الجزء الثالث - الكلام في هل لله تعالى نعمة على الكفار أم لا

قال أبو محمد‏:‏ اختلف المتكلمون في هذه المسألة فقالت المعتزلة أن نعم الله تعالى على الكفار في الدين والدنيا كنعمه على المؤمنين ولا فرق وهذا قول فاسد قد نقضناه آنفاً ولله الحمد وقالت طائفة أخرى إن الله تعالى لا نعمة له على كافر أصلاً لا في دين ولا دنيا وقالت طائفة له تعالى عليهم نعم في الدنيا فأم في الدين فلا نعمة له عليهم فيه أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ‏"‏ قال أبو محمد‏:‏ فوجدنا الله عز وجل يقول‏:‏ ‏"‏ الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا عموم بالخطاب بإنعام الله تعالى على كل من خلق الله تعالى وعموم لمن يشكر من الناس والكفار من جملة ما خلق الله تعالى بلا شك وأما أهل الإسلام فكلهم شاكر لله تعالى بالإقرار به ثم يتفاضلون في الشكر وليس أحد من الخلق يبلغ كل ما عليه من شكر الله تعالى فصح أن نعم الله تعالى في الدنيا على الكفار كهي على المؤمنين وربما أكثر في بعضهم في بعض الأوقات قال تعالى‏:‏ ‏"‏ بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وهذا نص جلي على نعم الله تعالى على الكفار وأنهم بدلوها كفراً فلا يحل لأحد أن يعارض كلام ربه تعالى برأيه الفاسد وأما نعمة الله في الدين فإن الله تعالى أرسل إليهم الرسل هادين لهم إلى ما يرضى الله تعالى وهذه نعمة عامة بلا شك فلما كفروا وجحدوا نعم الله تعالى في ذلك أعقبهم البلاء وزوال النعمة كما قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ‏"‏ وبالله تعالى نتأيد وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في ماهية الإيمان فذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط وإن أظهر اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان وأبي الحسن الأشعري البصري و أصحابهما وذهب قوم إلى أن الإيمان هو إقرار باللسان بالله تعالى وإن اعتقد الكفر بقلبه فإذا فعل ذلك فهو مؤمن من أهل الجنة وهذا هو قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وذهب قوم إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معاً فإذا عرف المرء الدين بقلبه وأقر بلسانه فهو مسلم كامل الإيمان والإسلام وإن الأعمال لا تسمى إيماناً ولكنها شرائع الإيمان وهذا قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه وجماعة من الفقهاء وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح وأن كل طاعة وعمل خير فرضاً كان أو نافلة فهي إيمان وكلما ازداد الإنسان خيراً ازداد إيمانه وكلما عصى نقص إيمانه وقال محمد بن زياد الحريري الكوفي من آمن بالله عز وجل وكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم فليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً على الإطلاق ولكنه مؤمن كافراً معاً لأنه آمن بالله تعالى فهو مؤمن وكافر بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فحجة الجهمية والكرامية والأشعرية ومن ذهب مذهب أبي حنيفة حجة واحدة وهي أنهم قالوا إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين وبلغة العرب خاطبنا الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان في اللغة هو التصديق فقط والعمل بالجوارح لا يسمى في اللغة تصديقاً فليس إيماناً قالوا والإيمان هو التوحيد والأعمال لا تسمى توحيداً فليست إيماناً قالوا ولو كانت الأعمال توحيداً وإيماناً لكان من ضيع شيئاً منها قد ضيع الإيمان وفارق الإيمان فوجب أن لا يكون مؤمناً قالوا وهذه الحجة إنما تلزم أصحاب الحديث خاصة لا تلزم الخوارج ولا المعتزلة لأنهم يقولون بذهاب الإيمان جملة بإضاعة الأعمال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما لهم حجة غير ما ذكرنا وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلاً لما نذكره إن شاء الله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إن الإيمان هو التصديق في اللغة فهذا حجة على الأشعرية والجهمية والكرامية مبطلة لأقوالهم إبطالاً تاماً كافياً لا يحتاج معه إلى غيره وذلك قولهم أن الإيمان في اللغة التي بها نزل القرآن هو التصديق فليس كما قالوا على الإطلاق وما سمي فقط التصديق بالقلب دون التصديق باللسان إيماناً في لغة العرب وما قال قط عربي أن من صدق شيئاً قلبه فأعلن التكذيب به بقلبه وبلسانه فإنه يسمى مصدقاً به أصلاً ولا مؤمناً به البتة وكذلك ما سمي قط التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً على الإطلاق ولا يسمى تصديقاً في لغة العرب ولا إيماناً مطلقاً إلا من صدق بالشيء بقلبه ولسانه معاً فبطل تعلق الجهمية والأشعرية باللغة جملة ثم نقول لمن ذهب مذهب أبي حنيفة في أن الإيمان إنما هو التصديق باللسان والقلب معاً وتعلق في ذلك باللغة إن تعلقكم باللغة لا حجة لكم فيه أصلاً لأن اللغة يجب فيها ضرورة أن كل من صدق بشيء فإنه مؤمن به وأنتم والأشعرية والجهمية والكرامية كلكم توقعون اسم الإيمان ولا تطلقونه إلا على صفة محدودة دون سائر الصفات وهي من صدق بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة وغير ذلك مما قد أجمعت الأمة على انه لا يكون مؤمناً من لم يصدق به وهذا خلاف اللغة مجرد فإن قالوا أن الشريعة أوجبت علينا هذا قلنا صدقتم فلا تتعلقوا باللغة حيث جاءت الشريعة بنقل اسم منها عن موضوعه في اللغة كما فعلتم آنفاً سواء بسواء ولا فرق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق اسم الإيمان لكل من صدق بشيء ما ولكان من صدق بإلاهية الحلاج وبإلاهية المسيح وبإلاهية الأوثان مؤمنين لأنهم مصدقون بما صدقوا به وهذا لا يقوله أحد مما ينتمي إلى الإسلام بل قائله كافر عند جميعهم ونص القرآن بكفر من قال بهذا قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً ‏"‏ فهذا الله عز وجل شهد بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل وبالله تعالى ويكفرون ببعض فلم يجز مع ذلك أن يطلق عليهم اسم قال أبو محمد‏:‏ وقول محمد بن زياد الحريري لازم لهذه الطوائف كلها لا ينفكون عنه على مقتضى اللغة وموجبها وهو قول لم يختلف مسلمان في أنه كفر مجرد وأنه خلاف للقرآن كما ذكرنا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبطل تعلق هذه الطوائف باللغة جملة وأما قولهم أنه لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقد أضاع الإيمان ووجب أن لا يكون مؤمناً فإني قلت لبعضهم وقد ألزمني هذا الإلزام كلاماً تفسيره وبسطه إننا لا نسمي في الشريعة اسماً إلا بأن يأمرنا الله تعالى أن نسميه أو يبيح لنا الله بالنص أن نسميه لأننا لا ندري مراد الله عز وجل منا إلا بوحي وارد من عنده علينا ومع هذا فإن الله عز وجل يقول منكراً لمن سمي في الشريعة شيئاً بغير إذنه عز وجل‏:‏ ‏"‏ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ‏"‏ فصح أنه لا تسمية مباحة لملك ولا لأنس دون الله تعالى ومن خالف هذا فقد افترى على الله عز وجل الكذب وخالف القرآن فنحن لا نسمي مؤمناً إلا من سماه الله مؤمناً ولا نسقط الإيمان بعد وجوبه إلا عمن أسقطه الله عز وجل عنه ووجدنا بعض الأعمال التي سماها الله عز وجل إيماناً لم يسقط الله عز وجل اسم الإيمان عن تاركها فلم يجز لنا أن نسقطه عنه لذلك لكن نقول انه ضيع بعض الإيمان ولم يضيع كله كما جاء النص على ما نبين إن شاء الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذا سقط كل ما موهت به هذه الطوائف كلها ولم يبق لهم حجة أصلاً فلنقل بعون الله عز وجل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار من أن الإيمان عقد وقول وعمل وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أصل الإيمان كما قلنا في اللغة التصديق بالقلب وباللسان معاً بأي شيء صدق المصدق لا شيء دون شيء البتة إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء وأوقعها أيضاً تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح بكل ما هو طاعة له تعالى فقط فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به وهو تعالى خالق اللغة وأهلها فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء ولا عجب أعجب ممن أن وجد لامرئ القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح أو لأعرابي أسدي أو سلمي أو تميمي أو من سائر أبناء العرب بوال على عقبيه لفظاً في شعر أو نثر جعله في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً لم يلتفت إليه ولا جعله حجة وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه وإذا وجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فعل به مثل ذلك وتالله لقد كان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنبوة وأيام كونه فتى بمكة بلا شك عند كل ذي مسكة من عقل أعلم بلغة قومه وأفصح فيها وأولى بأن يكون ما نطق به من ذلك حجة من كل خندفي وقيسي وربيعي وإيادي وتميمي وقضاعي وحميري فكيف بعد أن اختصه الله تعالى للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه وأجرى على لسانه كلامه وضمن حفظه وحفظ ما يأتي به فأي ضلال أضل ممن يسمع لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يقول‏:‏ فعلت فروع الأيهقان وأطفلت لجلهتين ظباؤها ونعامها فجعله حجة وأبو زياد الكلابي يقول ما عرفت العرب قط الأيهقان وإنما هو اللهق بيت معروف ويسمع قول بن أحمر كناه نقلق عن مأموسة الحجر وعلماء اللغة يقولون أنه لم يعرف قط لأحد من العرب أنه سمى النار مأموسة إلا ابن أحمر فيجعله حجة ويجيز قول من قال من الأعراب هذا حجر من خرب وسائر الشواذ عن معهود اللغة مما يكثر لو تكلفنا ذكره ونحتج بكل ذلك ثم يمتنع من إيقاع اسم الإيمان على ما أوقعه عليه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله القرشي المسترضع في بني سعد بن بكر ويكابر في ذلك بكل باطل وبكل حماقة وبكل دفع للمشاهدة ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فمن الأيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والتصديق بالشيء أي شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوة لا يمكن البتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص لأنه لا يخلو كل معتقد بقلبه أو مقر بلسانه بأي شيء أقر أو أي شيء اعتقد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها أما أن يصدق بما اعتقد وأقر وأما أن يكذب بما اعتقد وأما منزلة بينهما فهي الشك فمن المحال أن يكون إنساناً مكذباً بما يصدق به ومن المحال أن يشك أحد فيما يصدق به فلم يبق إلا أنه مصدق بما اعتقد بلا شك ولا يجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر لأن أحد التصديقين إذا دخلته داخلة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه قد خرج عن التصديق ولا بد وحصل في الشك في أن معنى التصديق إنما هو أن يقطع ويوقن بصحة وجود ما صدق به ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصفة فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شك فيه فليس مصدقاً به وإن لم يكن مصدقاً به فليس مؤمناً به فصح أن الزيادة التي ذكر الله عز وجل في الإيمان ليست في التصديق أصلاً ولا في الاعتقاد البتة فهي ضرورة في غير التصديق وليس ها هنا إلا الأعمال فصح يقيناً أن أعمال البر إيمان بنص القرآن وكذلك قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً ‏"‏ فإن قال قائل معنى زيادة الإيمان ها هنا إنما هو لما نزلت تلك الآية صدقوا بها فزادهم بنزولها إيماناً تصديقاً بشيء وارد لم يكن عندهم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال لأنه قد اعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام في المستأنف فلا يزدهم نزول الآية تصديقاً لم يكونوا اعتقدوه فصح أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدقوا به قط ولا كان جائزاً لهم أن يعتقدوه ويعملوا به بل كان فرضاً عليهم تركه والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا في ما سواه ولا عدد للاعتقاد ولا كمية وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط فإن قالوا أن تلاوتهم لها زيادة إيمان قلنا صدقتم وهذا هو قولنا والتلاوة عمل بجارحة اللسان ليس إقراراً بالمعتقد ولكنه من نوع الذكر بالتسبيح والتهليل وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان الله ليضيع إيمانكم ‏"‏ ولم يزل أهل الإسلام قبل الجهمية والأشعرية والكرامية وسائر المرجئة مجمعين على أنه تعالى إنما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ‏"‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ‏"‏ فنص تعالى على أن عبادة الله تعالى في حال إخلاص الدين له تعالى وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواردتين في الشريعة كله دين القيمة وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الدين عند الله الإسلام ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ‏"‏ فنص تعالى أن الدين هو الإسلام ونص قبل على أن العبادات كلها والصلاة والزكاة هي الدين فأنتج ذلك يقيناً أن العبادات هي الدين والدين هو الإسلام فالعبادات هن الإسلام وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ يمنون عليك أن أسلموا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ‏"‏ وفال تعالى‏:‏ ‏"‏ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ‏"‏ فهذا نص جلي على أن الإسلام هو الإيمان وقد وجب قبل بما ذكرنا أن أعمال البر كلها هي الإسلام والإسلام هو الإيمان فأعمال البر كلها إيمان وهذا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏"‏ فنص تعالى وأقسم بنفسه أن لا يكون مؤمناً إلا بتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما عن ثم يسلم بقلبه ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب وأنه هو الإيمان الذي لا إيمان لمن لم يأت به فصح يقيناً أن الإيمان اسم واقع على الأعمال في كل ما في الشريعة وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً فصح أن لا يكون التصديق مطلقاً إيماناً إلا حتى يستضيف إليه ما نص الله تعالى عليه ومما يتبين أن الكفر يكون بالكلام قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ‏"‏ فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى إذ شك في البعث وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ‏"‏ فصح أن من آمن ببعض الدين وكفر بشيء منه فهو كافر مع صحة تصديقه لما صدق من ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأكثر الأسماء الشرعية فإنها موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض ممن يدري اللغة العربية ويدري الأسماء الشرعية كالصلاة فإن موضوع هذه اللفظة في لغة العرب الدعاء فقط فأوقعها الله عز وجل على حركات محدودة معدودة من قيام موصوف إلى جهة موصوفة لا تتعدى وركوع كذلك وسجود كذلك وقعود كذلك وقراءة وذكر كذلك في أوقات محدودة وبطهارة محدودة وبلباس محدود متى لم تكن على ذلك بطلت ولم تكن صلاة وما عرفت العرب قط شيئاً من هذا كله فضلاً على أن تسميه حتى أتانا بهذا كله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال بعضهم أن في الصلاة دعاء فلم يخرج الاسم بذلك عن موضوعه في اللغة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا باطل لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من أتى بعدد الركعات وقرأ أم القرآن وقرآناً معها في كل ركعة وأتى بعد الركوع والسجود والجلوس والقيام والتشهد وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بتسليمتين فقد صلى كما أمر وإن لم يدع بشيء أصلاً وفي الفقهاء من يقول أن من صلى خلف الإمام فلم يقرأ أصلاً ولا تشهد