الجزء الرابع - الكلام في خلق الجنة والنار

ذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أن الجنة والنار لم يخلقا بعد وذهب جمهور المسلمين إلى أنهما قد خلقتا وما نعلم لمن قال أنهما لم يخلقا بعد حجة أصلاً أكثر من أن بعضهم قال قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وذكر أشياء من أعمال البر من عملها غرس له في الجنة كذا وكذا شجرة وبقول الله تعالى حاكياً عن امرأة فرعون أنها قال ت ‏"‏ رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ‏"‏ قالوا ولو كانت مخلوقة لم يكن في الدعاء في استئناف البناء والغرس معنى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإنما قلنا أنهما مخلوقتان على الجملة كما أن الأرض مخلوقة ثم يحدث الله تعالى فيها ما يشاء من البنيان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والبرهان على أنهما مخلوقتان بعد أخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة ليلة الإسراء وأخبر عليه السلام أنه رأى سدرة المنتهى في السماء السادسة و قال تعالى ‏"‏ عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ‏"‏ فصح أن جنة المأوى هي السماء السادسة وقد أخبر الله عز وجل أنها الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة فقال تعالى ‏"‏ لهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون ‏"‏ فليس لأحد بعد هذا أن يقول أنها جنة غير جنة الخلد وأخبر عليه السالم أنه رأي الأنبياء عليهم السلام في السماوات سماء سماء ولا شك في أن أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الجنة فصح أن الجنات هي السماوات وكذلك أخبر عليه السلام أن الفردوس الأعلى من الجنة التي أمرنا الله تعالى أن نسأله إياها فوقها عرش الرحمن والعرش مخلوق بعد الجنة فالجنة مخلوقة وكذلك أخبر عليه السلام أن النار اشتكت إلى رباه فأذن لها بنفسين وأن ذلك أشد ما نجده من الحر والبرد وكان القاضي منذر بن سعيد يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول أنها ليست التي كان في آدم عليه السلام وامرأته واحتج في ذلك بأشياء منها أنه لو كانت جنة الخلد لما أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين واحتج أيضاً بأن جنة الخلد لا كذب فيها وقد كذب فيها إبليس و قال من دخل الجنة لم يخرج منها وآدم وامرأته عليهما السلام قد خرجا منها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كل هذا لا دليل له فيه أما قوله أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين فقد علمنا أن أكله من الشجرة لم يكن ظنه في صواباً ولا أكله لها صواباً وإنما كان ظناً ولا حجة فيما كان هذه صفته والله عز وجل لم يخبره بأنه مخلد في الجنة بل قد كان في علم الله تعالى أنه سيخرجه منها فأكل عليه السلام من الشجرة رجاء الخلد الذي لم يضمن له ولا تيقن به لنفسه وأما قوله أن الجنة لا كذب فيها وأن من دخلها لم يخرج منها وقد كذب فيها إبليس وقد خرج منها آدم وامرأته فهذا لا حجة له فيه وإنما تكون كذلك إذا كانت جزاء لأهلها كما أخبر عز وجل عنها حيث يقول ‏"‏ لا تسمع فيها لاغية ‏"‏ فإنما هذا على المستأنف لا على ما سلف ولا نص معه على ما ادعى ولا إجماع واحتج أيضاً بقول الله عز وجل لآدم عليه السلام ‏"‏ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ‏"‏ قال وقد عرى فيها آدم عليه السلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا يحجة فيه بل هو حجة عليه لأن الله عز وجل وصف الجنة التي أسكن فيها آدم بأنها لا يجاع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى وهذه صفة الجنة بلا شك وليس في شيء مما دون السماء مكان هذه صفته بلا شك بل كل موضع دون السماء فإنه لا بد أن يجاع فيه ويعرى ويظمأ ويضحى ولا بد من ذلك ضرورة فصح أنه إنما سكن المكان الذي هذه صفته وليس هذا غير الجنة البتة وإنما عرى آدم حين أكل من الشجرة فأهبط عقوبة له و قال أيضاً قال الله عز وجل ‏"‏ لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ‏"‏ وأخبر آدم أنه لا يضحى‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ وهذا أعظم حجة عليه لأنه لو كان في المكان الذي هو فيه شمس لأضحى فيه ولا بد فصح أن الجنة التي أسكن فيها آدم كانت لا شمس فيها فهي جنة الخلد بلا شك وأيضاً فإن قوله عز وجل ‏"‏ اسكن أنت وزوجك الجنة ‏"‏ إشارة إلى بالألف واللام ولا يكون ذلك إلى على معهود ولا تنطلق الجنة هكذا إلا على جنة الخلد ولا ينطلق هذا الاسم على غيرها إلا بالإضافة وأيضاً فلو أسكن آدم عليه السلام جنة في الأرض لم كان في إخراجه منها إلى غيرها من الأرض عقوبة بل قد بين تعالى أنها ليست في الأرض بقوله تعالى ‏"‏ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏"‏ فصح يقيناً بالنص أنه قد أهبط من الجنة إلى الأرض فصح أنها لم تكن في الأرض البتة وبالله تعالى التوفيق‏.‏