قال ابن هشام : وذلك في شهر ربيع الأول فحاصرهم ست ليال ونزل تحريم الخمر .
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج ، منهم عدو الله عبدالله بن أبي سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل ، وسويد وداعس ، قد بعثوا إلى بني النضير : أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، على أَّن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة . ففعل . فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ،فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام .
فكان أشرافهم من سار منهم إلى خيبر : سلام من أبي الحقيق ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب . فلما نزلوها دان لهم أهلها . قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث : أنهم استقلوا بالنساء والأموال ، معهم الدفوف والمزامير ، والقيان يعزفن خلفهم ، وإن فيهم لأم عمرو صاحبة عروة بن الورد العبسي ، التي ابتاعوا منه ، وكانت إحدى نساء بني غفار ، بزهاء وفخر وما رئي مثله من حي من الناس في زمانهم .
وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، يضعها حيث يشاء ، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا أن سهل ابن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمير ، أبو كعب بن عمرو بن جحاش ؛ وأبو سعد بن وهب ، أسلما على أموالهما فأحرزاها .
قال ابن إسحاق : - وقد حدثني بعض آل يامين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين : ألم تر ما لقيت من ابن عمك ، وما هم به من شأني ؟ فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل له عمرو بن جحاش ، فقلته فيما يزعمون .
ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها ، يذكر فهيا ما أصابهم الله به من نقمته ، وما سلط عليهم به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما عمل به فيهم ، فقال تعالى {" هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين "} ، وذلك لهدمهم بيوتهم عن نجف أبوابهم إذا احتملوها . " فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء " وكان لهم من الله نقمة ، " لعذبهم في الدنيا " : أي بالسيف ، " ولهم في الآخرة عذاب النار" مع ذلك . " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها " . واللينة : ما خالف العجوة من النخل " فبإذن الله " : أي فبأمر الله قطعت ، لم يكن فسادا ، ولكن كان نقمة من الله " وليخزي الفاسقين " .
قال ابن هشام : اللينة : من الألوان ، وهي ما لم تكن برنية ولا عجوة من النخل ، فيما حدثنا أبو عبيدة. قال ذو الرمة :
كأن قتودي فوقها عش طائر |
|
على لينة سوقاء تهفو جنوبهـا |
وهذا البيت في قصيدة له . " وما أفاء الله على رسوله منهم " - قال ابن إسحاق : يعني من بني النضير " فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء ، والله على كل شيء قدير " : أي له خاصة .
قال ابن هشام : أوجفتم : حركتم وأتعبتم في السير . قال تميم بن أبي بن مقبل أحد بني عامر بن صعصعة :
مذاويد بالبيض الحديث صقالـهـا |
|
عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا . |
وهذا البيت في قصيدة له ، وهو الوجيف . وقال أبو زيد الطائي ، واسمه حرملة بن المنذر :
مسنفات كأنهن قنا الهنـد |
|
لطول الوجيف جدب المرود |
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن هشام : السناف : البطان . والوجيف : وجيف القلب والكبد ، وهو الضربان . قال قيس بن الخطيم الظفري :
إنا وإن قدموا التي علموا |
|
أكبادنا من ورائهم تـجـف |
وهذا البيت في قصيدة له . " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول " - قال ابن إسحاق : ما يوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب ، وفتح بالحرب عنوة فلِلّه وللرسول - " ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ، وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا " . يقول : هذا قسم آخر فيما أصيب بالحرب بين المسلمين ، على ما وضعه الله عليه . ثم قال تعالى " ألم تر إلى الذين نافقوا " : يعني عبدالله بن أبي وأصحابه ، ومن كان على مثل أمرهم ، " يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب " : يعني بني النضير ، إلى قوله " كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ، ولهم عذاب أليم " : يعني بني قينقاع . ثم القصة إلى قوله : " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برىء منك ، إني أخاف الله رب العالمين ، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ، وذلك جزاء الظالمين " .