ولا دعا أصلاً فقد صلى كما أمر وأيضاً فإن ذلك الدعاء في الصلاة لا يختلف أحد من الأمة في أنه ليس شيئاً ولا يسمى صلاة أصلاً عند أحد من أهل الإسلام فعلى كل قد أوقع الله عز وجل اسم الصلاة على أعمال غير الدعاء ولا بد وعلى دعاء محدود لم تعرفه العرب قط ولا عرفت إيقاع الصلاة على دعاء بعينه دون سائر الدعاء ومنها الزكاة وهي موضوع في اللغة للنماء والزيادة فأوقعها الله تعالى إعطاء مال محدود معدود من جملة أموال ما موصوفة محدودة معدودة معينة دون سائر الأموال لقوم محدودين في أوقات محدودة فإن هو تعدى شيئاً من ذلك لم يقع على فعله ذلك اسم زكاة ولم تعرف العرب قط هذه الصفات والصيام في لغة العرب الوقوف تقول صام النهار إذا طال حتى صار كأنه واقف بطوله قال امرئ القيس‏:‏ إذا صام النهار وهجرا وقال آخر وهو النابغة الذبياني‏:‏ خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما فأوقع الله تعالى اسم الصيام على الامتناع من الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء من وقت محدود تبين الفجر الثاني إلى غروب الشمس في أوقات من السنة محدودة فإن تعدى ذلك لم يسم صياماً وهذا أمر لم تعرفه العرب قط فظهر فساد قول من قال أن الأسماء لا تنقل في الشريعة عن موضعها في اللغة وصح أن قولهم هذا مجاهرة سمجة قبيحة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذا قد وضح وجود الزيادة في الإيمان بخلاف قول من قال أنه التصديق فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد لأن معنى الزيادة إنما هو عدد مضاف إلى عدد وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة فيه وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء‏:‏ ‏"‏ ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن ‏"‏ قلن يا رسول الله وما نقصان ديننا قال عليه السلام أليس تقيم المرأة العدد من الأيام والليالي لا تصوم ولا تصلي فهذا نقصان دينها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولو نقص من التصديق شيء لبطل عن أن يكون تصديقاً لأن التصديق لا يتبعض أصلاً ولصار شكاً وبالله تعالى التوفيق وهم مقرون بأن امرأ لو لم يصدق بآية من القرآن أو بسورة منه وصدق بسائره لبطل إيمانه فصح أن التصديق لا يتبعض أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد نص الله عز وجل على أن اليهود يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم وأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ‏"‏ واخبر تعالى عن الكفار فقال‏:‏ ‏"‏ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ‏"‏ فأخبر تعالى أنهم يعرفون صدقه ولا يكذبونه وهم اليهود والنصارى وهم كفار بلا خلاف من أحد من الأمة ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه عن الإسلام ونص تعالى عن إبليس أنه عارف بالله تعالى وبملائكته وبرسله وبالبعث وأنه قال‏:‏ ‏"‏ رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ خلقتني من نار وخلقته من طين ‏"‏ وكيف لا يكون مصدقاً بكل ذلك وهو قد شاهد ابتداء خلق الله تعالى لآدم وخاطبه الله تعالى خطاباً كثيرا وسأله ما منعك أن تسجد وأمره بالخروج من الجنة وأخبره أنه منظر إلى يوم الدين وأنه ممنوع من إغواء من سبقت له الهداية وهو مع ذلك كله كافر بلا خلاف أما بقوله عن آدم أنا خير منه وأما بامتناعه للسجود لا يشك أحد في ذلك ولو كان الإيمان هو بالتصديق والإقرار فقط لكان جميع المخلدين في النار من اليهود والنصارى وسائر الكفار مؤمنين لأنهم كلهم مصدقون بكل ما كذبوا به في الدنيا مقرون بكل ذلك ولكان إبليس واليهود والنصارى في الدنيا مؤمنين ضرورة وهذا كفر مجرد ممن أجازه وإنما كفر أهل النار بمنعهم من الأعمال قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلجأ هؤلاء المخاذيل إلى أن قالوا إن اليهود والنصارى لم يعرفوا قط أن محمداً رسول الله ومعنى قول الله تعالى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أي أنهم يميزون صورته ويعرفون أن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي فقط وأن معنى قوله تعالى يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل إنما هو انهم يجدون سواداً في بياض لا يدرون ما هو ولا يفهمون معناه وإن إبليس لم يقل شيئاً مما ذكر الله عز وجل عنه انه قال مجداً بل قاله هاذلاً وقال هؤلاء أيضاً أنه ليس على ظهر الأرض ولا كان قط كافر يدري أن الله حق وأن فرعون قط لم يتبين له أن موسى نبي بالآيات التي عمل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقالوا إذا كان الكافر يصدق أن الله حق والتصديق إيمان في اللغة فهو مؤمن إذا أوفيه إيمان ليس به مؤمناً وكلا القولين محال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه نصوص أقوالهم التي رأيناها في كتبهم وسمعناها فهم وكان مما احتجوا به لهذا الكفر المجرد أن قالوا أن الله عز وجل سمى كل من ذكرنا كفاراً ومشركين فدل ذلك على أنه علم أن في قلوبهم كفراً وشركاً وجحداً وقال هؤلاء أن شتم الله عز وجل وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كفراً لكنه دليل على أن في قلبه كفراً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما قولهم في أخبار الله تعالى عن اليهود أنهم يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم وعن اليهود والنصارى أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فباطل بحت ومجاهرة لا حياء معها لأنه لو كان كما ذكروا لما كان في ذلك حجة لله تعالى عليهم وأي معنى أو أي فائدة في أن يجيزوا صورته ويعرفوا انه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقط أو في أن يجدوا كتابا لا يفقهون معناه فكيف ونص الآية نفسها مكذبة لهم لأنه تعالى يقول الذين آتيناهم الكتابة يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقاً منهم يكتمون الحق وهم يعلمون فنص تعالى أنهم يعلمون الحق في نبوته وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏"‏ يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ‏"‏ وإنما أورد تعالى معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم محتجاً عليهم بذلك لا أنه أتى من ذلك بكلام لا فائدة فيه وأما قولهم في إبليس فكلام داخل في الاستخفاف بالله عز وجل وبالقرآن لا وجه له غير هذا إذ من المحال الممتنع في العقل وفي الإمكان غاية الامتناع أن يكون إبليس يوافق في هزله عين الحقيقة في الله تعالى كرم آدم عليه السلام عليه وأنه تعالى أمره بالسجود فامتنع وفي أن الله تعالى خلق آدم من طين وخلقه من نار وفي أخباره آدم أن الله تعالى نهاه عن الشجرة وفي دخوله الجنة وخروجه عنها إذ أخرجه الله تعالى وفي سؤاله الله تعالى النظرة وفي ذكره يوم يبعث العباد وفي أخباره أن الله تعالى أغواه وفي تهديده ذرية آدم قبل أن يكونوا وقد شاهد الملائكة والجنة وابتداء خلق آدم ولا سبيل إلى موافقة هازل معنيين صحيحين لا يعلمها فكيف بهذه الأمور العظيمة وأخرى أن الله تعالى حاشا له من أن يجب هازلاً بما يقتضيه معنى هزله فإنه تعالى أمره بالسجود ثم سأله عما منعه من السجود ثم أجابه إلى النظرة التي سأل ثم أخرجه عن الجنة وأخبره أنه يعصم منه من شاء من ذرية آدم وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه القرآن وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات ولحق بالمجانين الوقحاء وأما قولهم أن أخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليلاً على أن في قلوبهم كفراً وأن شتم الله تعالى ليس كفر ولكنه دليل على أن في القلب كفراً وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط فهذه منهم دعاوي كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من حجة عقل أصلاً ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم ابن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب العالمين فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية فأما القرآن فإن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏"‏ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ‏"‏ فأخبر تعالى بأنهم يصدقون بالله تعالى وهم مع ذلك مشركون قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه شهادة من الله مكذبة بقول هؤلاء الضلال لا يردها مسلم أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبلغنا عن بعضهم انه قال في قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ‏"‏ إن هذا إنكار من الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وذلك لأن الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة وإنما هو ظن منهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه ويرد ما شئت منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأول ذلك أن هذا الخطاب من الله تعالى عموم للرجال و النساء من الذين أوتوا الكتاب لا يجوز أن يخص به الرجال دون النساء فيكون من فعل ذلك مفترياً على الله تعالى وبيقين يدري كل مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النساء كما بعث إلى الرجال والخطاب بلفظ الجمع المذكر يدخل فيه بلا خلاف من أهل اللغة النساء والرجال وقد علمنا أن النساء يعرفن أبناءهن على الحقيقة بيقين والوجه الثاني هو أن الله تعالى لم يقل كما يعرفون من خلقنا من نطفتهم فكان يسوغ لهذا الجاهل حينئذ هذا التمويه البارد باستكراه أيضاً وإنما قال تعالى كما يعرفون أبناءهم فأضاف تعالى البنوة إليهم فمن لم يقل أنهم أبناءهم بعد أن جعلهم الله أبناءهم فقد كذب الله تعالى وقد علمنا أنه ليس كل من خلق من نطفة رجل يكون ابنه فولد الزنا مخلوق من نطفة الإنسان ليس هو أباه في حكم الديانة أصلاً وإنما أبناؤنا من جعلهم الله أبناؤنا فقط كما أن الله تعالى جعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين منهن أمهاتنا وإن لم يلدننا ونحن أبناءهن وإن لم نخرج من بطونهن فمن أنكر هذا فنحن نصدقه لأنه حينئذ ليس مؤمناً فلسن أمهاته ولا هو ابن لهن والوجه الثالث هو أن الله تعالى إنما أورد الآية مبكتاً للذين أوتوا الكتاب لا معتذراً عنه لكن مخبراً بأنهم يعرفون صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بآياته وبما وجدوا في التوراة والإنجيل معرفة قاطعة لا شك فيها كما يعرفون أبناءهم ثم أتبع ذلك تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم عالمون به فبطل هذر هذا الجاهل المخذول والحمد لله رب العالمين وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ‏"‏ فنص تعالى على أن الرشد قد تبين من الغي عموماً وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ‏"‏ وقال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ‏"‏ وهذا نص جلي من خالفه كفر في أن الكفار قد تبين لهم الحق والهدى في التوحيد والنبوة وقد تبين له الحق فبيقين يدري أن كل ذي حس سليم مصدق بلا شك بقلبه وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا أيضاً نص جلي لا يحتمل تأويلاً على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستيقنوا بقلوبهم أنها حق ولم يجحدوا قط أنها كانت وإنما جحدوا أنها من عند الله فصح أن الذي استيقنوا منها هو الذي جحدوا وهذا يبطل قول من قال من هذه الطائفة أنهم إنما استيقنوا كونها زهي عندهم حيل لا حقائق إذ لو كان ذلك لكان هذا القول من الله تعالى كذباً تعالى الله عن ذلك لأنهم لم يجحدوا كونها وإنما جحدوا أنها من عند الله وهذا الذي جحدوا هو الذي استيقنوا بنص الآية وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام انه قال لفرعون‏:‏ ‏"‏ لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ‏"‏ فمن قال أن فرعون لم يعلم أن الله تعالى حق ولا علم أن معجزات موسى حق من عند الله تعالى فقد كذب ربه تعالى وهذا كفر مجرد وقد شغب بعضهم بأن هذه الآية قرأت لقد علمت بضم التاء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى لا يجوز أن يرد منهما شيء فنعم موسى عليه السلام علم ذلك وفرعون علم ذلك فهذه نصوص القرآن وأما من طريق المعقول والمشاهدة والنظر فإنا نقول لهم هل قامت حجة الله تعالى على الكفار كما قامت على المؤمنين بتبين براهينه عز وجل لهم أم لم تقم حجة لله تعالى عليهم قط إذ لم يتبين الحق قط لكافر فإن قالوا أن حجة الله تعالى لم تقم قط على كافر إذ لم يتبين الحق للكفار كفروا بلا خلاف من أحد وعذروا الكفار وخالفوا الإجماع وإن أقروا أن حجة الله تعالى قد قامت على الكفار بأن الحق تبين لهم صدقوا ورجعوا إلى الحق وإلى قول أهل الإسلام وبرهان آخر أن كل أحد مذ عقلنا لم نزل نشاهد اليهود والنصارى فما سمعهم أحد إلا مقرين بالله تعالى وبنبوة موسى عليه السلام وأن الله تعالى حرم على اليهود العمل في السبت والتحوم فمن الباطل أن يتواطؤوا كلهم في شرق الأرض و غربها على إعلان ما يعتقدون خلافه بلا سبب داع إلى ذلك وبرهان آخر وهو أننا قد شاهدنا من النصارى واليهود طوائف لا يحصى عددهم أسلموا وحسن إسلامهم وكلهم أولهم عن آخرهم يخبر من استخبره متى بقوا أنهم في إسلامهم يعرفون أن الله تعالى حق وأن نبوة موسى وهارون حق كما كانوا يعرفون ذلك في أيام كفرهم ولا فرق ومن أنكر هذا قد كابر عقله وحسه ولحق بمن لا يستحق أن يكلم وبرهان آخر وهو انهم لا يختلفون في أن نقل التواتر يوجب العلم الضروري فوجب من هذين الحكمين أن اليهود والنصارى الذين نقل إليهم ما أتى به عليه السلام من المعجزات نقل التواتر قد وقع لهم به العلم الضروري بصحة نبوته من أجلها وهذا لا محيد لهم عنه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن شتم الله تعالى ليس كفراً وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دعوى لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ‏"‏ فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم ‏"‏ فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ‏"‏ فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر فخرج عن الإيمان ولم يفعل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبكم كفراً بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء ومن ادعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره فصح أن النسيء كفر وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه وكل من حرم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عز وجل لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله وأما خلاف الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى أو جحد رسوله الله صلى الله عليه وسلم فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعاً وإما القتل أخذ الجزية وسائر أحكام الكفر وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا فكروا في هذا لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا أحد ممن بعدهم وأما قولهم إذا الكفار إذا كانوا مصدقين بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم بقلوبهم والتصديق في اللغة التي نزل القرآن هو الإيمان ففيهم بلا شك إيمان فالواجب أن يكونوا بإيمانهم ذلك مؤمنين أو أن يكون فيهم إيمان ليسوا بكونهم فيهم مؤمنين ولا بد من أحد الأمرين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه فاسد لأن التسمية كما قدمنا لله تعالى لا لأحد دونه وقد أوضحنا البراهين على أن الله تعالى نقل اسم إيمان في الشريعة عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وحرم في الديانة إيقاع اسم الإيمان على التصديق المطلق ولولا نقل الله تعالى للفظة الإيمان كما ذكرنا لوجب أن يسمى كل كافر على وجه الأرض مؤمناً وأن يخبر عنهم بأن فيهم إيماناً