع الإنس والجن وهل استحق عليه السلام هذا قط على ربه تعالى حتى ابتدأه بهذه النعمة الجليلة وقد تحنث قبله زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي العدوي وقيس بن ساعدة الأبادي وغيرهما فما أكرموا بشيء من هذا ولكن نوك المعتزلة ليس عليه قياس‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومما سئلوا عنه أن قيل لهم أليس قد علم الله تعالى أن فرعون والكفار إن أعاشهم كفروا فمن قولهم نعم فيقال لهم فلم أبقاهم حتى كفروا واخترم على قولكم من علم أنه إن عاش كفر وهذا تخليط لا يعقل ونقول لهم أيضاً أيما كان أصلح للجميع لا سيما لأهل النار خاصة أن يخترعنا الله تعالى كلنا في الجنة كما فعل بالملائكة وحور العين أم ما فعل بنا من خلقنا في الدنيا والتعريض للبلاء فيها وللخلود في النار‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلحوا عند هذه فقال بعضهم لم يخلق الجنة بعد فقلنا لهم هبكم أن الأمر كما قلتم فإنما كان أصلح للجميع أن يجعل الله عز وجل خلقها ثم يخلقنا فيها أو يؤخر خلقنا حتى يخلقها ثم يخلقنا منها أما خلقه لنا حيث خلقنا فإن عجزوا ربهم جعلوه ذا طبيعة متناهي القدرة وشبهاً لخلقه وأبطلوا إلاهيته وجعلوه محيزاً ضعيفاً وهذا كفر مجرد ونفي السؤال أيضاً مع ذلك بحسبه أن يجعلنا كالملائكة وأن يجعلنا كلنا أنبياء كما فعل بعيسى ويحيى عليهما السلام وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقال بعضهم ليس جهلنا بوجه المصلحة في ذلك مما يخرج هذا الأمر عن الحكمة فقلنا لهم فاقنعوا بمثل هذا بعينه فمن قال لكم ليس جهلنا بوجه المصلحة والحكمة في خلق الله تعالى لأفعال عباده وفي تكليفه الكافر والفاسق ما لا يطيق ثم يعذبهما على ذلك مما يخرجه عن الحكمة وهذا لا مخلص لهم منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما نحن فلا نرضى بهذا بل ما جهلنا ذلك لكن نقطع على أن كل ما فعله الله تعالى فهو عين الحكمة والعدل وأن من أراد إجراء أفعاله تعالى على الحكمة المعهودة بيننا فقد ألحدوا حظاً وضل وشبه الله عز وجل بخلقه لأن الحكمة والعدل بيننا إنما هما طاعة الله عز وجل فقط لا حكمة ولا عدل غير ذلك إلا ما امرنا به أي شيء كان فقط وأما الله تعالى فلا طاعة لأحد عليه فبطل أن تكون أفعاله جارية على أحكام العبيد المأمورين المربويين المسؤولين ما يفعلون لكن أفعاله تعالى جارية على العزة والقوة والجبروت والكبرياء والتسليم له وأن لا يسأل عما يفعل ولا مزيد كما قال تعالى وقد خاب من خالف ما قال الله عز وجل ومع هذا كله فلم يتخلصوا من رجوع وجوب التجوير والعبث على أصولهم على ربهم تعالى عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلن مقدار النعمة علينا عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك وكنا أيضاً نكون غير مستحقين لذلك النعيم بعمل عملناه وإدخالنا الجنة بعد استحقاقنا لها أتم في النعمة وأبلغ في اللذة وأيضاً فلو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد على ما حظر علينا وليست الجنة دار توعد وأيضاً فإن الله تعالى قد علم أن بعضهم كان يكفر فيجب عليه الخروج من الجنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا كل ما قدروا عليه من السخف وهذا كله عائد عليهم بحول الله تعالى وقوته وعونه لنا فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك فإننا نقول وبالله تعالى نتأيد أكان الله تعالى قادراً على أن يخلقنا فيها ويخلق فينا قوة وطبيعة نعلم بها قدرة النعمة علينا في ذلك أكثر من علمنا بذلك بعد دخولنا فيها يوم القيامة أو كعلمنا ذلك أم كان غير قادر على