وكان مما قيل في بني النضير من الشعر قول ابن لقيم العبسي ، ويقال : قاله قيس بن بحر بن طريف . قال ابن هشام : قيس بن بحر الأشجعي ، فقال :
أهلي فداء لامرىء غير هالـك |
|
أحل اليهود بالحسـي الـمـزنـم |
يقيلون في جمر الغضاة وبدلـوا |
|
أهيضب عودي بالودي المـكـمـم |
فإن يك ظني صادقا بمـحـمـد |
|
تروا خيله بين الـصـلا ويرمـرم |
يؤم بها عمرو بن بهـثة إنـهـم |
|
عدو وما حي صديق كـمـجـرم |
عليهن أبطال مساعير في الوغى |
|
يهزون أطراف الوشيج المـقـوم |
وكل رقيق الشفرتين مـهـنـد |
|
توورثن من أزمان عاد وجـرهـم |
فمن مبلغ عني قريشـا رسـالة |
|
فهل بعدهم في المجد من متكـرم |
بأن أخاكم فاعلمـن مـحـمـدا |
|
تليد الندى بين الحـجـون وزمـزم |
فدينوا له بالحق تجسم أموركـم |
|
وتسموا من الدنيا إلى كل معـظـم |
نبي تلاقته مـن الـلـه رحـمة |
|
ولا تسألوه أمـر غـيب مـرجـم |
فقد كان في بدر لعمري عبـرة |
|
لكم يا قريشا والقلب الـمـلـمـم |
غداة أتى في الخزرجية عامـدا |
|
إليكم مطيعا للعظـيم الـمـكـرم |
معانا بروح القدس ينكى عـدوه |
|
رسولا من الرحمن حقا بمـعـلـم |
رسولا من الرحمن يتلو كتابـه |
|
فلما أنار الحـق لـم يتـلـعـثـم |
أرى أمره يزداد في كل موطن |
|
علوا لأمر حمه اللـه مـحـكـم |
قال ابن هشام : عمرو بن بهثة ، من غطفان . وقوله : " بالحسي المزنم " عن غير ابن إسحاق .
قال ابن إسحاق : وقال علي بن أبي طالب : يذكر إجلاء بني النضير وقتل كعب بن الأشرف . قال ابن هشام : قالها رجل من المسلمين غير علي بن أبي طالب ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر ، ولم أر أحدا منهم يعرفها لعلي :
عرفت ومن يعتدل يعرف |
|
وأيقنت حقـا ولـم أصـدف |
عن الكلم المحكم اللاء من |
|
لدى الله ذي الـرأفة الأرأف |
رسائل تدرس في المؤمنين |
|
بهن أصطفى أحمد المصطفى |
فأصبح أحمد فينا عـزيزا |
|
عزيز المقامة والـمـوقـف |
فيأيها الموعدوه سفـاهـا |
|
ولم يأت جورا ولم يعـنـف |
ألستم تخافون أدنى العذاب |
|
وما آمن اللـه كـالأخـواف |
وأن تصرعوا تحت أسيافه |
|
كمصرع كعب أبي الأشرف |
غداة رأى الله طغـيانـه |
|
وأعرض كالجمل الأجنـف |
فأنزل جبريل في قتـلـه |
|
بوحي إلى عبده مـلـطـف |
فدس الرسول رسولا لـه |
|
بأبيض ذي هبة مـرهـف |
فباتت عيون له معـولات |
|
متى ينع كعب لهـا تـذرف |
وقلن لأحمد ذرنا قـلـيلا |
|
فإنا من النوح لم نشـتـف |
فخلاهم ثم قال اظعـنـوا |
|
دحورا على رغـم الآنـف |
وأجلى النضير إلى غربة |
|
وكانوا بـدار ذوي زخـرف |
إلى أذرعات ردافى وهم |
|
على كل ذي دبر أعـجـف |
فأجابه سماك اليهودي ، فقال :
إن تفخروا فهو فخر لـكـم |
|
بمقتل كعـب أبـي الأشـرف |
غداة غدوتم على حـتـفـه |
|
ولم يأت غدرا ولـم يخـلـف |
فعلَّ الليالي وصرف الدهور |
|
يدين من العادل المـنـصـف |
بقتل النضير وأحـلافـهـا |
|
وعقر النخيل ولم تـقـطـف |
فإن لا أمت نأتكم بالـقـنـا |
|
وكل حسام مـعـا مـرهـف |
بكف كمي به يحـتـمـي |