لأنهم مؤمنون ولا بد بأشياء كثيرة مما في العالم يصدقون بها هذا لا ينكره ذو مسكة من عقل فلو صح إجماعنا وإجماعهم وإجماع كل من ينتمي إلى الإسلام على انهم وإن صدقوا بأشياء كثيرة فإنه لا يحل لأحد أن يسميهم مؤمنين على الإطلاق ولا أن يقول أن لهم إيماناً مطلقاً أصلاً لم يجز لأحد أن يقول في الكافر المصدق بقلبه ولسانه بأن الله تعالى حق والمصدق بقلبه أن محمد رسول الله أنه مؤمن ولا أن فيه إيماناً أصلاً إلا حتى يأتي بما نقل الله تعالى إليه اسم الإيمان من التصديق بقلبه ولسانه بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دينه ثم يتمادى بإقراره على ما لا يتم إيمان إلا بالإقرار به حتى يموت لكنا نقول أن في الكافر تصديقاً بالله تعالى هو به مصدق بالله تعالى وليس بذلك مؤمناً ولا فيه إيمان كما أمرنا الله تعالى لا كما أمر جهم والأشعري‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبطل هذا القول المتفق على تكفير قائله وقد نص على تكفيرهم أبو عبيد القاسم في كتابه المعروف برسالة الإيمان وغيره ولنا كتاب كبير نقضنا فيه شبه أهل هذه المقالة الفاسدة كتبناه على رجل منهم يسمى عطاف بن دوناس من أهل قيروان إفريقية وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما من قال أن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان فإنهم احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه رضي الله عنهم وكل من بعدهم قد صح إجماعهم على أن من أعلن بلسانه بشهادة الإسلام فإنه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوداء أعتقها فإنها مؤمنة وبقوله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب قل كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذا لا حجة لهم فيه أما الإجماع المذكور فصحيح وإنما حكمنا لهم بحكم الإيمان في الظاهر ولم نقطع على أنه عند الله تعالى مؤمن وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما أرسلت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وبحسابهم على الله وقال عليه السلام من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه وأما قوله عليه السلام في السوداء أنها مؤمنة فظاهر الأمر كما قال عليه السلام إذ قال له خالد بن الوليد رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال عليه السلام إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس وأما قوله لعمه أحاج لك بها عند الله فنعم يحاج بها على ظاهر الأمر وحسابه على الله تعالى فبطل كل ما موهوا به ثم نبين بطلان قولهم إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى نتأيد أنه يبين بطلان قول هؤلاء قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ‏"‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏"‏ ‏"‏ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن قالوا إنما هذه الآية بمعنى أن هذه الأفعال تدل على أن في القلب إيماناً قلنا لهم لو كان ما قلتم لوجب ولا بد أن يكون ترك من ترك شيئاً من هذه الأفعال دليلاً على أنه ليس في قلبه إيمان وأنتم لا تقولون هذا أصلاً مع أن هذا صرف للآية عن وجهها وهذا لا يجوز إلا ببرهان وقولهم هذا دعوى بلا برهان وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وأولئك هم الصادقون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ‏"‏ فأثبت عز وجل لهم الإيمان الذي هو التصديق ثم أسقط عنا ولايتهم إذ لم يهاجروا فأبطل بذلك إيمانهم المطلق ثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً ‏"‏ فصح يقيناً أن هذه الأعمال إيمان حق وعدمها ليس إيماناً وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ‏"‏ فنص عز وجل في هذه الآية على من آمن بلسانه ولم يعتقد الإيمان بقلبه فإنه كافر ثم أخبرنا تعالى بالمؤمنين من هم وأنهم الذين آمنوا وأيقنوا بألسنتهم وقلوبهم معاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويلزمهم أن المنافقين مؤمنون لإقرارهم بالإيمان بألسنتهم وهذا قول مخرج عن الإسلام وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم ‏"‏ فقطع الله تعالى عليهم بالكفر كما ترى لأنهم أبطنوا الكفر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبرهان آخر وهو أن الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عز وجل لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكياً وقارئاً له في القرآن فلا يكون بذلك كافراً حتى يقرأنه عقده‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن احتج بهذا أهل المقالة وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفراً قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية ليست لنا وإنما لله تعالى فلما أمرنا تعالى بتلاوة القرآن وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل و الإيمان بحكايته ما نص الله تعالى بأداء الشهادة بالحق قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ‏"‏ خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافراً إلى رضى الله عز وجل والإيمان ولما قال تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً أخرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافراً إلى رخصة الله تعالى على الإيمان وبقي من أظهر الكفر لا قارياً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر أنه كافر وليس قول الله عز وجل ولكن من شرح بالكفر صدراً على ما ظنوه من اعتقاد الكفر فقط بل كان من نطق بالكلام الذي يحكم لقائل عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارياً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً فقد شرح بالكفر صدراً بمعنى أنه أن يقولوه وسواء اعتقده أو لم يعتقده لأن هذا العمل من إعلان الكفر على غير الوجوه المباحة في إيراده وهو شرح الصدر به فبطل تمويههم بهذه الآية وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏"‏ فنص الله تعالى على الإيمان أنه شيء قبل نفي الارتياب ونفي الارتياب لا يكون ضرورة إلا بالقلب وحده فصح أن الإيمان إذ هو قبل نفي الارتياب شيء آخر غير نفي الارتياب والذي قبل نفي الارتياب هو القول باللسان ثم التصديق بالقلب والجهاد مع ذلك بالبدن والنفس والمال فلا يتم الإيمان بنص كلام الله عز وجل إلا بهذه الأقسام كلها فبطل بهذا النص قول من زعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو القول باللسان وحده أو كلاهما فقط دون العمل بالبدن وبرها آخر وهو أن نقول لهم أخبرونا عن أهل النار المخلدين فيها الذين ماتوا على الكفر أهم حين كونهم في النار عارفون بقلوبهم صحة التوحيد والنبوة الذي بجحدهم لكل ذلك ادخلوا النار وهل هم حينئذ مقرون بذلك بألسنتهم أم لا ولابد من أحدهما فإن قالوا هم عارفون بكل ذلك مقرون به بألسنتهم وقلوبهم قلنا أنهم مؤمنون أم غير مؤمنين فإن قالوا هم غير مؤمنين قلنا قد تركتم قولكم أن الإيمان هو المعرفة بالقلب أو الإقرار باللسان فقط أو كلاهما فقط فإن قالوا هذا حكم الآخرة قلنا لهم فإذ جوزتم نقل الأسماء عن موضوعها في اللغة في الآخرة فمن أين منعتم من ذلك في الدنيا ولم تجوزوه لله عز وجل فيها وليس في الحماقة أكثر من هذا وإن قالوا بل هم مؤمنون قلنا لهم فالنار إذاً أعدت للمؤمنين لا للكافرين وهي دار المؤمنين وهذا خلاف القرآن والسنن وإجماع أهل الإسلام المتقين وإن قالوا بل هم غير عارفين بالتوحيد ولا بصحة النبوة في حال كمنهم في النار أكذبهم نصوص القرآن وكذبوا ربهم عز وجل في إخبار أنهم عارفون بكل ذلك هاتفون به بألسنتهم راغبون في الرجعة والإقالة نادمون على ما سلف منهم وكذبوا نصوص المعقول وجاهروا بالمحال إذ جعلوا من شاهد القيمة والحساب والجزاء غير عارف بصحة ذلك فصح بهذا أنه لا إيمان ولا كفر إلا ما سماه الله تعالى إيماناً وكفراً وشركاً فقط ولا مؤمن ولا كافر ولا مشرك إلا من سماه الله تعالى بشيء من ذلك أما في القرآن وأما على لسان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما من قال أن الإيمان هو العقد بالقلب والإقرار باللسان دون العمل بالجوارح فلا نكفر من قال بهذه المقالة وإن كانت خطأ وبدعة واحتجوا بأن قالوا أخبرونا عمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وبريء من كل دين حاشا الإسلام وصدق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واعتقد ذلك لقلبه ومات إثر ذلك أمؤمن هو أم لا فإن جوابنا أنه مؤمن بلا شك عند الله عز وجل وعندنا قالوا فأخبرونا أناقص الإيمان هو أم كامل الإيمان قالوا فإن قلتم أنه كامل الإيمان فهذا قولنا وإن قلتم أنه ناقص الإيمان سألناكم ماذا نقصه من الإيمان وماذا مع الإيمان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه مؤمن ناقص الإيمان بالإضافة إلى من له إيمان زائد بأعمال لم يعملها هذا وكل واحد فهو ناقص الإيمان بالإضافة إلى من هو أفضل أعمالاً منه حتى يبلغ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا أحد أتم إيماناً منه بمعنى أحسن أعمالاً منه وأما قولهم ما الذي نقصه من الإيمان فإنه نقصه الأعمال التي عملها غيره والتي ربنا عز وجل أعلم بمقاديرها‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ ومما يبين أن اسم الإيمان في الشريعة منقول عن موضوعه في اللغة وإن الكفر أيضاً كذلك فإن الكفر في اللغة التغطية وسمي الزراع كافراً لتغطيته الحب وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ‏"‏ يعني الزراع وقال لبيد بن ربيعة‏:‏ يمينها ألقت زكاة في كافر يعني الليل ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن أو جحد شيء مما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما صح عند جاحده بنقل الكافة أو عمل شيء قام البرهان بأن العمل به كفر مما قد بيناه في كتاب الإيصال والحمد لله رب العالمين فلو أن إنساناً قال أن محمداً عليه الصلاة والسلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ‏"‏ لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وكذلك لو قال أن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وهو يريد مؤمنون بدين الكفر فصح عند كل ذي مسكة من يتحيز أن اسم الإيمان والكفر منقولان في الشريعة عن موضوعهما في اللغة بيقين لا شك فيه وأنه لا يجوز إيقاع اسم الإيمان المطلق على معنى التصديق بأي شيء صدق به المرء ولا يجوز إيقاع اسم الكفر على معنى التغطية لأي شيء غطاه المرء لكن على ما أوقع الله تعالى عليه اسم الإيمان واسم الكفر ولا مزيد وثبت يقيناً أن ما عدا هذا ضلال مخالف للقرآن وللسنن ولإجماع أهل الإسلام أولهم عن آخرهم وبالله تعالى التوفيق وبقي حكم التصديق على حاله في اللغة لا يختلف في ذلك إنسي ولا جني ولا كافر ولا مؤمن فكل من صدق بشيء فهو مصدق به فمن صدق بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يصدق بما لا يتم الإيمان إلا به فهو مصدق وبالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وليس مؤمناً ولا مسلماً لكنه كافر مشرك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين‏.‏

الطبقات الثلاث المذكورة قال أبو محمد‏:‏ إن قال قائل أليس الكفر ضد الإيمان قلنا وبالله تعالى التوفيق إطلاق هذا القول خطأ لأن الإيمان اسم مشترك يقع على معان شتى كما ذكرنا فمن تلك المعاني شيء يكون الكفر ضداً له ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضد لهذا الإيمان وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضد له لا الكفر فهو ما كان من الأعمال فرضاً فإن تركه ضد للعمل وهو فسق لا كفر وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضداً فهو كل ما كان من الأعمال تطوعاً فإن تركه ضد العمل به وليس فسقاً ولا كفراً برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النصوص بتسمية الله عز وجل أعمال البر كلها إيماناً وتسميته تعالى ما سمي كفراً وما سمي فسقاً وما سمي معصية وما سمي إباحة لا معصية ولا كفراً ولا إيماناً وقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لأحد غيره فإن قال قائل منهم أليس جحد الله عز وجل بالقلب فقط لا باللسان كفراً فلا بد من نعم قال فيجب على هذا أن يكون التصديق باللسان وحده إيماناً فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا كان يصح لكم لو كان التصديق بالقلب وحده أو باللسان وحده إيماناً وقد أوضحنا آنفاً أنه ليس شيء من ذلك على انفراده إيماناً وأنه ليس إيماناً إلا ما سماه الله عز وجل إيماناً وليس الكفر إلا ما سماه الله عز وجل كفراً فقط فإن قال قائل من أهل الطائفة الثالثة أليس جحد الله تعالى بالقلب وباللسان هو الكفر كله فكذلك يجب أن يكون الإقرار بالله تعالى باللسان والقلب هو الإيمان كله قلنا وبالله تعالى نتأيد ليس شيء مما قلتم بل الجحد بشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أن النطق به كفر كفر والعمل بشيء مما قام البراهين بأنه كفر كفر فالكفر يزيد وكلما زاد فيه فهو كفر والكفر ينقص وكله مع ذلك ما بقي منه وما نقص فكله كفر وبعض الكفر أعظم وأشد وأشنع من بعض وكله كفر وقد أخبر تعالى عن بعض الكفر أنه تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ‏"‏ فأخبر تعالى أن قوماً يضاعف له العذاب فإذا كل هذا قول الله عز وجل وقوله الحق فالجزاء على قدر الكفر بالنص وبعض الجزاء أشد من بعض بالنصوص ضرورة والإيمان يتفاضل بنصوص صحاح وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجزاء عليه في الجنة يتفاضل بلا خلاف فإن قال من الطبقتين الأولتين أليس من قولكم من عرف الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم وأقر بهما بقلبه فقط إلا أنه منكر بلسانه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر وكذلك من قولكم أن من أقر بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم بلسانه فقط إلا أنه منكر بقلبه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا نعم هكذا نقول قالوا فقد وجب من قولكم إذا كان بما ذكرنا كافراً أن يكون فعله ذلك كفراً ولا بد إذ لا يكون كافراً إلا بكفره فيجب على قولكم أن الإقرار بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم بالقلب كفر ولا بد ويكون الإقرار بالله تعالى أيضاً وبرسوله صلى الله عليه وسلم باللسان أيضاً كفر ولا بد أنكم تقولون أنهما إيمان فقد وجب على قولكم أن يكونا كفراً إيماناً معاً وفاعلهما كافراً مؤمناً معاً وهذا كما ترون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا شغب ضعيف وإلزام كاذب سموه لأننا لم نقل قط أن من اعتقد وصدق بقلبه فقط بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وأنكر بلسانه ذلك أو بعضه فإن اعتقاده لتصديق ذلك كفر ولا أنه كان بذلك كافراً وإنما قلنا أنه كفر بترك إقراره بذلك بلسانه فهذا هو الكفر وبه صار كافراً وبه أباح الله تعالى دمه أو أخذ الجزية منه بإجماعكم معنا وإجماع جميع أهل الإسلام وكان تصديقه بقلبه فقط بكل ذلك لغواً محيطاً كأنه لم يكن ليس إيماناً ولا كفراً ولا طاعة ولا معصية قال تعالى‏:‏ ‏"‏ لئن أشركت ليحبطن عملك ‏"‏ وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ‏"‏ وبالضرورة يدري كل مسلم أن من حبط عمله وبطل فقد سقط حكمه وتأثيره ولم يبق له رسم وكذلك لم نقل أن من أقر بلسانه وحده بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وجحد بقلبه أن إقراره بذلك بلسانه كفر ولا أنه كان به كافراً لكنه كان كافراً بجحده بقلبه لما جحد من ذلك وجحده لذلك هو الكفر وكان إقراره بكل ذلك لغواً محبطاً كما ذكرنا لا إيماناً ولا كفراً ولا طاعة ولا معصية وبالله تعالى التوفيق فسقط هذا الإيهام الفاسد فإن قال