ذلك فإن قالوا أكان غير قادر على ذلك عجزوا ربهم تعالى وجعلوا قوته متناهية يقدر على أمرنا ولا يقدر على غيره وهذا لا يكون إلا لعرض داخل أو لبنية متناهية القوة وهذا كفر مجرد وإن قالوا كان الله قادراً على ذلك أقروا بأنه عز وجل لم يفعل بهم أصلح ما عنده وأن عنده أصلح مما فعل بهم وأيضاً فإن كانوا أرادوا بذلك أن اللذة تعقب البلاء و التعب أشد سروراً وأبلغ لزمهم أن يبطلوا نعم الجنة جملة لأنه ليس نعيمها البتة كان الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ولم يفتقر يوماً إذا ما تمولا فلزم على هذا الأصل أن يحدد الله عز وجل لأهل الجنة آلاماً فيها ليتجدد لهم بذاك وجود اللذة وهذا خروج عن الإسلام ويلزمهم أيضاً أن يدخل النبيين والصالحين النار ثم يخرجهم منها إلى الجنة فتضاعف اللذة والسرور أضعافاً بذلك ويقال لهم كنا نكون كالملائكة والحور العين فإن كانوا عالمين بمقدار ما هم فيه من نعيم ولذة فكنا نحن كذلك وإن كانوا غير عالمين بمقدار ما هم فيه من اللذة والنعيم فهلا أعطاهم هذه المصلحة ولأي شيء منعهم هذه الفضيلة التي أعطاها لنا وهم أهل طاعته التي لم تشب بمعصية فإن قالوا أإن الملائكة وحور العين قد شاهدوا عذاب الكفار في النار فقام لهم مقام الترهيب قلنا لهم هل المحاباة والجور إلا أن يعرض قوماً للمعطب ويبقيهم حتى يكفروا فيخلدوا في النار ليوعظ بهم قوم آخرون خلقوا في الجنة والرفاهية سرمداً أبداً لا بد وهل عين الظلم إلا هذا فيما بيننا على أصول المعتزلة وكمن يقول من الطغاة قتل الثلث في صلاح الثلثين صلاح وهل في الشاهد عبث وسفه أعظم من عبث من يقول لآخر هات أضربك بالسياط وأردك من جبل وأصفع في قفاك وأنتف سبالك وأمشيك في طريق ذات شوك دون راحة في ذلك ولا منفعة ولكن لا أعطيك بعد ذلك ملكاً عظيماً ولعلك في خلال ضربي إياك أن تتضرر فتقع في بئر منتنة لا خرج منها أبداً فأي مصلحة عند ذي عقل في هذا الحال لا سيما وهو قادر على أن يعطيه ذلك الملك دون أن يعرضه لشيء من هذا البلاء فهذه صفة الله عز وجل عند المعتزلة لا يستحقون من أن يصفوا أنفسهم بأن يصفوا الله تعالى بالعدل والحكمة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما نحن فنقول لو أن الله تعالى أخبرنا أنه يفعل هذا كان بعينه ما أنكرناه ولعلمنا أنه منه تعالى حق وعدل وحكمة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن العجب أن يكون الله تعالى يخلقنا يوم القيامة خلقاً لا نجوع فيه أبداً ولا نعطش ولا نبول ولا نمرض ولا نموت وينزع ما في صدورنا من غل ثم لا يقدر على أن يخلقنا فيها ولا على أن يخلقنا خلقاً نلتذ معه بابتدائنا كالتذاذنا بدخولها بعد طول النكد فهل يفرق بين شيء من هذا إلا من لا عقل له أو مستخف بالباري تعالى وبالدين وأما قولهم لو خلقنا الله تعالى في الجنة لكنا غير مستحقين لذلك النعيم فإنا نقول لهم أخبرونا عن الأعمال التي استحققتم بها الجنة عند أنفسكم أفبضرورة العقل علمتم أن من عملها فقد استحق الجنة ديناً واجباً على ربه تعالى أم لم تعلموا ذلك ولا وجب ذلك إلا حتى أعلمنا الله عز وجل أنه يفعل وجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال فإن قالوا بالعقل عرفنا استحقاق الجنة على هذه الأعمال كابروا وكذبوا على العقل وكفروا لأنهم بهذا القول يوجبون الاستغناء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام ولزمهم أن الله تعالى لم يجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال لكن وجب ذلك عليه حتماً لا باختياره ولا بأنه لو شاء غير ذلك لكان له وهذا كفر مجرد وأيضاً فإن شريعة موسى عليه السلام في السبت