قال أبو محمد ذكروا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات وأنه قال إذ نظر في النجوم أني سقيم وبقوله في الكوكب والشمس والقمر هذا ربي وبقوله في سارة هذه أختي وبقوله في الأصنام إذ كسرها بل فعله كبيرهم هذا وبطلبه إذ طلب رؤية إحياء الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي.
قال أبو محمد وهذا كله ليس على ما ظنوه بل هو حجة لنا والحمد لله رب العالمين أما الحديث أنه عليه السلام كذب ثلاث كذبات فليس كل كذب معصية بل منه ما يكون طاعة لله عز وجل وفرضاً واجباً يعصى من تركه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيمنى خيراً وقد أباح عليه السلام كذب الرجل لمرأته فيما يستجلب به مودتها وكذلك الكذب في الحرب وفد أجمع أهل الإسلام على أن إنساناً لو سمع مظلوماً قد ظلمه سلطان وطلبه ليقتله بغير حق ويأخذ ماله غصباً فاستتر عنده وسمعه يدعو على من ظلمه قاصداً بذلك السلطان فسأل السلطان ذلك السامع عما سمعه منه وعن موضعه فإنه إن كتم ما سمع وأنكر أن يكون سمعه أو أنه يعرف موضعه أو موضع ماله فإنه محسن مأجور مطيع لله عز وجل وأنه إن صدق فأخبره بما سمعه منه وبموضعه وموضع ماله كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل فاعل كبيرة مذموماً نماماً وقد ابيح الكذب في إظهار الكفر في التقية وكل ما روى عن إبراهيم عليه السلام في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة لا في الكذب الذي نهى عنه وأما قوله عن سارة هي أختي فصدق هي أخته من وجهين قال الله تعالى " إنما المؤمنون أخوة " و قال عليه السلام " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه " والوجه الثاني القرابة وإنها من قومه ومن مستجيبيه قال عز وجل " وإلى مدين أخاهم شعيباً " فمن عد هذا كذباً مذموماً من إبراهيم عليه السلام فليعده كذباً من ربه عز وجل وهذا كفر مجرد فصح أنه عليه السلام صادق في قوله سارة أخته وأما قوله " فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم " فليس هذا كذباً ولسنا ننكر أن تكون النجوم دلائل على الصحة والمرض وبعض ما يحدث في العالم كدلالة البرق على نعول البحر وكدلالة الرعد على تولد الكمأة وكتولد المد والجزر على طلوع القمر وغروبه واعذاره وارتفاعه وامتلائه ونقصه وإنما المنكر قول من قال أن الكواكب هي الفاعلة المدبرة لذلك دون الله تعالى أو مشتركة معه فهذا كفر من قائله وأما قوله عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى " ذق أنك أنت العزيز الكريم " وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله إذ الكذب إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه قصداً إلى تحقيق ذلك وأما قوله عليه السلام إذ رأى الشمس والقمر هذا ربي ف قال قوم إن إبراهيم عليه السلام قال ذلك محققاً أول خروجه من الغار وهذا خرافة موضوعة مكذوبة ظاهرة الافتعال ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التمييز والكلام بمثل هذا وهو لم ير قط شمساً ولا قمراً ولا كوكباً وقد أكذب الله هذا الظن الكاذب بقوله الصادق " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " فمحال أن يكون من اتاه الله رشده من قبل يدخل في عقله أن الكواكب ربه أو أن الشمس ربه من أجل أنها أكبر قرصاً من القمر هذا ما لا يظنه إلا مجنون العقل والصحيح من ذلك أنه عليه السلام إنما قال ذلك موبخاً لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام ولا فرق لأنهم كانوا على دين الصابئين يعبدون الكواكب ويصورون الأصنام على صورها وأسمائها في هياكلهم ويعيدون لها الأعياد ويذبحون لها الذبائح ويقربون لها القرب والقرابين والدخن ويقولون أنها تعقل وتدبر وتضر وتنفع ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة فوبخهم الخليل عليه السلام على ذلك وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها كما قال تعالى " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " فاراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام المسخرة الجمادية وبين لهم أنهم مخطئون وأنها مدبرة تنتقل في الأماكن ومعاذ الله أن يكون الخليل عليه السلام أشرك قط بربه أو شك في أن الفلك بكل ما فيه مخلوق وبرهان قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك بل صدقه تعالى بقوله " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء " فصح أن هذا بخلاف ما وقع لآدم وغيره بل وافق مراد الله عز وجل بما قال من ذلك وبما فعل وأما قوله عليه السلام " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " فلم يقرره ربنا عز وجل وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله عليه السلام تعالى الله عن ذلك ولكن تقرير الإيمان في قلبه وإن لم ير كيفية إحياء الموتى فأخبر عليه السلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط ويعتبر بذلك وما شك إبراهيم عليه السلام في أن الله تعالى يحيي الموتى وإنما أراد أن يرى الهيئة كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل والتمساح والكسوف وزيادة النهر والخليفة ثم يرغب من لم ير ذلك منا في أن يرى كل ذلك ولا يشك في أنه حق ليرى العجب الذي يتمثله ولم تقع عليه حاسة بصره فقط وأما ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن أحق بالشك من إبراهيم فمن ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم شك قط في قدرة ربه عز وجل على إحياء الموتى فقد كفر وهذا الحديث حجة لنا على نفي الشك عن إبراهيم أي لو كان الكلام من إبراهيم عليه السلام شكاً لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليه السلام أحق بالشك فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم غير شاك فإبراهيم عليه السلام أبعد من الشك.
قال أبو محمد ومن نسب هاهنا إلى الخليل عليه السلام الشك فقد نسب إليه الكفر ومن كفر نبياً فقد كفر وأيضاً فإن كان ذلك شكاً من إبراهيم عليه السلام وكنا نحن أحق بالشك منه فنحن إذاً شكاك جاحدون كفار وهذا كلام نعلم والحمد لله بطلانه من أنفسنا بل نحن ولله الحمد مؤمنون مصدقون بالله تعالى وقدرته على كل شيء يسأل عنه السائل وذكروا قول إبراهيم عليه السلام لأبيه واستغفاره له وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن نهى عن ذلك قال تعالى " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " فاثنى الله تعالى عليه بذلك فصح أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان مدة حياته راجياً إيمانه فلما مات كافراً تبرأ منه ولم يستغفر له بعدها تم الكلام في إبراهيم عليه السلام.
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى في لوط عليه السلام أنه قال " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد فظنوا أن هذا القول منه عليه السلام إنكار على لوط عليه السلام أيضاً " هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ".
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه أما قوله عليه السلام لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد فليس مخالفاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد بل كلا القولين منهما عليهما السلام حق متفق عليه لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش من قرابة أو عشيرة أو اتباع مؤمنين وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة وأشد ركن ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس فقد قال تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " فهذا الذي طلب لوط عليه السلام وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعة حتى يبلغ كلام ربه تعالى فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله عليه السلام تالله ما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أخبر عليه السلام أن لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد يعني من نصر الله له بالملائكة ولم يكن لوط علم بذلك ومن اعتقد أن لوطاً كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر وهذا أيضاً ظن سخيف إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات وهو دائباً يدعو إليه هذا الظن وأما قوله عليه السلام هؤلاء بناتي هن فإنما أراد التزويج والوطء في المكان المباح فصح ما قلنا إذ من المحال أن يدعوهم إلى منكر وهو ينهاهم عن المنكر انقضى الكلام في لوط عليه السلام.