قائل منهم أليس بعض الإيمان إيماناً وبعض الكفر كفراً وأراد أن يلزمنا من هذا أن العقد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح إذا كان ذلك إيماناً فإبعاضه إذا انفردت إيمان أو أن نقول أن إبعاض الإيمان ليست إيماناً فيموه بهذا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا نقول ونصرح أنه ليس بعض الإيمان إيماناً أصلاً بل الإيمان متركب من أشياء إذا اجتمعت صارت إيماناً كالبلق ليس السواد وحده بلقاً ولا البياض وحده بلقاً فإذا اجتمعا صارا بلقاً وكالباب ليس الخشب وحده باباً ولا المسامير وحدها باباً فإذا اجتمعا على شكل سمي حينئذ باباً وكالصلاة فإن القيام وحده ليس صلاة ولا الركوع وحده صلاة ولا الجلوس وحده صلاة ولا القراءة وحدها صلاة ولا الذكر وحده صلاة ولا استقبال القبلة وحده صلاة أصلاً فإذا اجتمع كل ذلك سمي المجتمع حينئذ صلاة وكذلك الصيام المفترض والمندوب إليه ليس صيام كل ساعة من النهار على انفرادها صياماً فإذا اجتمع صيامها كلها يسمى صياماً وقد يقع في اليوم الأكل والجماع والشراب سهواً فلا يمنع ذلك من أن يكون صيامه صحيحاً والتسمية لله عز وجل كما قدمنا لا لأحد دونه بل من الإيمان شيء إذا انفرد كان كفراً كمن قال مصدقاً بقلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله فهذا إيمان فلو أفرد لا إله وسكت سكوتاً قطع كفر بلا خلاف من أحد ثم نسألهم فنقول لهم فإذا انفرد صيامه أو صلاته دون إيمان أهي طاعة فمن قولهم لا فقد صاروا فيما أرادوا أن يموهوا به علينا من أن إبعاض الطاعات إذا انفردت لم تكن طاعة بل كانت معصية وإذا اجتمعت كانت طاعة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن قالوا إذا كان النطق باللسان عندكم إيماناً فيجب إذاً عدم النطق بأن يسكت الإنسان بعد إقراره أن يكون سكوته كفراً فيكون بسكوته كافراً قلنا إن هذا يلزمنا عندكم فما تقولون إن سألكم أصحاب محمد من كرام فقالوا لكم إذا كان الاعتقاد بالقلب هو الإيمان عندكم فيجب إذا سها عن الاعتقاد وإحضاره ذكره أما في حال حديثه مع من يتحدث أو في حال فكره أو نومه أن يكون كافراً وأن يكون ذلك السهو كفراً فجوابهم أنه محمول على ما صح منه من الإقرار باللسان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم أن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفراً لكنه دليل على أن في القلب كفراً أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم أتقطعون به فتثبتونه يقيناً ولا تشكون في أن في قلبه جحداً للربوبية وللنبوة أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر ولا بد من أحدهما فإن قالوا أنه دليل لا نقطع به قطعاً ولا نثبته يقيناً قلنا لهم فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه‏:‏ ‏"‏ إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ‏"‏ وأعجب من هذا أنكم إنما قلتم أن إعلان الكفر إنما قلنا أنه دليل على أن في القلب كفراً لأن الله تعالى سماهم كفاراً فلا يمكننا رد شهادة الله تعالى فعاد هذا البلاء عليكم لأنكم قطعتم أنها شهادة الله عز وجل ثم لم تصدقوا شهادته ولا قطعتم بها بل شككتم فيها وهذا تكذيب من لا خفاء به وأما نحن فمعاذ الله من أن نقول أو نعتقد أن الله تعالى شهد بهذا قط بل من أدعى أن الله شهد بأن من أعلن الكفر فإنه جاحد بقلبه فقد كذب على الله عز وجل وافترى عليه بل هذه شهادة الشيطان الذي أضل بها أولياءه وما شهد الله تعالى إلا بضد هذا وبأنهم يعرفون الحق ويكتمونه ويعرفون أن الله تعالى حق وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك وما سماهم الله عز وجل قط كفاراً إلا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم كما فعل بإبليس وأهل الكتاب وغيرهم وإن قالوا بل يثبت بهذا الدليل ونقطع به ونوقن أن كل من أعلن بما يوجب إطلاق اسم الكفر عليه في الشريعة فإنه جاحد بقلبه لهم وبالله تعالى التوفيق هذا باطل من وجوه - أولها - أنه دعوى بلا برهان - وثانيها - أنه علم غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل والذي يضمره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لم أبعث لأشق على قلوب الناس فمدعى هذا مدعى علم غيب ومدعي علم الغيب كاذب - وثالثها - أن القرآن والسنن كما ذكرنا قد جاءت النصوص فيهما بخلاف هذا كما تلونا قبل - ورابعها - إن كان الأمر كما تقولون فمن أين اقتصرتم بالإيمان على عقد القلب ولم تراعوا إقرار اللسان وكلاهما عندكم مرتبط بالآخر لا يمكن انفرادهما وهذا يبطل قولكم أنه إذا اعتقد الإيمان بقلبه لم يكن كافراً بإعلانه الكفر فجوزتم أن يكون يعلن الكفر من يبطن الإيمان فظهر تناقض مذهبهم وعظيم فساده - وخامسها - أنه كان يلزمهم إذا كان إعلان الكفر باللسان دليلاً على الجحد بالقلب والكفر به ولا بد فإن إعلان الإيمان باللسان يجب أيضاً أن يكون دليلاً قاطعاً باتاً ولا بد على أن في القلب إيماناً وتصديقاً لا شك فيه لأن الله تعالى سمى هؤلاء مؤمنين كما سمى أولئك كفاراً ولا فرق بين الشهادتين فإن قالوا أن الله تعالى قد أخبر عن المنافقين المعلنين بالإيمان المبطنين للكفر والجحد قيل لهم وكذلك أعلمنا الله تعالى وأخبرنا أن إبليس وأهل الكتاب والكفار بالنبوة إنهم يعلنون الكفر ويبطنون التصديق ويؤمنون بأن الله تعالى حق وأن رسوله حق يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ولا فرق وكل ما موهتم به من الباطل والكذب في هؤلاء أمكن للكرامية مثله سواء بسواء في المنافقين وقالوا لم يكفروا قط بإبطانهم الكفر لما سماهم الله بأنهم آمنوا ثم كفروا علمنا أنهم نطقوا بعد ذلك بالكفر والجحد بشهادة الله تعالى بذلك كما أدعيتم أنتم شهادته تعالى على ما في نفوس الكفار ولا فرق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلتا الشاهدتين من هاتين الطائفتين كذب على الله عز وجل وما شهد الله عز وجل قط على إبليس وأولى الكتاب بالكفر إلا بما أعلنوه من الاستخفاف بالنبوة وبآدم وبالنبي صلى الله عليه وسلم فقط ولا شهد تعالى قط على المنافقين بالكفر إلا بما أبطنوه من الكفر فقط وأما هذا فتحريف للكلم عن مواضعه وأفك مفتري ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وانظروا قولهم قالوا مثل هذا أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل هذه الدار اليوم إلا كافر أو يقول كل من دخل هذه الدار اليوم فهو كافر قالوا فدخول تلك الدار دليل على أنه يعتقد الكفر لا أن دخول الدار كفر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كذب وتمويه ضعيف بأن دخول تلك الدار في ذلك اليوم كفر محض مجرد وقد يمكن أن يكون الداخل فيها مصدقاً بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أن تصديقه ذلك قد حبط بدخوله الدار برهان ذلك أنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن دخول تلك الدار لا يحل البتة لعائشة ولا لأبي بكر ولا لعلي ولا لأحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من أصحابه رضي الله عنهم كما أن الله تعالى قد نص على أنه علم ما في قلوبهم وأنزل السكينة عليهم وإذ ذلك كذلك فقد وجب ضرورة أن هؤلاء رضي الله عنهم لو دخلوا تلك الدار لكانوا كفاراً بلا شك بنفس دخولهم فيها ولحبط إيمانهم فإن قالوا لو دخلها هؤلاء لم يكفروا كانوا هم قد كفروا لأنهم بهذا القول قاطعون بأن كلامه صلى الله عليه وسلم كذب في قوله لا يدخلها إلا كافر واحتج بعضهم في هذا المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول‏:‏ إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول ملعون ملعون قائل هذا البيت وملعون ملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله عز وجل وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي وإن كان كافراً وإنما هي قضية عقلية فالعقل والحس يكذبان هذا البيت وقضية شرعية فالله عز وجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عز وجل‏:‏ ‏"‏ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ‏"‏ فقد أخبر عز وجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله أن الكلام لفي الفؤاد واللسان دليل على الفؤاد فأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب الأخطل ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا أن الله عز وجل قال‏:‏ ‏"‏ ولتعرفنهم في لحن القول ‏"‏ قلنا لولا أن الله عز وجل عرفه بهم ودله عليهم بلحن القول ما كان لحن قولهم دليلاً عليهم ولم يطلق الله تعالى هذا على كل أحد بل على أولئك خاصة بل قد نص تعالى على آخرين بخلاف ذلك إذ يقول‏:‏ ‏"‏ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏"‏ فهؤلاء من أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق لم يعلمهم قط رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحن قولهم ولو أن الناس لم يضربوا قط كلام ربهم تعالى بعضه ببعض وأخذوه كله على مقتضاه لاهتدوا لكن ‏"‏ من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ‏"‏ وقد قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏"‏ فجعلهم تعالى مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق وبعد أن تبين لهم الهدى بقوله للكفار ما قالوا فقط وأخبرنا تعالى أنه يعرف أسرارهم ولم يقل تعالى أنها جحد أو تصديق بل قد صح أن في سرهم التصديق لأن الهدى قد تبين لهم ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ‏"‏ فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد كان منهم أصلاً ولو كان منهم جحد لشعروا له والله تعالى أخبرنا لأن ذلك يكون وهم لا يشعرون فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة ومنه ما لا يكون كفراً لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن قال قائل من أين قلتم أن التصديق لا يتفاضل ونحن نجد خضرة أشد من خضرة وشجاعة أشد من شجاعة لا سيما والشجاعة والتصديق كيفيات من صفات النفس معاً فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن كل ما قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فإنما يقبلهما بمزاج يداخله من كيفية أخرى ولا يكون ذلك إلا فيما بينه وبين ضده منها وسائط قد تمازج كل واحد من الضدين أو في ما جاز امتزاج الضدين فيه كما نجد بين الخضرة والبياض وسائط من حمرة وصفرة تمازجهما فتولد حينئذ بالممازجة الشدة والضعف وكالصحة التي هي اعتدال مزاج العضو فإذا مازج ذلك الاعتدال فضل ما كان مرضه بحسب ما مازجه في الشدة والضعف والشجاعة إنما هي استسهلال النفس والثبات والإقدام عند المعارضة في اللقاء فإذا ثبت الاثنان فإثباتاً واحداً وأقدما إقداماً مستوياً فهما في الشجاعة سواء وإذا ثبت أحدهما أو أقدم فوق ثبات الآخر وإقدامه كان أشجع منه وكان الآخر قد مازج ثباته أو إقدامه جبن وأما ما كان من الكيفيات لا يقبل المزاج أصلاً فلا سبيل إلى وجود التفاضل فيه وكل ذلك على حسب ما خلقه الله عز وجل من كل ذلك ولا مزيد كاللون فإنه لا سبيل إلى أن يكون لون أشد دخولاً في أنه لون من لون آخر إذ لو مازج الصدق غيره لصار كذباً في الوقت ولو مازج تصديق شيء غيره لصار شكاً في الوقت وبطل التصديق جملة وبالله تعالى التوفيق والإيمان قد قلنا أنه ليس هو التصديق وحده بل أشياء مع التصديق كثيرة فإنما دخل التفاضل في كثرة تلك الأشياء وقلتها وفي كيفية إيرادها وبالله تعالى التوفيق وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من في قلبه إذ قالوا شعيرة من إيمان ثم من في قلبه مثقال برة من أيمان ثم من في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى أدنى أدنى من ذلك إنما أراد عليه السلام من قصد إلى عمل شيء من الخير أو هم به ولم يعمله بعد أيكون مصدقاً بقلبه بالإسلام مقراً بلسانه كما في الحديث قال أبو محمد‏:‏ ومن النصوص على أن الأعمال إيمان قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏"‏ فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً وأقسم تعالى بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكم رسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين غيره ثم يسلم لما حكم به عليه السلام ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى وهذه كلها أعمال باللسان وبالجوارح غير التصديق بلا شك وفي هذا كفاية لمن عقل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن العجب قولهم أن الصلاة والصيام والزكاة ليست إيماناً لكنها شرائع الإيمان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه تسمية لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من الصحابة رضي الله عنهم بل الإسلام هو الإيمان وهو الشرائع والشرائع هي الإيمان والإسلام وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واختلف الناس في الكفر والشرك فقالت طائفة هي اسمان واقعان على معنيين وإن كل شرك كفر وليس كل كفر شركاً وقال هؤلاء لا شرك الأقوال من جعل لله شريكاً قال هؤلاء اليهود والنصارى كفاراً لا مشركون وسائر الملل كفار مشركون وهو قول أبي حنيفة وغيره وقال آخرون الكفر والشرك سواء وكل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر وهو قول الشافعي قال أبو محمد‏:‏ واحتجت الطائفة الأولى بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ‏"‏ قالوا ففرق الله تعالى بين الكفار والمشركين وقالوا لفظة الشرك مأخوذة من الشريك فمن لم يجعل الله تعالى شريكاً فليس مشركاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه عمدة حجتهم ما نعلم لهم حجة غير هاتين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما احتجاجهم بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ‏"‏ فلو لم يأت في هذا المعنى غير هذا المعنى غير هذه الآية لكانت حجتهم ظاهرة لكن الذي أنزل هذه الآية هو القائل‏:‏ ‏"‏ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ‏"‏ وقال تعالى عنهم أنهم قالوا أن الله ثالث ثلاثة وهذا كله تشريك ظاهر لإخفائه فإذ قد صح الشرك والتشريك في القرآن من اليهود والنصارى فقد صح أنهم مشركون وأن الشرك والكفر اسمان لمعنى واحد وقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لنا فإذ ذلك كذلك فقد صح أن قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ‏"‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ‏"‏ ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن المنافقين كفار وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏"‏ ولا خلاف في أن جبريل وميكائيل من جملة الملائكة وكقوله تعالى‏:‏ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ‏"‏ والرمان الرمان من الفاكهة والقرآن نزل بلغة العرب والعرب تعيد الشيء باسمه وإن كانت قد أجملت ذكره تأكيداً لأمره فبطل تعلق من تعلق بتفريق الله تعالى بين الكفار والمشركين في اللفظ وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بأن لفظ الشرك مأخوذ من الشريك فقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لأحد دونه وله تعالى أن يوقع أي أسم شاء على أي مسمى شاء برهان ذلك أن من أشرك بين عبدين له في عمل ما أو بين اثنين في هبة وهبها لهما فإنه لا يطلق عليه اسم مشرك ولا يحل أن يقال أن فلاناً أشرك ولا أن عمله شرك فصح أنها لفظة منقولة أيضاً عن موضوعها في اللغة كما أن الكفر لفظة منقولة أيضاً عن موضوعها إلى ما أوقعها الله تعالى عليه والتعجب من أهل هذه المقالة وقولهم أن النصارى ليسوا مشركين وشركهم أظهر وأشهر من أن يجهله أحد لأنهم يقولون كلهم بعبادة الأب والابن وروح القدس وأن المسيح إله حق ثم يجعلون البراهمة مشركين وهم لا يقرون إلا بالله وحده ولقد كان يلزم أهل هذه المقالة أن لا يجعلوا