وتحريم الشحوم وغير ذلك فقد كان الجنة جزاء على العمل بها ثم صارت الآن جهنم جزاء على العمل بها فهل ها هنا إلا أن الله تعالى أراد ذلك فقط ولو لم يرد ذلك لم يجب من ذلك شيء فإن قالوا بل ما علمنا استحقاق الجنة بذلك إلا بخبر الله تعالى أنه حكم بذلك فقط قيل لهم فقد كان الله تعالى قادراً على أن يخبرنا أنه جعل الجنة حقاً لنا يخترعنا فيها كما فعل بالملائكة وحور العين و أيضاً فقد كذبوا في دعواهم استحقاق الجنة بأعمالهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من أحد ينجيه عمله أو يدخله الجنة عمله ولا أنت يا رسول الله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه أو كلاماً هذا معناه و أيضاً فبضرورة العقل ندري أن ما زاد على المماثلة في الجزاء فيما بيننا فإنه تفضل مجرد في الإحسان وجور في الإساءة هذا حكم المعهود في العقل فعل أصول المعتزلة يلزمهم أن بقاء أحدنا في الجنة أو في النار أكثر من مثل مدة إحسانه أو إساءته جزاء على ما سلف منه فضل مجرد وعقاب زايد على مقدار الجرم وقد فعله الله عز وجل بلا شك وهو عدل منه وحكمة وحق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما قولهم أن دخول الجنة على وجه الجزاء على العمل أعلى درجة وأسنى رتبة من دخولها بالتفضل المجرد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق هذا خطأ محض لأننا قد علمنا أن هذا الحكم إنما يقع بين الأكفاء والمتماثلين وأما الله فليس له كفواً أحد ومن كان عبداً لآخر فإن إقبال السيد عليه بالتفضل عليه المجرد والاختصاص والمحاباة أسنى له وأعلى وأشرف لرتبته وأرفع لدرجته من أن لا يعطيه شيئاً بمقدار ما يستحقه لخدمته ويستخبره إياه هذا ما لا ينكره إلا معاند فكيف وليس لأحد على الله حق وحينئذ كل ما وهبه الله تعالى لأحد من أنبيائه وملائكته عليهم السلام وكل ما أخبر تعالى أنه أوجبه وكتبه على نفسه وجعله حقاً لعباده فكل ذلك تفضل مجرد من الله عز وجل واختصاص مبتدأ لو لم ينعم به عز وجل لم يجب عليه شيء منه لا يقول غير هذا إلا مدخول الدين فاسد العقل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهم يقرون أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم جميعهم السلام وصدقوا في هذا ثم نقضوا هذا الأصل بأصلهم هذا السخيف من قولهم أن من دخل الجنة بعد التعريض للبلاء فهو أفضل من ابتداء النعمة والتقريب فنحن على قولهم أفضل من الملائكة على جميعهم السلام وقد قالوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء فعلى هذا التقرير يجب أن يكون نحن أفضل من الملائكة بدرجة وأفضل من النبيين بدرجتين وهذا كفر مجرد وتناقض ظاهر وأما قولهم أننا لو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد والتحذر فإننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق حتى لو كان ما يقولون لما منع من ذلك أن يخلقوا في الجنة ثم يطلعوا منها فيروا النار ويعاينوا وحشتها وهولها وقبحها ونفار النفوس عنها كالذي يعرض لنا عند الاطلاع على الغير أن العميقة المظلمة وإن كنا قط لم نقع فيها ولا شاهدنا من وقع فيها بل ذلك كان يكون أبلغ في التحذير من وصفها دون رؤية لكن كما فعل بالملائكة وحور العين فيكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر والحمد والاغتباط بمكانهم واجتناب ما نهوا عنه خوف مفارقة ما قد حصلوا عليه ثم نقول لهم أيضاً قولوا هذا فهم بعد دخولهم الجنة أمباح لهم الكفر والشتم والضرب فيما بينهم أم محظور عليهم لزمهم تمادي التوعد والتحذير هنالك قلنا نكون لو اخترعنا فيها على الحال التي تكون فيها يوم القيامة ولا فرق وكان