|
متى يلق قرنـا لـه يتـلـف |
مع القوم صخر وأشياعـه |
|
إذا غاور القوم لـم يضـعـف |
كليث بترج حمـى غـيلـه |
|
أخي غابة هـاصـر أجـوف |
كعب بن مالك يقول شعرا في إجلاء بني النضير ومقتل كعب بن الأشرف قال ابن إسحاق : وقال كعب بن مالك يذكر اجلاء بني النضير وقتل كعب بن الأشرف :
لقد خزيت بغدرتها الحبـور |
|
كذلك الدهر ذو صـرف يدور |
وذلك أنهم كـفـروا بـرب |
|
عزيز أمـره أمـر كـبــير |
وقد أوتوا معا فهما وعلمـا |
|
وجاءهم مـن الـلـه الـنـذير |
نذير صادق أدى كـتـابـا |
|
وآيات مـبـينة تــنـــير |
فقالوا ما أتيت بأمر صـدق |
|
وأنت بمنـكـر مـنـا جـدير |
فقال بلى لقـد أديت حـقـا |
|
يصدقني به الفهـم الـخـبـير |
فمن يتبعه يهد لكـل رشـد |
|
ومن يكفر به يجز الـكـفـور |
فلما أشربوا غدرا وكـفـرا |
|
وحاد بهم عن الحق النـفـور |
أرى الله النبي برأي صـدق |
|
وكان اللـه يحـكـم لا يجـور |
فأيده وسلـطـه عـلـيهـم |
|
وكان نصيره نعم الـنـصـير |
فغودر منهم كعب صريعـا |
|
فذلت بعد مصرعه النـضـير |
على الكفين ثم وقد علـتـه |
|
بأيدينـا مـشـهـرة ذكــور |
بأمر محمـد إذا دس لـيلا |
|
إلى كعب أخا كـعـب يسـير |
فماكره فأنزلـه بـمـكـر |
|
ومحمود أخو ثـقة جـسـور |
فتلك بنو النضير بدار سـوء |
|
أبارهم بما اجترموا الـمـبـير |
غداة أتاهم في الزحف رهوا |
|
رسول الله وهو بهم بـصـير |
وغسان الحـمـاة مـوازره |
|
على الأعداء وهو لهـم وزير |
فقال السلم ويحكم فـصـدوا |
|
وحالف أمرهـم كـذب وزور |
فذاقوا غب أمرهـم وبـالا |
|
لكل ثلاثة مـنـهـم بـعـير |
وأجلوا عامدين لقـينـقـاع |
|
وغودر منـهـم نـخـل ودور |
فأجابه سماك اليهودي ، فقال :
أرقت وضافني هم كبير |
|
بليل غـيره لـيل قـصـير |
أرى الأحبار تنكره جميعا |
|
وكلهم لـه عـلـم خـبـير |
وكانوا الدارسين لكل علم |
|
به التوراة تنطق والزبـور |
قتلتم سيد الأحبار كعـبـا |
|
وقدما كان يأمن من يجـير |
تدلى نحو محمود أخـيه |
|
ومحمود سريرته الفـجـور |
فغادره كأن دما نجـيعـا |
|
يسيل على مدارعه عـبـير |
فقد وأبيكم وأبي جميعـا |
|
أصيبت إذ أصيب به النضير |
فإن نسلم لكم نترك رجالا |
|
بكعب حولهم طـير تـدور |
كأنهم عـتـائر يوم عـيد |
|
تذبح وهي ليس لها نـكـير |
ببيض لا تليق لهن عظما |
|
صوافي الحدي أكثرها ذكور |
كما لاقيتم من بأس صخر |
|
بأحد حيث ليس لكم نصـير |
وقال عباس بني مرداس أخو بن سليم يمتدح رجال بني النضير :
لو أن أهل الدار لم يتصدعوا |
|
رأيت خلال الدار ملهى وملعبا |
فإنك عمري هل أريك ظعائنـا |
|
سلكن على ركن الشطاة فـتـيأبـا |
عليهن عين من ظبـاء تـبـالة |
|
أوانس يصبين الحليم المـجـربـا |
إذا جاء باغي الخير قلن فجـاءة |
|
له بوجوه كالدنـانـير مـرحـبـا |
وأهلا فلا ممنوع خير طلبـتـه |
|
ولا أنت تخشى عندنا أن تـؤنـبـا |
فلا تحسبن كنت مولى ابن مشكم |
|
سلام ولا مولى حيي بن أخطـبـا |
فأجابه خوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف ، فقال :