كافراً إلا من جحد الله تعالى فقط فإن قال قائل كيف اتخذ اليهود والنصارى أرباباً من دون الله وهم ينكرون هذا قلنا وبالله تعالى التوفيق أن التسمية لله عز وجل فما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم ويحلون ما أحلوا كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة قد دانوا بها وسمى الله تعالى هذا العمل باتخاذ أرباب من دون الله وعبادة وهذا هو الشرك بلا خلاف كما سمي كفرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي ناسخ لما هم عليه كفر بالله عز وجل وإن كانوا مصدقين به تعالى لكن لما أحبط الله تعالى تصديقهم سقط حكمه جملة فإن قالوا كيف تقولون أن الكفار مصدقون بالله تعالى والله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ ويقول تعالى‏:‏ ‏"‏ وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ‏"‏ قلنا وبالله تعالى نتأيد إن كل من خرج إلى الكفر بوجه من الوجوه فلا بد له من أن يكون مكذباً بشيء مما لا يصح الإسلام إلا به أورد أمراً من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب بذلك الشيء الذي رده أو كذب به ولم يقل الله تعالى الذي كذب بالله عز وجل لكن قال كذب وتولى ولا قال تعالى و أما إن كان من المكذبين بالله وإنما قال تعالى من المكذبين الضالين فقط فمن كذب بأمر من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب على الإطلاق كما سماه الله تعالى وإن كان مصدقاً لله تعالى وبمن صدق به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن قالوا كيف تقولون أن اليهود عارفون بالله تعالى والنصارى والله تعالى يقول ‏"‏ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب قلنا وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية إلى الله عز وجل لا لأحد دونه وقلنا أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة عن التصديق المجرد إلى معنى آخر زائد مع التصديق فلما لم يستوفوا تلك المعاني بطل تصديقهم جملة واستحقوا ببطلانه أن يسموا غير مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر فإن قيل فهل هم مصدقون بالله وباليوم الآخر قلنا نعم فإن قيل ففيهم موحدون لله تعالى قلنا نعم قيل فيهم مؤمنون بالله وبالرسول وباليوم الآخر قلنا لا لأن الله تعالى نص على كل ما قلنا فأخبر تعالى أنهم يعرفونه ويقرون به ويعرفون نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه نبي فأقررنا بذلك وأسقط الله عنهم اسم الإيمان فأسقطناه عنهم ومن تعدى هذه الطريقة فقد كذب ربه تعالى وخالف القرآن وعاند الرسول وخرق إجماع أهل الإسلام وكابر حسه وعقله مع ذلك وبالله تعالى التوفيق وهكذا نقول فيمن كان مسلماً ثم أطلق واعتقد ما يوجب الخروج عن الإسلام كالقول بنبوة إنسان بعد النبي صلى الله عليه وسلم أو تحليل الخمر أو غير ذلك فإنه مصدق بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم موحد عالم بكل ذلك وليس مؤمناً مطلقاً ولا مؤمناً بالله تعالى ولا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا باليوم الآخر لما ذكرنا آنفاً ولا فرق لإجماع الأمة كلها على استحقاق اسم الكفر على من ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً والحمد لله رب العالمين‏.‏

وهل الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد ومعنى واحد أو لمسميين ومعنيين قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن الإسلام والإيمان اسمان واقعان على معنيين وأنه قد يكون مسلم غير مؤمن واحتجوا بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ‏"‏ وبالحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له سعد هل لك يا رسول الله في فلان فإنه مؤمن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أو مسلم‏.‏

وبالحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة فتى غير معروف العين فسأله عن الإسلام فأجابه بأشياء في جملتها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال أخر مذكورة في ذلك الحديث فسأله عن الًسلام فأجابه بأشياء من جملتها أن تؤمن بالله وملائكته وبحديث لا يصح من أن المرء يخرج عن الإيمان إلى الإسلام وذهب آخرون إلى أن الإيمان والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد واحتجوا بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يمنون عليك أن أسلموا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الإيمان أصله في اللغة التصديق على الصفة التي ذكرنا قبل ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات واجتناب المعاصي إذا قصد بكل ذلك من عمل أو ترك وجه الله عز وجل وإن الإسلام أصله في اللغة التبرؤ تقول أسلمت أمر كذا إلى فلان إذا تبرأت منه إليه فسمي المسلم مسلماً لأنه تبرأ من كل شيء إلى الله عز وجل ثم نقل الله تعالى اسم الإسلام أيضاً إلى جميع الطاعات وأيضاً فإن التبرؤ إلى الله من كل شيء هو معنى التصديق فإنه لا يبرأ إلا الله تعالى من كل شيء حتى يصدق به فإذا أريد بالإسلام المعنى الذي هو خلاف الكفر خلاف الفسق فهو والإيمان شيء واحد كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ‏"‏ وقد يكون الإسلام أيضاً بمعنى الاستسلام أي أنه استسلم للعلة خوف القتل هو غير معتقد لها فإذا أريد بالإسلام هذا المعنى فهو غير الإيمان وهو الذي أراد الله تعالى بقوله‏:‏ ‏"‏ لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ‏"‏ وبهذا تتألف النصوص المذكورة من القرآن والسنن وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ‏"‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة فهذا هو الإسلام الذي هو الإيمان فصح أن الإسلام لفظة مشتركة كما ذكرنا ومن البرهان على أنها لفظة منقولة عن موضوعها في اللغة أن الإسلام في اللغة هو التبرؤ فأي شيء تبرأ منه المرء فقد أسلم من ذلك الشيء وهو مسلم كما أن من صدق بشيء فقد آمن به وهو مؤمن به وبيقين لا شك فيه يدري كل واحد أن كل كافر على وجه الأرض فإنه مصدق بأشياء كثيرة من أمور دنياه ومتبرئ من أشياء كثيرة ولا يختلف اثنين من أهل الإسلام في أنه لا يحل لأحد أن يطلق على الكفار من أجل ذلك أنه مؤمن ولا أنه مسلم فصح يقيناً أن لفظة الإسلام والإيمان منقولة عن موضوعها في اللغة إلى معان محددة معروفة لم تعرفه العرب قط حتى أنزل الله عز وجل بها الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم أنه من أتى بها استحق اسم الإيمان والإسلام وسمي مؤمناً مسلماً ومن لم يأت بها لم يسم مؤمناً ولا مسلماً وإن صدق بكل شيء غيرها أو تبرأ من كل شيء حاشى ما أوجبت الشريعة التبرأ منه وكذلك الكفر والشرك لفظتان منقولتان عن موضوعهما في اللغة لأن الكفر في اللغة التغطية والشرك أن تشرك شيئاً مع آخر في أي معنى جمع بينهما ولا خلاف بين أحد من أهل التمييز في أن كل مؤمن في الأرض في أنه يغطي أشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز أن يطلق عليه من أجل ذلك الكفر ولا الشرك ولا أن يسمى كافراً ولا مشركاً وصح يقيناً أن الله تعالى نقل اسم الكفر والشرك إلى إنكار أشياء لم تعرفها العرب وإلى أعمال لم تعرفها العرب قط كمن جحد الصلاة أو صوم رمضان أو غير ذلك من الشرائع التي لم تعرفها العرب قط حتى أنزل الله تعالى بها وحيه أو كمن عمد وثناً فمن أتى بشيء من تلك الأشياء سمي كافراً لا مشركاً ومن لم يأت بشيء من تلك الأشياء لم يسم كافراً أو مشركاً ومن خالف هذا فقد كابر الحس وجحد العيان وخالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والقرآن والسنن وإجماع المسلمين وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واختلف الناس في قول المسلم أنا مؤمن فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ومن بعده من الفقهاء أنه كره ذلك وكان يقول أنا مؤمن إن شاء الله وقال بعضهم آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وكانوا يقولون من قال أنا مؤمن فليقل إنه من أهل الجنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا ابن مسعود وأصحابه حجج في اللغة فإن جهال المرجئة الموهومون في نصر بدعتهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والقول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبكل ما أتى به عليه السلام وأنه يقر بلسانه بكل ذلك فواجب عليه أن يعترف بذلك كما أمر تعالى إذ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وأما بنعمة ربك فحدث ‏"‏ ولا نعمة أوكد ولا أفضل ولا أولى بالشكر من نعمة الإسلام فواجب عليه أن يقول أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى في وقتي هذا ولا فرق بين قوله أنا مؤمن مسلم وبين قوله أنا أسود أو أنا أبيض وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏"‏ وقول بن مسعود عندنا صحيح لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة إلى جميع البر والطاعات فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات وهذا صحيح ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب ولا شك بلا شك وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء أني مؤمن بمعنى مصدق كيف وهو يقول قل آمنت بالله ورسله أي صدقت وأما من قال فقل أنك في الجنة فالجواب أننا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن فلا بد لنا من الجنة بلا شك وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به ولم يأت بما هو كفر فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ولا نأمن مكر الله تعالى ولا إضلاله ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غداً ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في تسمية المذنب من أهل ملتنا فقالت المرجئة هو مؤمن كامل الإيمان وإن لم يعمل خيراً قط ولا كف عن شر قط وقال بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد هو كافر مشرك كعابد الوثن بأي ذنب كان منه صغيراً أو كبيراً ولو فعله على سبيل المزاح وقالت الصغرية إن كان الذنب من الكباير فهو مشرك كعابد الوثن وإن كان الذنب صغيراً فليس كافراً وقالت الأباضية إن كان الذنب من الكبائر فهو كافر نعمة تحل موارثته ومناكحته وأكل ذبيحته وليس مؤمناً ولا كافراً على الإطلاق وروي عن الحسن البصري وقتادة رضي الله عنهما أن صاحب الكبيرة منافق وقالت المعتزلة إن كان الذنب من الكبائر فهو فاسق ليس مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً وأجازوا مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته قالوا وإن كان من الصغاير فهو مؤمن لا شيء عليه فيها وذهب أهل السنة من أصحاب الحديث والفقهاء إلى أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان وقالوا الإيمان اسم معتقده وإقراره وعمله الصالح والفسق اسم عمله السيء إلا أن بين السلف منهم والخلف اختلافاً في تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها وتارك الصوم لو مضى كذلك وتارك الزكاة وتارك الحج كذلك وفي قاتل المسلم عمداً وفي شارب الخمر وفيمن سب نبياً من الأنبياء عليهم السلام وفيمن رد حديثاً قد صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن المبارك وأحمد بن حنبل واسحق ابن راهوية رحمة الله عليهم وعن تمام سبعة عشرة رجلاً من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها فإنه كافر مرتد وبهذا يقول عبد الله ابن الماجشون صاحب مالك وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره وروينا عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك في تارك الحج وعن ابن عباس وغيره مثل ذلك في تارك الزكاة والصيام وفي قاتل المسلم عمداً وعن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص في شارب الخمر وعن اسحق بن راهوية أن من رد حديثاً صحيحاً عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج من كفر المذنبين بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ فهؤلاء كلهم ممن كذب وتولى والمكذب المتولي كافر فهؤلاء كفار‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والعجب أن المرجئة المسقطة للوعيد جملة عن المسلمين قد احتجوا بهذه الآية نفسها فقالوا قد أخبرنا أن الله عز وجل أن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى فصح أن من لم يكذب ولا تولى لا يصلاها قالوا ووجدنا هؤلاء كلهم لم يكذبوا ولا تولوا بل هم مصدقون معترفون بالإيمان فصح أنهم لا يصلونها وأن المراد بالوعيد المذكور في الآيات المنصوصة إنما هو فعل تلك الأفاعيل من الكفار خاصة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج أيضاً من كفر من ذكرنا بأحاديث كثيرة منها سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شرو حين ينهبها وهو مؤمن وترك الصلاة شرك وإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ومثل هذا كثير‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وما نعلم لمن قال هو منافق حجة أصلاً ولا لمن قال أنه كافر نعمة إلا أنهم نزعوا بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا حجة لهم فيه لأن كفر النعمة عمل يقع من المؤمن والكافر وليس هو ملة ولا اسم دين فمن ادعى اسم دين وملة غير الإيمان المطلق والكفر المطلق فقد أتى بما لا دليل عليه وأما من قال هو فاسق لا مؤمن ولا كافر فما لهم حجة أصلاً إلا أنهم قالوا قد صح الإجماع على انه فاسق لأن الخوارج قالوا هو كافر فاسق وقال غيرهم هو مؤمن فاسق فاتفقوا قال أبو محمد‏:‏ وهذا خلاف لإجماع من ذكر لأنه ليس منهم أحد جعل الفسق اسم دينه وإنما سموا بذلك عملهم والإجماع والنصوص قد صح كل ذلك على أنه لا دين إلا الإسلام أو الكفر من خرج من أحدهما دخل في الآخر ولا بد إذ ليس بينهما وسيطة وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ‏"‏ وهذا حديث قد أطبق جميع الفرق المنتمية إلى الإسلام على صحته وعلى القول به فلم يجعل عليه السلام ديناً غير الكفر والإسلام ولم يجعل هاهنا ديناً ثالثاً أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتجت المعتزلة أيضاً بأن قالت قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ‏"‏ فصح أن هؤلاء الذين سماهم الله تعالى مجرمين و فساقاً وأخرجهم عن المؤمنين نصاً فإنهم ليسوا على دين الإسلام وإذا لم يكونوا على دين الإسلام فهم كفار بلا شك إذ لا دين ها هنا غيرهما أصلاً برهان هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ وقد علمنا ضرورة أنه لا دار إلا الجنة والنار وأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون المسلمون فقط ونص الله تعالى على أن النار لا يدخلها إلا المكذب المتولي والمتولي المكذب كافر بلا خلاف فلا يخلد في النار إلا كافر ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فصح أنه لا دين إلا الإيمان والكفر فقط وإذ ذلك كذلك فهؤلاء الذين سماهم الله عز وجل مجرمين وفاسقين وأخرجهم عن المؤمنين فهم كفار مشركون لا يجوز غير ذلك وقال المؤمن محمود محسن ولي لله عز وجل والمذنب مذموم مسيء عدو لله قالوا ومن المحال أن يكون إنسان واحد محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله ولياً له معاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الذي أنكروه لا نكرة فيه بل هو أمر موجود مشاهد فمن أحسن من وجه وأساء من وجه آخر كمن صلى ثم زنى فهو محسن محمود ولي لله فيما أحسن فيه من صلاة وهو مسيء مذموم عدو لله فيما أساء فيه من الزنا قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏"‏ فبالضرورة ندري أن العمل الذي شهد الله عز وجل أنه سيء فإن عامله فيه مذموم مسيء عاص لله تعالى ثم يقال لهم ما تقولون إن عارضتكم المرجئة بكلامكم نفسه فقالوا من