يكون أصلح لجميعنا بلا شك فإن قالوا قد سبقت الطاعة في الدنيا قيل لهم وكذلك كانت تسبق منهم في الجنة كالملائكة سواء بسواء وهم لا يقولون أن المعاصي والتضارب والتلاطم والتراكض والتشاتم مباح لهم في الجنة ولا يقولون هذا أحد فيحتاج إلى كسر هذا القول فإن لجؤوا إلى قول أبي الهذيل أن أهل الجنة مضطرون لا مختارون قيل لهم وكنا نكون فيها كذلك أيضاً كما نكون يوم القيامة فيها فهذا كان أصلح للجميع بلا شك وهذا ما لا انفكاك لهم منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما قولهم أن الله علم أن بعضهم يكفر ولا بد فيجب عليه الخروج من الجنة قلنا لهم أيقدر الله على خلاف ما علم أم لا فإن قالوا نعم يقدر ولكن لا يفعل أقروا أنه فعل من ترك ابتداءنا في الجنة إمضاء لما سبق في علمه غير ما كان أصلح لنا بلا شك ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا أنه تعالى فعل ما سبق في علمه من تكليف ما لا يطاق ومن خلقه تعالى الكفر والظلم وإنعامه على من شاء وحده لا شريك له وتركوا قولهم في الأصلح وإن قالوا لا يقدر على غير ما علم أن يفعله جعلوه محيراً مضطراً عاجزاً متناهي القوة ضعيف القدرة محدثاً في أسوأ حالة منهم وهذا كفر وخلاف للقرآن ولإجماع المسلمين ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم أي مصلحة للحشرات والكلاب والبق والدود في خلقها حشرات ولم يخلقها ناساً مكلفين معرضين لدخول الجنة فإن قالوا لو جعلنا ناساً لكفروا قيل لهم فقد جعل الكفار ناساً فكفروا فهلا نظر لهم كما نظر للدود والحشرات فجعلهم حشرات لئلا يكفروا فكان أصلح لهم على قولكم وهذا ما لا مخلص منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم فنقول لهم إذا قلتم أن الله تعالى لا يقدر على لطف لو أتى به الكفار لآمنوا إيماناً يستحقون معه الجنة لكنه قادر على أن لا يضطرهم إلى الإيمان أخبرونا عن إيمانكم تستحقون به الثواب هل يشوبه عندكم شك أم يمكن بوجه من الوجوه أن يكون عندكم باطلاً فإن قالوا نعم يشوبه شك ويمكن أن يكون باطلاً أقروا على أنفسهم بالكفر وكفونا مؤنتهم وإن قالوا لا يشوبه شك ولا يمكن البتة أن يكون باطلاً قلنا لهم هذا هو الاضطرار بعينه ليست الضرورة في العلم شيئاً غير هذا إنما هو معرفة لا يشوبها شك لا يمكن اختلاف ما عرف بها فهذا هو علم الضرورة نفسه وما عدا هذا فهو ظن وشك فإن قالوا أن الاضطرار ما علم بالحواس أو بأول العقل وما عداه فهو ما عرف بالاستدلال قلنا هذه دعوى فاسدة لأنها بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل وتقسيمنا هو الحق الذي يعرف ضرورة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم أيما كان أصلح للعالم أن يكون برياً من السباع والأفاعي والدواب العادية أو أن يكون فيه كما هي مسلطة على الناس وعلى سائر الحيوان وعلى الأطفال فإن قالوا خلق الله الأفاعي والسباع كخلق الحفر والحرث ومزجرة للكفار‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا من ظريف الجنون ولقد ضل بخلقتها جموع من المخذولين ممن جرى مجرى المعتزلة في أن يتعقبوا على الله عز وجل فعله كالمنانية والمجوس اللذين جعلوا إلهاً خالقاً غير الحكيم العدل ثم نقول للمعتزلة إن كانت كما تقولون مصلحة فكان الاستكثار من المصلحة أصلح وأبلغ في الزجر والتحريف وكل هذه الدعاوي منهم حماقات ومكابرات بلا برهان ليست أجوبتهم فيها بأصح من أجوبة المنانية والمجوس وأصحاب التناسخ بل كلها جارية في ميدان واحد من أنها كلها دعاوى فاسدة بلا برهان ينقضها وكلها راجعة إلى أصل واحد وهو تعليل أفعال الله عز وجل الذي لا علة لها أصلاً والحكم عليه