تبكي على قتلى يهود وقد تـرى |
|
من الشجو لو تبكي أحب وأقـربـا |
فهلا على قتلى ببطـن أرينـق |
|
بكيت ولم تعول من الشجو مسهبـا |
إذا السلم دارت في صديق رددتها |
|
وفي الدين صدادا وفي الحرب ثعلبا |
عمدت إلى قدر لقومك تبتـغـي |
|
لهم شهبا كيما تـعـز وتـغـلـبـا |
فإنك لما أن كلفـت تـمـدحـا |
|
لمن كان عيبا مـدحـه وتـكـذبـا |
رحلت بأمر كنت أهلا لمثـلـه |
|
ولم تلف فيهم قائلا لك مـرحـبـا |
فهلا إلى قوم ملوك مدحـتـهـم |
|
تبنوا من العز المؤثل مـنـصـبـا |
إلى معشر صاروا ملوكا وكرموا |
|
ولم يلف فيهم طالب العرف مجدبـا |
أولئك أحرى من يهود بـمـدحة |
|
تراهم وفيهم عزة المجد تـرتـبـا |
عباس بن مرداس يرد على خوات بن جبير فأجابه عباس بن مرداس السلمي ، فقال :
هجوت صريح الكاهنين وفيكـم |
|
لهم نعم كانت من الدهر تـرتـبـا |
أولئك أحرى لو بكيت علـيهـم |
|
وقومك لو أدوا من الحق موجـبـا |
من الشكر إن الشكر خير مغـبة |
|
وأوفق فعلا للذي كـان أصـوبـا |
فكنت كمن أمسى يقطع رأسـه |
|
ليبلغ عزا كـان فـيه مـركـبـا |
فبك بني هارون واذكر فعالهـم |
|
وقتلهم للجوع إذ كنـت مـجـدبـا |
أخوات أذر الدمع بالدمع وابكهم |
|
وأعرض عن المكروه منهم ونكبـا |
فإنك لولا لقيتهـم فـي ديارهـم |
|
لألفيت عما قد تقـول مـنـكـبـا |
سراع إلى العليا كرام لدى الوغى |
|
يقال لباغي الخير أهلا ومرحـبـا |
فأجابه كعب بن مالك ، أبو عبدالله بن رواحة ، فيما قال ابن هشام فقال :
لعمري لقد حكت رحى الحرب بعدما |
|
أطارت لؤيا قبل شـرقـا ومـغـربـا |
بقية آل الـكـاهـنـين وعـزهـا |
|
فعاد ذليلا بـعـد مـا كـان أغـلـبـا |
فطاح سلام وابن سـعـية عـنـوة |
|
وقيد ذليلا للـمـنـايا ابـن أخـطـبـا |
وأجلب يبغي العز والذل يبـتـغـي |
|
خلاف يديه ما جنـى حـين أجـلـبـا |
كتارك سهل الأرض والحزن همـه |
|
وقد كان ذا في الناس أكدى وأصعـبـا |
وشأس وعزال وقد صـلـيا بـهـا |
|
وما غيبا عـن ذاك فـيمـن تـغـيبـا |
وعوف بن سلمى وابن عوف كلاهما |
|
وكعب رئيس الـقـوم حـان وخـيبـا |
فبعدا وسحقا للنضـير ومـثـلـهـا |
|
إن اعقب فتح أو إن الـلـه أعـقـبـا |
قال ابن هشام : قال أبو عمرو المدني : ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بني النضير بني المصطلق . وسأذكر حديثهم إن شاء الله في الموضع الذي ذكره ابن إسحاق فيه .
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزو بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى ، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان ، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري ، ويقال : عثمان بن عفان ، فيما قال ابن هشام : قال ابن إسحاق : حتى نزل نخلا ، وهي غزوة ذات الرقاع
قال ابن هشام : وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع ، لأنهم رقعوا فيها راياتهم ؛ ويقال : ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع ، يقال لها : ذات الرقاع.