المحال أن يكون إنساناً واحداً محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله ولياً له معاً ثم أرادوا تغليب الحمد والإحسان والولاية وإسقاط الذم والإساءة والعداوة كما أردتم أنتم بهذه القضية نفسها تغليب الذم والإساءة والعداوة وإسقاط الحمد والإحسان والولاية بما ينفصلون عنهم فإن قالت المعتزلة أن الشرط في حمده وإحسانه وولايته أن تجتنب الكبائر قلنا لهم فإن عارضتكم المرجئة فقالت أن الشرط في ذمه وإساءته ولعنه وعداوته ترك شهادة التوحيد فإن قالت المعتزلة أن الله قد ذم المعاصي وتوعد عليها قيل لهم فإن المرجئة تقول لكم أن الله تعالى قد حمد الحسنات ووعد عليها وأراد بذلك تغليب الحمد كما أردتم تغليب الذم فإن ذكرتم آيات الوعيد ذكروا آيات الرحمة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا ما لا مخلص للمعتزلة منه ولا للمرجئة أيضاً فوضح بهذا أن كلا الطائفتين مخطئة وأن الحق هو جمع كل ما تعلقت به كلتا الطائفتين من النصوص التي في القرآن والسنن ويكفر من هذا كله قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ‏"‏ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ‏"‏ فصح بهذا كله أنه لا يخرجه عن اسم الإيمان إلا الكفر ولا يخرجه عن اسم الكفر إلا الإيمان وأن الأعمال حسنها حسن إيمان وقبيحها قبيح ليس إيماناً والموازنة تقضي على كل ذلك ولا يحبط الأعمال إلا الشرك قال تعالى‏:‏ ‏"‏ لئن أشركت ليحبطن عملك ‏"‏ وقالوا إذا أقررتم أن أعمال البر كلها إيمان وأن المعاصي ليست أيماناً فهو عندكم مؤمن غير مؤمن قلنا نعم ولا نكرة في ذلك وهو مؤمن بالعمل الصالح غير مؤمن بالعمل السيء كما نقول محسن بما أحسن فيه مسيء غير محسن معاً بما أساء فيه وليس الإيمان عندنا التصديق وحده فيلزمنا التناقض وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي ليس مطيعاً في زناه ذلك وهو مؤمن بسائر حسناته واحتجوا بقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وكذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ‏"‏ ففرق تعالى بين الفسق والإيمان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ نعم وقد أوضحنا أن الإيمان هو كل عمل صالح فبيقين ندري أن الفسق ليس إيماناً فمن فسق فلم يؤمن بذلك العمل الذي هو الفسق ولم يقل عز وجل أنه لا يؤمن في شيء من سائر أعماله وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ‏"‏ فهؤلاء قد شهد الله تعالى لهم بالإيمان فإذا وقع منهم فسق ليس إيماناً فمن المحال أن يبطل فسقه إيمانه في سائر أعماله وأن يبطل إيمانه في سائر الأعمال فسقه بل شهادة الله تعالى له بالإيمان في جهاده حق وبأنه لم يؤمن في فسقه حق أيضاً فإن الله عز وجل قال‏:‏ ‏"‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ‏"‏ ‏"‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ‏"‏ ‏"‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ‏"‏ فيلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص قال أبو محمد‏:‏ وأما نحن فنقول أن كل من كفر فهو فاسق ظالم عاص وليس كل فاسق ظالم عاص كافراً بل قد يكون مؤمناً وبالله تعالى التوفيق وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ‏"‏ فبعض الظلم مغفور بنص القرآن‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقالوا قد وجب لعن الفساق والظالمين وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ألا لعنة الله على الظالمين ‏"‏ والمؤمن يجب ولايته والدعاء له بالرحمة وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم السارق ومن لعن أباه ومن غير منار الأرض فيلزمكم أن تدعوا على المرء الواحد باللعنة والمغفرة معاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فنقول أن المؤمن الفاسق يتولى دينه وملته وعقده وإقراره ويتبرأ من عمله الذي هو الفسق والبراءة والولاية ليست من عين الإنسان مجردة فقط وإنما هي له أو منه بعمله الصالح أو الفاسد فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن المحسن في بعض أفعاله من المؤمنين نتولاه من أجل ما أحسن فيه ونبرأ من عمله السيء فقط وأما الله تعالى فإنه يتولى عمله الصالح عنده ويعادي عمله الفاسد وأما الدعاء باللعنة والرحمة معاً فلسنا ننكره بل هو معنى صحيح وما جاء عن الله قط ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي أن يلعن العاصي على معصيته ويترحم عليه لإحسانه ولو أن امرأ زنى أو سرق وحال الحول على ماله وجاهد لوجب أن يحد للزنا والسرقة ولو لعن لأحسن لاعنه ويعطي نصيبه من المغنم ونقبض زكاة ماله ونصلي عليه عند ذلك لقول الله‏:‏ ‏"‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ‏"‏ وبيقين ندري أن قد كان في أولئك الذين كان عليهم السلام يقبض صدقاتهم ويصلي عليهم مذنبون عصاة لا يمكن البتة أن يخلوا جميع جزيرة العرب من عاص وكذلك كل من مات في عصره عليه السلام وصلى عليه هو عليه السلام والمسلمون معه وبعده فبيقين ندري أنه قد كان فيهم مذنب بلا شك وإذا صلى عليه ودعا له بالرحمة وإن ذكر عمله القبيح لعن وذم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونعكس عليهم هذا السؤال نفسه في أصحاب الصغاير الذين يوقع عليهم المعتزلة اسم الإيمان فهذه السؤالات كلها لازمة لهم إذ الصغاير ذنوب ومعاص بلا شك إلا أننا لا نوقع عليها اسم فسق ولا ظلم إذا انفردت عن الكباير لأن الله تعالى ضمن غفرانها لمن اجتنب الكباير ومن غفر له ذنبه فمن المحال أن يوقع عليه اسم فاسق أو اسم ظالم لأن هذين اسمان يسقطان قبول الشهادة ومجتنب الكباير وإن تستر بالصغاير فشهادته مقبولة لأنه لا ذنب له وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولنا على المعتزلة الزامات أيضاً تعمهم والخوارج المكفرة ننبه عليها عند نقضنا أقوال المكفرة إن شاء الله تعالى وبه نتأيد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة كافر قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فأتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ‏"‏ فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل أو مقتول ونص تعالى على أن القاتل عمداً وولي المقتول أخوان وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون أخوة ‏"‏ فصح أن القاتل عمداً مؤمن بنص القرآن وحكم له بأخوة الإيمان ولا يكون للكافر مع المؤمن بتلك الأخوة وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏"‏ فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى أن الطائفة الباغية على الطائفة الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالها حتى تفيء إلى أمر الله تعالى أخوة للمؤمنين المقاتلين وهذا أمر لا يضل عنه إلاضال وهذه الآيتان حجة قاطعة أيضاً على المعتزلة أيضاً المسقطة اسم الإيمان عن القاتل وعن كل من أسقط عن صاحب الكباير اسم الإيمان وليس لأحد أن يقول أنه تعالى إنما جعلهم إخواننا إذا تابوا لأن نص الآية أنهم إخوان في حالة البغي وقبل الفئة إلى الحق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقال بعضهم أن هذا الاقتتال إنما هو التضارب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أنه دعوى بلا برهان وتخصيص الآية بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل بلا شك والثاني أن ضرب المسلم للمسلم ظلماً وبغياً فسق ومعصية ووجه ثالث وهو أن الله تعالى لو لم يرد القتال المعهود لما أمرنا بقتال من لا يزيد على الملاطمة وقد عم تعالى فيها باسم البغي فكل بغي فهو داخل تحت هذا الحكم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد ذكروا قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذه الآية بظاهرها دون تأويل حجة لنا عليهم لأنه ليس فيها أن القاتل العامل ليس مؤمناً وإنما فيها نهي المؤمن عن قتل المؤمن عمداً فقط لأنه تعالى قال‏:‏ ‏"‏ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ‏"‏ وهكذا نقول ليس للمؤمن قتل المؤمن عمداً ثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إلا خطأ ‏"‏ فاستثنى الله عز وجل الخطاء في القتل من جملة ما حرم من قتل المؤمن للمؤمن لأنه لا يجوز النهي عما لا يمكن الانتهاء عنه ولا يقدر عليه لأن الله تعالى أمننا من أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وكل فعل خطأ فلم ننه عنه بل قد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ‏"‏ فبطل تعلقهم بهذه الآية وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ‏"‏ فهو أيضاً على ظاهره وإنما في هذا اللفظ النهي عن أن يرتدوا بعده إلى الكفر فيقتتلوا في ذلك فقط وليس في هذا اللفظ أن القاتل كافر ولا فيه أيضاً النهي عن القتل المجرد أصلاً وإنما نهى عنه في نصوص أخر من القرآن والسنن كما ليس في هذا اللفظ أيضاً نهي عن الزنا ولا عن السرقة وليس في كل حديث حكم كل شريعة فبطل تعلقهم بهذا الخبر وكذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر ‏"‏ فهو أيضاً على عمومه لأن قوله عليه السلام المسلم هاهنا عموم للجنس ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر برهان هذا هو ما ذكرنا قبل من نص القرآن في أن القاتل عمداً والمقاتل مؤمنان وكلامه عليه السلام لا يتعارض ولا يختلف وكذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر لكم أن ترغبوا عن آبائكم ‏"‏ فإنه عليه السلام لم يقل كفر منكم ولم يقل أنه كفر بالله تعالى نعم ونحن نقر أن من رغب عن أبيه فقد كفر بأبيه وجحده ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولكنه كافر أو فاسق ألم يقل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ‏"‏ وفي سورة النساء محصنات غير مسافحات فهذه آيات في غاية البيان في أنه ليس في الأرض إلا مؤمن أو كافر أو مؤمنة أو كافرة ولا يوجد دين ثالث وأن المؤمنة حلال نكاحها للمؤمن وحرام نكاحها على الكافر وأن الكتابية حلال للمؤمن بالزواج وللكافر فخبرونا إذا زنت المرأة وهي غير محصنة أو وهي محصنة أو إذا سرقت أو شربت الخمر أو قذفت أو أكلت مال يتيم أو تعمدت ترك الغسل حتى خرج وقت الصلاة وهي عالمة بذلك أو لم تخرج زكاة مالها فكانت عندكم بذلك كافرة أو بريئة من الإسلام خارجة عن الإيمان وخارجة من جملة المؤمنين أيحل للمؤمن الفاضل ابتداء نكاحها والبقاء معها على الزوجية إن كان قد تزوجها قبل ذلك أو يحرم على أبيها الفاضل أو أخيها البر أن يكونا لها وليين في تزويجها وأخبرونا إذا زنا الرجل أو سرق أو قذف أو أكل مال يتيم أو فر من الزحف أو سحر أو ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها أو لم يخرج زكاة ماله فصار بذلك عندكم كافراً أو بريء من الإسلام وخرج عن الإيمان وعن جملة المؤمنين أيحرم عليه ابتداء نكاح امرأة مؤمنة أو وطؤها بملك اليمين أو تحرم عليه امرأته المؤمنة التي في عصمته فينفسخ نكاحها منه أو يحرم عليه أن يكون ولياً لابنته المؤمنة أو أخته المؤمنة في تزويجها وهل يحرم على التي ذكرنا والرجل الذي ذكرنا ميراث وليه المؤمن أو يحرم على وليهما المؤمن ميراثهما أو يحرم أكل ذبيحته لأنه قد فارق الإسلام في زعمكم وخرج عن جملة المؤمنين فإنهم كلهم لا يقولون بشيء من هذا فمن الخلاف المجرد منهم لله تعالى أن يحرم الله تعالى المؤمنة على من ليس بمؤمن فيحلونها هم ويحرم الله تعالى التي ليست مؤمنة على المؤمن ألا تكون كتابية فيحلونها هم ويقطع الله تعالى الولاية بين المؤمن ومن ليس مؤمناً فيبقونها هم في الإنكاح ويحرم الله تعالى ذبائح من ليس مؤمناً إلا أن يكون كتابياً فيحلونها هم ويقطع عز وجل الموارثة بين المؤمن ومن ليس مؤمناً فيثبتونها هم ومن خالف القرآن وثبت على ذلك بعد قيام الحجة عليه فنحن نبرأ إلى الله تعالى منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأكثر هذه الأمور التي ذكرنا فإنه لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيها ولا بين فرقة من الفرق المنتمية إلى الإسلام وفي بعضها خلاف نشير إليه لئلا يظن ظان أننا أغفلناه فمن ذلك الخلاف في الزاني والزانية فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفسخ النكاح قبل الدخول بوقوعه من أحدهما والحسن البصري وغيره من السلف لا يجيزون للزاني ابتداء النكاح مع مسلمة البتة ولا للزانية أيضاً إلا أن يتوبا وبهذا نقول نحن ليس لأنهما ليسا مسلمين بل هما مسلمان ولكنها شريعة من الله تعالى واردة في القرآن في ذلك كما يحرم على المحرم النكاح مادام محرماً وبالله تعالى التوفيق وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وفي هذه الآية أيضاً نص جلي على أن الزاني والزانية ليسا مشركين لأن الله تعالى فرق بينهما فرقاً لا يحتمل البتة أن يكون على سبيل التأكيد بل على أنهما صفتان مختلفان وإذا لم يكونا مشركين فهما ضرورة مسلمان بما قد بينا قبل من أن كل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر ومن لم يكن كافراً مشركاً فهو مؤمن إذ لا سبيل إلى دين ثالث وبالله تعالى التوفيق ومن الخلاف في بعض ما ذكرنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإبراهيم النخعي أن المسلم إذا ارتد والمسلمة إذا لم يسلم زوجها فهي امرأته كما كانت إلا أنه لا يطؤها وروي عن عمر أيضاً أنها تخير في البقاء معه أو فراقه وكل هذا لا حجة فيه ولا حجة إلا في نص قرآن أو سنة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأيضاً فإن الله عز وجل قد أمر بقتل المشركين ولم يستثن منهم أحداً إلا كتابياً يغرم الجزية مع الصغار أو رسولاً حتى يؤدي رسالته ويرجع إلى مأمنه أو مستجيراً ليسمع كلام الله تعالى ثم يبلغ إلى مأمنه وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل من بدل دينه فنسأل كل من قال بأن صاحب الكبيرة قد خرج من الإيمان وبطل إسلامه وصار في دين آخر إما الكفر وإما الفسق إذا كان الزاني والقاتل والسارق والشارب للخمر والقاذف والفار من الزحف وآكل مال اليتيم قد خرج عن الإسلام وترك دينه أيقتلونه كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله أم لا يقتلونه فيخالفون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن قولهم كلهم خوارجهم ومعتزليهم أنهم لا يقتلونه وأما في بعض ذلك حدود معروفة من قطع يد أو جلد مائة أو ثمانين وفي بعض ذلك أدب فقط وأنه لا يحل الدم بشيء من ذلك وهذا انقطاع ظاهر وبطلان لقولهم لا خفاء به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبعض شاذة الخوارج جسر فقال تقام الحدود عليهم ثم يستتابون فيقتلون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خلاف الإجماع المتيقن وخلاف للقرآن مجرد لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا ‏"‏ فقد حرم الله تعالى قتلهم وافترض استبقاءهم مع إصرارهم ولم يجعل فيهم إلا رد شهادتهم فقط ولو جاز قتلهم فطيف كانوا يؤدون شهادة لا تقبل بعد قتلهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لا خلاف بيننا وبينهم ولا بين أحد من الأمة في أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله واستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فإنه مؤمن مسلم فلو كان الفاسق غير مؤمن لكان كافراً ولا بد ولو كان كافراً لكان مرتداً يجب قتله وبالله تعالى التوفيق قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ‏"‏ فوجب يقيناً بأمر الله عز وجل ألا يترك يعمر مساجد الله بالصلاة فيها إلا المؤمنون وكلهم متفق معنا على أن الفاسق صاحب الكبائر مدعو ملزم عمارة المساجد للصلاة مجبر على ذلك وفي إجماع الأمة كلها على ذلك وعلى تركهم يصلون معنا وإلزامهم أداء الزكاة وأخذها منهم وإلزامهم صيام رمضان وحج البيت برهان واضح لا إشكال فيه على أنه لم يخرج