بمثل الحكم على خلقه فيم يحسن منه ويقبح تعالى الله عن ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويقال لأصحاب الأصلح خاصة ما معنى دعائكم في العصمة وأنتم تقولون أن الله تعالى قد عصم الكفار كما عصم المؤمنين فلم يعتصموا وما معنى دعائكم في الإعادة من الخذلان وفي الرغبة في التوفيق وأنتم تقولون أنه ليس عنده أفضل مما قد أعطاكموه ولا في قدرته زيادة على ما قد فعله بكم وأي معنى لدعائكم في التوبة وأنتم تقطعون على أنه لا يقدر على أن يعينكم في ذلك بمقدار شعرة زائدة على ما قد أعطاكموه فهل دعاؤكم في ذلك الإضلال وهزل وهزء كمن دعا إلى الله أن يجعله من بني آدم أو أن يجعل النبي نبياً والحجر حجراً وهل بين الأمرين فرق فإن قالوا أن الدعا عمل أمرنا الله تعالى به فقيل لهم إن أوامره تعالى من جملة أفعاله بلا شك وأفعاله عندكم تجري على ما يحسن في العقل ويقبح فيه في المعهود وفيما بيننا وعلى الحكمة عندكم وقد علمنا أنه لا يحسن في الشاهد بوجه من الوجوه أن يأمر أحداً يرغب إليه فيما ليس بيده ولا فيما قد أعطاه إياه وكلا هذين الوجهين عبث وسفه وهم مقرون بأجمعهم أن الله تعالى حكم بهذا وفعله وهو أمره لهم بالدعاء إليه أما فيما لا يوصف عندهم بالقدرة عليه وأما فيما قد أعطاهم إياه وهو عندهم عدل وحكمة فنقضوا أصلهم الفاسد بلا شك وأما نحن فإننا نقول أن الدعاء عمل أمرنا الله عز وجل به فيما يقدر عليه ثم إن شاء أعطانا ما سألناه وإن شاء منعنا إياه لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإن في ابتداء الله عز وجل كتابه المنزل إلينا بقوله تعالى آمراً لنا أن نقوله راضياً منا أن نقوله‏:‏ ‏"‏ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ‏"‏ ثم ختمه تعالى كتابه آمراً لنا أن نقوله راضياً بقوله‏:‏ ‏"‏ قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ‏"‏ لا بين بيان في تكذيب القائلين بأن ليس عند الله تعالى أصلح مما فعل وإنه غير قادر على كف وسوسة الشيطان ولا على هدى الكفار هدى يستحقون به الثواب كما وعد المهتدين لأنه عز وجل نص على أنه هو المطلوب منه العون لنا والهدى على صراط من خصه بالنعمة عليه لا إلى الصراط من غضب عليه تعالى وضل ولولا أنه تعالى قادر على الهدى المذكور وإن عنده عنواناً على ذلك لا يؤتيه إلا من شاء دون من لم يشأ وإنه تعالى أنعم على قوم بالهدى ولم ينعم به على آخرين لما أمرنا أن نسأله من ذلك ما ليس بقدر عليه أو ما قد أعطاه إياه ونص تعال على أنه قادر على صرف وسوسة الشيطان فلولا أنه تعالى يصرفها عمن يشاء لما أمرنا عز وجل أن نستعيذ مما لا يقدر على الإعاذة منه أو مما قد أعاذنا بعد منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا مخلص لهم من هذا أصلاً ثم نسألهم أي مصلحة للعصاة في أن جعل بعض حركاتهم وسكونها كبائر يستحقون عليها النار وبعض حركاتهم وسكونهم صغائر مغفورة ولقد كان أصلح من أن يجعلها كلها صغائر مغفورة فإن قالوا هذا أزجر عن المعاصي وأصلح قيل لهم فهلا إذ هو كما تقولون جعلها جميعها كبائر زاجرة فهو أبلغ في الزجر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد نص الله تعالى في القرآن آيات كثيرة لا يحتمل تأويلاً بتكذيب المعجزين لربهم تعالى وليس يمكنهم وجود أي آية ولا سنة يتعلقون بها أصلاً فمنها قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ‏"‏ أفلم يكن عنده أصلح من فتنة يضل بها بعض خلقه حاشا لله من هذا الكفر والتعجيز وقال تعالى حاكياً عن الذين أثنى عليهم من مؤمني الجن انهم قالوا‏:‏ ‏"‏ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وصدقهم