عن دين المؤمنين وأنه مسلم مؤمن وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ ‏"‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ‏"‏ فخاطب تعالى المؤمنين باياس الكافرين عن دينهم ولا سبيل إلى قسم ثالث وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ‏"‏ فصح أن لا دين إلا دين الإسلام وما عداه شيء غير مقبول وصاحبه يوم القيامة خاسر وبالله تعالى التوفيق وقال عز وجل ‏"‏ المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ‏"‏ فصح يقيناً أنه ليس في الناس ولا في الجن إلا مؤمن أو كافر فمن خرج عن أحدهما دخل في الآخر فنسألهم عن رجل من المسلمين فسق وجاهر بالكباير وله أختان إحداهما نصرانية والثانية مسلمة فاضلة لأيتهما يكون هذا الفاسق ولياً في النكاح ووارثاً وعن امرأة سرقت وزنت ولها ابنا عم أحدهما يهودي والآخر مسلم فاضل أيهما يحل له نكاحها وهذا ما لا خلاف فيه ولا خفاء به فصح أن صاحب الكباير مؤمن وقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يتقبل الله من المتقين ‏"‏ فأخبرونا أتأمرون الزاني والسارق والقاذف والقاتل بالصلاة وتؤدبونه أن لم يصل أم لا فمن قولهم نعم ولو قالوا لا لخالفوا الإجماع المتيقن فنقول لهم أفتأمرونه بما هو عليه أم بما ليس عليه وربما يمكن أن يقبله الله تعالى أم بما يوقن أنه لا يقبله فإن قالوا نأمره بما ليس عليه ظهر تناقضهم إذ لا يجوز أن يلزم أحد ما لا يلزمه وإن قالوا بل بما عليه قطعوا بأنه مؤمن لأن الله تعالى أخبر أن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً وإن قالوا نأمره بما لا يمكن أن يقبل منه أحالوا إذ من المحال أن يؤمر أحد بعمل هو على يقين بأنه لا يقبل منه وإن قالوا بل نأمره بما نرجو أن يقبل منه قلنا صدقتم وقد صح بهذا أن الفاسق من المتقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من المعاصي ونسألهم أيأمرون صاحب الكبيرة بتمتيع المطلقة إن طلقها أم لا فإن قالوا نأمره بذلك لزمهم أنه من المحسنين المتقين لأن الله تعالى يقول في المتعة حقاً على المحسنين وحقاً على المتقين فصح أن الفاسق محسن فيما عمل من صالح ومسيء فيما عمل من سيء فإن قالوا أن الصلاة عليه كما هي عندكم على الكفار أجمعين قلنا لا سواء لأنها وإن كان الكافر وغير المتوضئ والجنب مأمورين بالصلاة معذبين على تركها فإنا لا نتركهم يقيمونها أصلاً بل نمنعهم منها حتى يسلم الكافر ويتوضأ المحدث ويغتسل الجنب ويتوضأ أو يتيمم وليس كذلك الفاسق بل نجبره على إقامتها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا خلاف فيه من أحد إلا أن الجبائي المعتزلي ومحمد بن الطيب الباقلاني ذهبا من بين جميع الأمة إلى إن كانت له ذنوب فإنه لا تقبل له توبة من شيء منها حتى يتوب من الجميع واتبعهما على ذلك قوم وقد ناظرنا بعضهم في ذلك وألزمناهم أن يوجبوا على كل من أذنب ذنباً واحداً أن يترك الصلاة الفرض والزكاة وصوم رمضان والجمعة والحج والجهاد لأن إقامة كل ذلك توبة إلى الله من تركها فإذا كانت توبته لا تقبل من شيء حتى يتوب من كل ذنب له فإنه لا يقبل له توبة من ترك صلاة ولا من ترك صوم ولا من ترك زكاة إلا حتى يتوب من كل ذنب له وهذا خلاف لجميع الأمة إن قالوه أو تناقض إن لم يقولوه مع أنه قول لا دليل لهم على تصحيحه أصلاً وما كان هكذا فهو باطل قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وأشهدوا ذوي عدل منكم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وصالح المؤمنين ‏"‏ فصح يقيناً بهذا اللفظ أن فينا غير عدل وغير صالح وهما منا ونحن المؤمنون فهو مؤمن بلا شك وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فإن تابوا ‏"‏ يعني من الشرك ‏"‏ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ‏"‏ وهذا نص جلي على أن من صلى من أهل شهادة الإسلام وزكى فهو أخونا في الدين ولم يقل تعالى ما لم يأت بكبيرة فصح أنه منا وإن أتى بالكباير‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن ذكروا قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ‏"‏ وراموا بذلك إثبات أنه لا مؤمن ولا كافر فهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما وصف بذلك المنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام فهم لا مع الكفار ولا منهم ولا إليهم لأن هؤلاء يظهرون الإسلام وأولئك لا يظهرونه ولا هم مع المسلمين ولا منهم ولا إليهم لإبطانهم الكفر وليس في هاتين الآيتين أنهم ليسوا كفاراً وقد قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ‏"‏ فصح يقيناً أنهم كفار لا مؤمنون أصلاً وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة منافق ما معنى هذه الكلمة فجوابهم الذي لا جواب لأحد في هذه المسألة غيره هو أن المنافق من كان النفاق صفته ومعنى النفاق في الشريعة هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر فيقال له وبالله تعالى التوفيق لا يعلم ما في النفوس إلا الله تعالى ثم تلك النفس التي ذلك الشيء فيها فقط ولا يجوز أن نقطع على اعتقاد أحد الكفر إلا بإقراره بلسانه بالكفر وبوحي من عند الله تعالى ومن تعاطى علم ما في النفوس فقد تعاطى علم الغيب وهذا خطأ متيقن يعلم بالضرورة وحسبك من القول سقوطاً أن يؤدي إلى المحال المتيقن وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ‏"‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إني لم أبعث لأشق على قلوب الناس ‏"‏ وقد ذكر الله تعالى المنافقين فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏"‏ فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف المنافقين وهم معه وهو يراهم ويشاهد أفعالهم فمن بعده أحرى أن لا يعلمهم ولقد كان الزناة على عهده صلى الله عليه وسلم والسرقة والشراب ومضيعوا فرض الصلاة في الجماعة والقاتلون عمداً والقذفة فما سمى عليه السلام قط أحداً منهم منافقين بل أقام الحدود في ذلك وتوعد بحرق المنازل وأمر بالدية والعفو وأبقاهم في جملة المؤمنين وأبقى عليهم حكم الإيمان واسمه وقد قلنا أن التسمية في الشريعة لله عز وجل لا لأحد دونه ولم يأت قط عن الله عز وجل تسمية صاحب الكبيرة منافقاً فإن قالوا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وقد ذكر خصالاً من كن فيه كان منافقاً خالصاً وإن صام وصلى وقال إني مسلم وذكر عليه السلام تلك الخصال فمنها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وذكر عليه السلام أن من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها قلنا له وبالله تعالى التوفيق صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبرناك أن المنافق هو من أظهر شيئاً وأبطن خلافه مأخوذ في أصل اللغة من نافقاء اليربوع وهو باب في جانب جحره مفتوح قد غطاه بشيء من تراب وهذه الخلال كلها التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها باطن صاحبها بخلاف ما يظهر فهو منافق هذا النوع من النفاق وليس هو النفاق الذي يظن صاحبه الكفر بالله برهان ذلك ما ذكرناه آنفاً من إجماع الأمة على أخذ زكاة مال كل من وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفاق وعلى إنكاحه ونكاحها إن كانت امرأة وموارثته وأكل ذبيحته وتركه يصلي مع المسلمين وعلى تحريم دمه وماله ولو تيقنا أنه يبطن الكفر لوجب قتله وحرم نكاحه ونكاحها وموارثته وأكل ذبيحته ولم نتركه يصلي مع المسلمين ولكن تسمية النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر منافقاً كتسمية الله عز وجل الذراع كفاراً إذ يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ‏"‏ لأن أصل الكفر في اللغة التغطية فمن ستر شيئاً فهو كافر له وأصل النفاق في اللغة ستر شيء وإظهار خلافه فمن ستر شيئاً وأظهر خلافه فهو منافق فيه وليس هذان من الكفر الديني ولا من النفاق الشرعي في شيء وبهذا تتألف الآيات والأحاديث كلها وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لمن قال بهذا القول هل أتيت بكبيرة قط فإن قال لا قيل له هذا القول كبيرة لأنه تذكية وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فلا تزكوا أنفسكم ‏"‏ وقد علمنا أنه لا يعرى أحد من ذنب إلا الملائكة والنبيين صلى الله عليهم وسلم وأما من دونهم فغير معصوم بل قد اختلف الناس في عصمة الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام وإن كنا قاطعين على خطأ من جوز على أحد من الملائكة ذنباً صغيراً أو كبيراً بعمد أو خطأ وعلى خطأ من جوز على أحد من النبيين ذنباً بعمد صغيراً أو كبيراً لكنا أعلمنا أنه لم يتفق على ذلك قط وإن قال بلى قد كان لي كبيرة قيل هل كنت في حال مواقعتك الكبيرة شاكاً في الله عز وجل أو في رسوله صلى الله عليه وسلم أو كافراً بهما أم كنت موقناً بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما أتى به موقناً بأنك مسيء مخطئ في ذنبك فإن قال كنت كافراً أو شاكاً فهو أعلم بنفسه ويلزمه أن يفارق وأمته المسلمتين ولا يرث من مات له من المسلمين ثم بعد ذلك لا يجوز له أن يقطع على غيره من المذنبين بمثل اعتقاده في الجحد ونحن نعلم بالضرورة كذب دعواه وندري أننا في حين ما كان منا ذنب مؤمنون بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وإن قال بل كنت مؤمناً بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم في حال ذنبي قيل له هذا إبطال منك للقول بالنفاق والقطع به على المذنبين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ففي إجماع الأمة كلها دون مختلف من أحد منهم على أن صاحب الكبيرة مأمور بالصلاة مع المسلمين وبصوم شهر رمضان والحج وبأخذ زكاة ماله وإباحة مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته وبتركه يتزوج المرأة المسلمة الفاضلة ويبتاع الأمة المسلمة الفاضلة ويطأها وتحريم دمه وماله وأن لا يؤخذ منه جزية ولا يصغر برهان صحيح على أنه مسلم مؤمن وفي إجماع الأمة كلها دون مخالف على تحريم قبول شهادته وخبره برهان على أنه فاسق فصح يقيناً أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان عن المؤمن الذي ليس بفاسق قال تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ‏"‏ فأما من قال أنه كافر نعمة فما لهم حجة أصلاً إلا أن بعضهم نزغ بقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا حجة لهم فيه لأن نص الآية مبطل لقولهم لأن الله تعالى يقول متصلاً بقوله‏:‏ ‏"‏ وبئس القرار وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله ‏"‏ فصح أن الآية في المشركين بلا شك وأيضاً فقد يكفر المرء نعمة الله ولا يكون كافراً بل مؤمناً بالله تعالى كافراً لأنعمه بمعاصيه لا كافراً على الإطلاق وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو في شيء من مسائل الفتيا فهو كافر وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك فاسق غير كافر في بعضه على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم وذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر وأن من خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافراً ولا فاسقاً ولكنه مجتهد معذور أن الخطأ مأجور بنيته وقالت طائفة بمثل هذا فيمن خالفهم في مسائل العبادات وقالوا فيمن خالفهم في مسائل الاعتقادات أن كان الخلاف في صفات الله عز وجل فهو كافر وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلي وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عن جميعهم وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً إلا من ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمداً حتى خرج وقتها أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحج أو ترك صيام رمضان أو شرب الخمر واحتج من كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ذكروا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القدرية والمرجئية مجوس بهذه الأمة وحديثاً آخر تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة حاشا واحدة فهي في الجنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف من لا يقول به واحتجوا بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من قال لأخيه فقد باء بالكفر أحدهما ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا حجة لهم فيه لأن لفظه يقتضي أنه يأثم برميه للكفر ولم يقل عليه السلام أنه بذلك كافر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ و الجمهور من المحتجين بهذا الخبر لا يكفرون من قال لمسلم يا كافر في مشاتمة تجري بينهما وبهذا خالفوا الخبر الذي احتجوا به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع وأما بالدعوة والافتراء فلا فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقولاً نقل إجماع تواتر أو نقل آحاد إلا أن من خالف الإجماع المتقين المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته ووجوب تكفيره لا تفاق الجميع على معرفة الإجماع وعلى تكفير مخالفته برهان صحة قولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه الآية نص بتكفير من فعل ذلك فإن قال قائل أن من اتبع غير سبيل المؤمنين فليس من المؤمنين قلنا له وبالله تعالى التوفيق ليس كل من اتبع غير سبيل المؤمنين كافراً لأن الزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس بالباطل ليست من سبيل المؤمنين وقد علمنا أن من اتبعها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وليس مع ذلك كافراً ولكن البرهان في هذا قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ‏"‏ قال أبو محمد‏:‏ فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلاً ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلاً ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان فلا يكون كافراً إلا أن يأتي نص بتكفيره فيوقف عنده كمن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقط فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر فإن قال قائل فما تقولون فيمن قال أنا أشهد أن محمداً رسول الله ولا أدري أهو قرشي أم تميمي أم فارسي ولا هل كان بالحجاز أو بخرسان ولا أدري أحي هو أو ميت ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره قيل له إن كان جاهلاً لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير لم يضره ذلك شيئاً ووجب تعليمه ووجب تعليمه فإذا علم وصح عنده الحق فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله محكوم عليه حكم المرتد وقد علمنا أن كثيراً ممن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل نعم وكثيراً من الصالحين لا يدري كم لموت النبي صلى الله عليه وسلم ولا أين كان ولا في أي بلد كان ويكفيه من كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلاً اسمه محمد أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكذلك من قال أن ربه جسم فإنه إن كان جاهلاً أو متأولاً فهو معذور لا شيء عليه ويجب تعليمه فإذا قامت الحجة عليه من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عناداً فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد وأم من قال أن الله عز وجل هو فلان لإنسان بعينه أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه أو أن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى بن مريم فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد ولو أمكن أن قال أبو محمد‏:‏ وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفراً بل قد أحسن إذا فر من الكفر وأيضاً فإنه ليس للناس قول إلا ومخالف ذلك القول يلزم خصمه الكفر في فساد قوله وطرده فالمعتزلة تنسب إلينا تجوير الله عز وجل وتشبيهه بخلقه ونحن ننسب إليهم مثل ذلك سواء بسواء ونلزمهم أيضاً تعجيز الله عز وجل وأنهم يزعمون أنهم يخلقون كخلقه وأن له شركاء في الخلق وأنهم مستغنون عن الله عز وجل ومن أثبت الصفات يسمي من نفاها باقية لأنهم قالوا تعبدون غير الله تعالى لأن الله تعالى له صفات وأنتم تعبدون من لا صفة له ومن نفى الصفات يقول لمن أثبتها أنتم تجعلون مع الله عز وجل لم تزل وتشركون به غيره وتعبدون غير الله لأن الله تعالى لا أحد معه ولا شيء معه في الأزل وأنتم تعبدون شيئاً من جملة أشياء لم تزل وهكذا في كل ما اختلف فيه حتى في الكون والجزء وحتى في مسائل الأحكام والعبادات فأصحاب القياس يدعون علينا خلاف الإجماع وأصحابنا يثبتون عليهم خلاف الإجماع وإحداث شرائع لم يأذن الله عز وجل بها وكل فرقة فهي تنتفي بما تسميها به الأخرى وتكفر من قال شيئاً من ذلك فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله ونص معتقده ولا ينتفع أحد بأن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط وأما الأحاديث الواردة في أن ترك الصلاة شرك فلا تصح من طريق الإسناد وأما الأخبار التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقد جاءت أحاديث أخر بزيادة على هذا الخبر لا يجوز ترك تلك الزيادة وهي قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ‏"‏ وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به فهذا هو الذي لا إيمان لأحد بدونه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج بعض من يكفر من سب الصحابة رضي الله عنهم بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ليغيظ بهم الكفار ‏"‏ قال فكل من أغاظه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد أخطأ من حمل الآية على هذا لأن الله عز وجل لم يقل قط أن كل من غاظه واحد منهم فهو كافر وإنما أخبر تعالى أنه يغيظ بهم الكفار فقط ونعم هذا حق لا ينكره مسلم وكل مسلم فهو يغيظ الكفار وأيضاً فإنه لا يشك أحد ذو حس سليم في أن علياً قد غاظ معاوية وأن معاوية وعمرو بن العاص غاظا علياً وأن عماراً غاظ أبا العادية وكلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد غاظ بعضهم بعضاً فيلزم على هذا تكفير من ذكرنا وحاشا لله من هذا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونقول لمن كفر إنساناً بنفس مقالته دون أن تقوم عليه الحجة فيعاند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجد في نفسه الحرج مما أتى به أخبرنا هل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الإسلام الذي يكفر من لم يقل به إلا وقد بينه ودعا إليه الناس كافة فلا بد من نعم ومن أنكر هذا فهو كافر بلا خلاف فإذا أقر بذلك سئل هل جاء قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقبل إيمان أهل قرية أو أهل محلة أو إنسان أتاه من حر أو عبداً أو امرأة إلا حتى يقران الاستطاعة قبل الفعل أو مع الفعل أو أن القرآن مخلوق أو أن الله تعالى يرى أو لا يرى أو أن له سمعاً وبصراً وحياة أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطان بينهم ليوقع بينهم العداوة والبغضاء فإن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحداً يسلم إلا حتى يوقفه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض وقال ما يدري أنه فيه كاذب وادعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام وهذا محال ممتنع في الطبيعة ثم فيه نسبة الكفر إليهم إذ كتموا ما لا يتم إسلام أحد إلا به وإن قالوا أنه صلى الله عليه وسلم لم يدع قط أحداً إلى شيء من هذا ولكنه مودع في القرآن وفي كلامه صلى الله عليه وسلم قيل له صدقت وقد صح بهذا أنه لو كان جهل شيء من هذا كله كفراً لما ضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ذلك للحر والعبد والحرة والأمة ومن جوز هذا فقد قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغ كما أمر وهذا كفر مجرد ممن أجازه فصح ضرورة أن الجهل بكل ذلك لا يضر شيئاً وإنما يلزم الكلام منها إذا خاض فيها الناس فيلزم حينئذ بيان الحق من القرآن والسنة لقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ‏"‏ ولقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ لتبيننه للناس ولا تكتمونه ‏"‏ فمن عند حينئذ بعد بيان الحق فهو كافر لأنه لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سلم لما قضى به وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً لم يعمل خيراً قط فلما حضره الموت قال لأهله إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح نصفه في البحر ونصفه في البر فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحد من خلقه وأن الله عز وجل جمع رماده فأحياه وسأله ما حملك على ذلك قال خوفك يا رب وأن الله تعالى غفر له لهذا القول‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي إنما هو لئن ضيق الله علي كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى ولا شك في أنه إنما قال أبو محمد‏:‏ وأبين شيء من هذا قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ونعلم إن قد صدقتنا ‏"‏ فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا ما لا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيينهم لها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبرهان ضروري لا خلاف فيه وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك وأسقط كلمة عمداً كذلك أو زاد فيها كلمة عامداً فإنه كافر بإجماع الأمة كلها ثم أن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ويبدل كلامه جاهلاً مقدراً أنه مصيب ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ولا فاسقاً ولا آثماً فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره فإن تمادى على خطاه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج بعضهم بأن قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وآخر هذه الآية مبطل لتأويلهم لأن الله عز وجل وصل قوله يحسنون صنعاً بقوله‏:‏ ‏"‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏"‏ فهذا يبين أن أول الآية في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة ثم نقول لهم لو نزلت هذه الآية في المتأولين من جملة أهل الإسلام كما تزعمون لدخل في جملتها كل متأول مخطئ في تأويل في فتيا لزمه تكفير جميع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم قد اختلفوا وبيقين ندري أن كل امرأ منهم فقد يصيب ويخطأ بل يلزمه تكفير جميع الأمة لأنهم كلهم لا بد من أن يصيب كل امرئ منهم ويخطئ بل يلزمه تكفير نفسه لأنه لا بد لكل من تكلم في شيء من الديانة من أن يرجع عن قول قاله إلى قول آخر يتبين له أنه أصح إلا أن يكون مقلداً فهذه أسوأ لأن التقليد خطأ كله لا يصح ومن بلغ إلى هاهنا فقد لاح غوامر قوله وبالله تعالى التوفيق وقد أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه أنه لم يفهم آية الكلالة فما كفره بذلك ولا فسقه ولا أخبره أنه آثم بذلك لكن أغلظ له في كثرة تكراره السؤال عنها فقط وكذلك أخطأ جماعة من صحابة رضي الله عنهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتيا فبلغه عليه السلام ذلك فما كفر بذلك أحد منهم ولا فسقه ولا جعله بذلك إثماً لأنه لم يعانده عليه السلام أحد منهم وهذا كفتيا أبي السنابل بعكك في آخر الأجلين والذين أفتوا على الزاني غير المحصن الرجم وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم بكتاب الأحكام في أصول الأحكام هذا وأيضاً فإن الآية المذكورة لا تخرج على قول أحد ممن خالفنا إلا بحذف وذلك أنهم يقولون أن الذين في قوله تعالى الذين ضل سعيهم في الحيلة الدنيا هو خبراً ابتداء مضمر ولا يكون ذلك إلا بحذف الابتداء كأنه قال هم الذين لا يجوز لأحد أن يقول في القرآن حذفاً إلا بنص آخر جلي يوجب ذلك أو إجماع على ذلك أو ضرورة حس فبطل قولهم وصار دعوى بلا دليل وأما نحن فإن لفظة الدين عندنا على موضوعها دون حذف وهو نعت للأخسرين ويكون خبراً لابتداء قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أولئك الذين كفروا ‏"‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏"‏ فنعم هذه صفة القول الذين وصفهم الله تعالى بهذا في أول الآية ورد الضمير إليهم وهم الكفار بنص أول الآية وقال قائلهم أيضاً فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا فأعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل فإنهم أيضاً مجتهدون قاصدون الخير فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا ولا كفرنا من كفرنا بظننا وهوانا وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحداً دونه ولا يدخل الجنة والنار أحد بل الله تعالى يدخلها من شاء فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به كل ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف اثنان من أهل الأرض لا نقول من المسلمين بل من كل ملة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام الذين تبرأ أهله من كل ملة حاشى التي أتاهم بها عليه السلام فقط فوقفنا عند ذلك ولا يختلف أيضاً اثنان في أنه عليه السلام قنع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به وتبرأ من كل دين سوى ذلك فوقفنا أيضاً عند ذلك ولا مزيد فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه سواء أجمع على خروجه منه أو لا يجمع وكذلك من أجمع من أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب اتباع الإجماع في ذلك وأما من لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له ولا إجماع في خروجه أيضاً عنه فلا يجوز إخراجه عما قد صح يقيناً حصوله فيه وقد نص الله تعالى على ما قلنا فقال‏:‏ ‏"‏ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ‏"‏ فهؤلاء كلهم كفار بالنص وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عندنا بالإجماع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى به فقد كفر وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر ومن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام أو جحد شيئاً صح عنده بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو كافر لأنه لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين خصمه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد شقق أصحاب الكلام فقالوا ما تقولون فيمن قال له النبي صلى الله عليه وسلم قم صل فقال لا أفعل أو قال له النبي صلى الله عليه وسلم ناولني ذلك السيف أدفع به عن نفسي فقال له لا أفعل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا أمر قد كفوا وقوعه ولا فضول أعظم من فضول من اشتغل بشيء قد أيقن أنه لا يكون أبداً ولكن الذي كان ووقع فإننا نتكلم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أهل الأرض وهم أهل الحديبية بأن يحلقوا وينحروا فتوقفوا حتى أمرهم ثلاثاً وغضب عليه السلام وشكا ذلك إلى أم سلمة فما كفروا بذلك ولكن كانت معصية تداركهم الله بالتوبة منها وما قال مسلم قط أنهم كفروا بذلك لأنهم لم يعاندوه ولا كذبوه وقد قال سعد بن عبادة والله يا رسول الله لئن وجدت لكاع يتفخذها رجل ادعهما حتى آتى بأربعة شهداء قال نعم قال إذاً والله يقضي إربه والله لا تجللنهما بالسيف فلم يكن بذلك كافراً إذ لم يكن عانداً ولا مكذباً بل أقر أنه يدري أن الله تعالى أمر بخلاف ذلك وسألوا أيضاً عمن قال أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض ولكن لا أدري أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس وأنا أدري أن الخنزير حرام ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وجوابنا هو أن من قال هذا فإن كان جاهلاً علم ولا شيء عليه فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا وإن كان عالماً فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى فهو كافر مرتد حلال الدم والمال ومن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر لتكذيبه القرآن وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا لأنهما لم يكونا حينئذ مكذبين لله تعالى ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفر وأم ما سب أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان جاهلاً فمعذور وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى وسرق وإن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب وحاطب مهاجر بدرى دعني أضرب عنق هذا المنافق فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً بل كان مخطئاً متأولاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آية النفاق بغض قال أبو محمد‏:‏ ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان بأيديهم ومن عاد علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر وكذلك من عادى من ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك وقد فرق بعضهم في الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد بأن قال قد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتيا فلم يكفر بعضهم بعضاً ولا فسق بعضهم بعضاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا ليس بشيء فقد حدث إنكار القدر في أيامهم فما كفرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم وقد اختلفوا في الفتيا واقتتلوا على ذلك وسفكت الدماء كاختلافهم في تقديم بيعة علي على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم وقد قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ من شاء بأهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفاً ونصفاً وثلثاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهنا أقوال غريبة جداً فاسدة منها أن أقواماً من الخوارج قالوا كل معصية فيها حد فليست كفراً وكل معصية لا حد فيها فهي كفر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تحكم بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل قال تعالى‏:‏ ‏"‏ قال أبو محمد‏:‏ فصح بما قلنا أن كل من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة ولا تبين له الحق فهو معذور مأجور آجراً واحداً لطلبه الحق وقصده إليه مغفور له خطؤه إذ لم يعتمده لقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ‏"‏ وإن كان مصيباً فله أجران أجر لإصابته وأجر آخر لطلبه إياه وإن كان قد قامت الحجة عليه وتبين له الحق فعند عن الحق غير معارض له تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم فهو فاسق لجراءته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام فإن عند عن الحق معارضاً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد حلال الدم والمال لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان على ما بينا قبل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونحن نختصرها هنا أن شاء الله تعالى ونوضح كل ما أطلنا فيه قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلم تسليماً ‏"‏ فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل فلا شيء عليه أصلاً حتى يبلغه فإن بلغه وصح عنه فإن خالفه مجتهداً فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة كما قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر ‏"‏ وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء وإن خالفه بعمله معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق وإن خالفه معانداً بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا وهو قول اسحق بن راهوية وغيره وبه نقول وبالله تعالى التوفيق‏.‏