الله عز وجل في ذلك إذ لو أنكره لما أورده مثنياً عليهم بذلك وهذا في غاية البيان الذي قد هلك من خالفه وبطل به قول الضلال الملحدين القائلين أن الله تعالى أراد رشد فرعون وإبليس وأنه ليس عنده أصلح ولا يقدر لهما على هدى أصلاً وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ‏"‏ فليت شعري أي مصلحة لهم في أن يذرأهم لجهنم نعوذ بالله من هذه المصلحة وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته ‏"‏ فصح أنه تعالى هو الذي يقي السيئات وأن الذي رحمه هو الذي وقاه السيئات لأن من لم يقه السيئات فلم يرحمه وبلا شك أن من وقاه السيئات فقد فعل به أصلح بمن لم يقه إياه هذا مع قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ‏"‏ ولا يشك من لدماغه أقل سلامة أو في وجهه من برد الحياء شيء في أن هذا كان أصلح بالكفار من إدخالهم النار بأن لا يؤتهم ذلك الهدى وإن كانوا كما يقولون من دخولهم الجنة بغير استحقاق وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏"‏ فليت شعري أين فعله تعالى بهؤلاء - نسأل الله أن يجعلنا منهم - من فعله بالذين قال فيهم أنه ختم على قلوبهم وزين لهم سوء أعمالهم وجعل صدورهم ضيقة حرجة إن من ساوى بين الأمرين وقال أن الله تعالى لم يعط هؤلاء إلا ما أعطى هؤلاء ولا أعطى من الهدى والاختصاص محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى والملائكة عليهم السلام إلا ما أعطى إبليس وفرعون وأبا جهل وأبا لهب والذي حاج إبراهيم في ربه واليهود والنصارى والمجوس والمتقيلين والشرط والبغائين والعواهر وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد بل سوى في التوفيق بين جميعهم ولم يقدر لهم على مزيد من الصلاح لقليل من الحياء عديم الدين وما جوابه إلا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن ربك لبالمرصاد ‏"‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأيما كان أصلح للكفار المخلدين في النار أن يكونوا مع المؤمنين أمة واحدة لا عذاب عليهم أم بعثة الرسل إليهم وهو عز وجل يدري أنهم لا يؤمنون فيكون ذلك سبباً إلى تخليدهم في جهنم وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وأملي لهم أن كيدي متين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا غاية البيان في أن الله عز وجل أراد بهم وفعل بهم ما فيه فساد أديانهم وهلاكهم الذي هو ضد الصلاح وإلا فأي مصلحة لهم في أن يستدرجوا إلى البلاد من حيث لا يعلمون وفي الإملاء لهم ليزدادوا إثماً ونص تعالى أن كل ذلك الذي فعله ليس مسارعة لهم في الخير فبطل قول هؤلاء الهلكى جملة والحمد لله رب العالمين وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً فهل بعد هذا بيان عن الله عز وجل أراد هلاكهم ودمارهم ولم يرد صلاحهم فأمر مترفيها بأوامر خالفوها ففسقوا فدمروا تدميراً ‏"‏ فأيما كان أصلح لهم أن لا يؤمروا فيسلموا أو أن يؤمروا وهو تعالى يدري أنهم لا يأتمرون فيدخلون النار فإن قالوا فاحملوا قوله تعالى أمرنا مترفيها على ظاهره قلنا نعم هكذا نقول ولم يقل تعالى أنه أمرهم بالفسق وإنما قال تعالى أمرناهم فقط وقد نص تعالى على انه لا يأمر بالفحشاء فصح قولنا أيضاً وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏"‏ فنص تعالى على أن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لو تولوا لا يدل قوماً غيرهم لا يكونون أمثالهم وبالضرورة نعلم انه عز وجل إنما أراد خيراً منهم فقد صح أنه عز وجل قادر على أن يخلق أصلح منهم وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم ‏"‏ وفي هذا كفاية وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن ‏"‏ فهل في البيان في أن الله تعالى قادر على أن يفعل أصلح مما فعل وإن عنده تعالى أصلح مما أعطى خلقه أبين أو أوضح أو أصح من إخباره تعالى أنه قادر على أن يبدل نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو أحب الناس إليه خيراً من الأزواج اللواتي أعطاه واللواتي هن خير الناس بعد الأنبياء عليهم السلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبطل قول البقر الشاذة أصحاب الأصلح في أنه تعالى لا يقدر على أصلح مما فعل بعباده‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ نسأل الله العافية مما ابتلاهم به ونسأله الهدى الذي حرمهم إياه وكان قادراً قال أبو محمد‏:‏ كل من منع قدرة الله عز وجل عن شيء مما ذكرنا فلا شك في كفره لأنه عجز ربه تعالى وخالف جميع أهل الإسلام‏.‏

أ قال أبو محمد‏:‏ وقالوا إذا كان عنده أصلح مما فعل بنا ولم يؤتنا إياه وليس بخيلاً وخلق أفعال عباده وعذبهم عليها ولم يكن ظالماً فلا تنكروا على من قال أنه جسم ولا يشبه خلقه وأنه يقول غير الحق ولا يكون كاذباً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه تعالى لم يقل أنه جسم ولو قاله لقلناه ولم يكن ذلك تشبيهاً له بخلقه ولم يقل تعالى أن يقول غير الحق بل قد أبطل ذلك وقطع بأن قوله الحق فمن قال على الله ما لم يقله فهو ملحد كاذب على الله عز وجل وقد قال تعالى أنه خلق كل شيء وخلقنا وما نعمل وأنه لو شاء لهدى كل كافر وأنه غير ظالم ولا بخيل ولا ممسك فقلنا ما قال من كل ذلك ولم نقل ما لم يقل وقلنا ما قام به البرهان العقلي من أنه تعالى خالق كل موجود دونه وأنه تعالى قادر على كل ما يسأل عنه وأنه لا يوصف بشيء من صفات العباد لا ظلم ولا بخل ولا غير ذلك ولم نقل ما قد قام البرهان العقلي على أنه باطل من أنه جسم أو أنه يقول غير الحق وقال بعض أصحاب الأصلح وهو ابن بدد الغزال تلميذ محمد بن شبيب تلميذ النظام بلى إن عند الله ألطافاً لو أتى بها الكفار لآمنوا إيماناً يستحقون معه الثواب إلا أن الثواب قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه ضعيف لأننا إنما سألناهم هل يقدر الله تعالى على ألطاف إذا أتى بها أهل الكفر آمنوا إيماناً يستحقون به مثل هذا الثواب الذي يؤتيهم على الإيمان اليوم أو أكثر من ذلك الثواب فلا بد لهم من ترك قوله أو يعجز ربه تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسأل جميع أصحاب الأصلح فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن كل من شاهد براهين الأنبياء عليهم السلام ممن لم يؤمن به وصحت عنده بنقل التواتر هل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها أنها شواهد موجبة صدق نبوتهم أم لم يصح ذلك عندهم إلا بغالب الظن وبصفة أنها مما يمكن أن يكون تخييلاً أو سحراً أو نقلاً مدخولاً ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا بل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها وثبت ذلك في عقولهم بلا شك قلنا لهم هذا هو الاضطرار نفسه الذي لا اضطرار في العالم غيره وهذه صفة كل من ثبت عنده شيء ثباتاً متيقناً كمن يتيقن بالخبر الموجب للعلم موت فلان وكون صفين والجمل وكسائر ما لم يشاهد المرء بحواسه فالكل على هذا مضطرون إلى الإيمان لا مختارون له وإن قالوا لم يصح عندهم شيء من ذلك هذه الصحة قلنا لهم فما قامت عليهم حجة النبوة قط ولا صحت لله تعالى عليهم حجة ومن كان هكذا فاختياره للإيمان إنما هو استحباب وتقليد واتباع لما مالت إليه نفسه وغلب في ظنه فقط وفي هذا بطلان جميع الشرائع وسقوط حجة الله تعالى