قال ابن هشام : حدثنا عبدالوارث بن سعيد التنوري - وكان يكنى : أبا عبيدة - قال : حدثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن بن أبي الحسن ، عن جابر بن عبدالله في صلاة الخوف ، قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين ثم سلم ، وطائفة مقبلون على العدو . قال : فجاءوا فصلى بهم ركعتين أخريين ، ثم سلم . قال ابن هشام : وحدثنا عبدالوارث ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي الزبير ، عن جابر، قال : صفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صفين ، فركع بنا جميعا ، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسجد الصف الأول ، فلما رفعوا سجد الذين يلونهم بأنفسهم ، ثم تأخر الصف الأول ، وتقدم الصف الآخر حتى قاموا مقامهم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم بهم جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم وسجد الذين يلونه معه ؛ فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون بأنفسهم ، فركع النبي صلى الله عليه وسلم بهم جميعا ، وسجد كل واحد منهما بأنفسهم سجدتين . قال ابن هشام : حدثنا عبدالوارث بن سعيد التنوري ، قال : حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر ؛ قال : يقوم الإمام وتقوم معه طائفة ، وطائفة مما يلي عدوهم فيركع بهم الإمام ويسجد بهم ، ثم يتأخرون فيكونون مما يلي العدو ، ويتقدم الآخرون فيركع بهم الإمام ركعة ، ويسجد بهم ، ثم تصلي كل طائفة بأنفسهم ركعة ، فكانت لهم مع الإمام ركعة ركعة ، وصلوا بأنفسهم ركعة ركعة .
قال ابن إسحاق : وحدثني عمرو بن عبدي ، بن الحسن ، عن جابر بن عبدالله ، أن رجلا من بني محارب ، يقال له : غورث ، قال لقومه من غطفان ومحارب : ألا أقتل لكم محمدا ؟ قالوا : بلى ، وكيف تقتله ؟ قال : أفتك به . قال : فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس ، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره ، فقال : يا محمد أنظر إلى سيفك هذا ؟ قال : نعم ، - وكان محلى بفضة، فيما قال ابن هشام - قال : فأخذه فاستله ، ثم جعل يهزه ، ويهم فيكبته الله ؛ ثم قال : يا محمد ، أما تخافني ؟ قال : لا ، وما أخاف منك ! قال : أما تخافني وفي يدي السيف ؟ قال : لا ، يمنعني الله منك. ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرده عليه . قال : فأنزل الله {" يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ، إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ، فكف أيديهم عنكم ، واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون "} . قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان : أنها إنما أنزلت في عمرو بن جحاش ، أخي بني النضير وما هم به ، فالله اعلم أي ذلك كان .
قال ابن إسحاق : وحدثني وهب بن كيسان عن جابر بن عبدالله ، قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل ، على جمل لي ضعيف ؛ فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : جعلت الرفاق تمضي ، وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما لك يا جابر ؟ قال : قلت : يا رسول الله ، أبطأ بي جملي هذا ؛ قال : أنخه ؛ قال : فأنخته وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم قال : أعطني هذه العصا من يدك ، أو اقطع لي عصا من شجرة ، قال : ففعلت . قال : فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات ، ثم قال : اركب ، فركبت ، فخرج ، والذي بعثه بالحق ، يواهق ناقته مواهقة . قال : وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال : قلت : يا رسول الله ، بل أهبه لك ؛ قال : لا ، ولكن بعْنِيه ، قال : قلت : فسمنيه يا رسول الله ؛ قال : قد أخذته بدرهم ، قال : قلت : لا ، إذن تغبنني يا رسول الله ! قال : فبدرهمين ؛ قال : قلت : لا . قال : فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمنه حتى بلغ الأوقية . قال : فقلت : أفقد رضيت يا رسول الله ؟ قال : نعم . قلت : فهو لك ؛ قال : قد أخذته . قال : " ثم قال : يا جابر ، هل تزوجت بعد ؟ " قال : قلت : نعم يا رسول الله ، قال : أثيبا أم بكرا ؟ قال : قلت : لا ، بل ثيبا ؛ قال ؛ أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ! قال : قلت : يا رسول الله ، إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا ، فنكحت امرأة جامعة ، تجمع رؤوسهن ، وتقوم عليهن ؛ قال : أصبت إن شاء الله ، أما إنا لو قد جئنا صراراً أمرنا بجزور فنُحرت ، وأقمنا عليها يومنا ذاك ، وسمعت بنا ، فنفضت نمارقها . قال : قلت : والله يا رسول الله ما لنا من نمارق ؛ قال : إنها ستكون ، فإذا أنت قدِمت فاعمل عملا كيسا . قال : فلما جئنا صراراً أمر رسول الله صلى الله عله وسلم بجزور فنحرت ، وأقمنا عليها ذلك اليوم ؛ فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا ؛ قال : فحدثت المرأة الحديث ، وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قالت : فدونك ، فسمع وطاعة . قال : فلما أصبحت أخذت برأس الجمل ، فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : ثم جلست في المسجد قريبا منه ؛ قال : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى الجمل ؛ فقال : ما هذا ؟ قالوا : يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر ؛ قال : فأين جابر ؟ قال : فدعيت له ؛ قال : فقال : يا ابن أخي خذ برأس جملك ، فهو لك ، ودعا بلالاً ، فقال له : اذهب بجابر ، فأعطه أوقية . قال : فذهبت معه ، فأعطاني أوقية ، وزادني شيئا يسيراً . قال : فوالله ما زال ينمي عندي ، ويرى مكانه من بيتنا ، حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا يعني يوم الحرة .
قال ابن إسحاق : وحدثني عمي صدقة بن يسار ، عن عقيل بن جابر ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل ، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين ؛ فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا ، أتى زوجها وكان غائبا ، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دما ، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا ، فقال : من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه ؟ قال : فانتدب رجل من المهاجرين ، ورجل آخر من الأنصار ، فقالا : نحن يارسول الله ؛ قال : فكونا بفم الشّعب . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي ، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر ، فيما قال ابن هشام . قال ابن إسحاق : فلما خرج الرجلان إلى فم الشِّعب ، قال الأنصاريّ للمهاجريّ أيَّ الليل تحب أن أكفيكه : أوله أم آخره ؟ قال : بل اكفني أوله؛ قال : فاضطجع المهاجري فنام ، وقام الأنصاري يصلي ، قال : وأتى الرجل ، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة ( طليعة ) القوم . قال : فرمى بسهم ، فوضعه فيه ؛ قال : فنزعه ووضعه ، فثبت قائما ؛ قال : ثم رماه بسهم أخر فوضعه فيه . قال : فنزعه فوضعه وثبت قائما ؛ ثم عاد له بالثالث، فوضعه فيه ؛ قال : فنزعه فوضعه ثم ركع وسجد ، ثم أهب صاحبه فقال : اجلس فقد أثبتُّ ، قال : فوثب فلما رأهما الرجل عرف أن قد نذرا به ، فهرب . قال : ولما رأى المهاجريّ ما بالأنصاريّ من الدماء قال : سبحان الله ! أفلا أهببتني أول ما رماك ؟ قال : كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها ، فلما تابع على الرمى ركعت فأذنتك ، وايم الله ، لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه ، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها .
قال ابن هشام : ويقال : أنفذها . قال ابن إسحاق : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة الرقاع ، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا .
قال ابن إسحاق : ثم خرج في شعبان إلى بدر ، لميعاد أبي سفيان حتى نزله .
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة عبدالله بن أبي ابن سلول الأنصاري .
قال ابن إسحاق : فأقام عليه ثماني ليال ينتظر أبا سفيان ، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة ، من ناحية الظهران ؛ وبعض الناس يقول : قد بلغ عسفان ، ثم بدا له في الرجوع ، فقال : يا معشر قريش ، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر ، وتشربون فيه اللبن ، وإن عامكم هذا عام جدب ، وإني راجعٌ ، فارجعوا ، فرجع الناس ، فسماهم أهل مكة جيش السويق ، يقولون : إنما خرجتم تشربون السويق .
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده ، فأتاه مخشي بن عمرو الضمري ، وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان ، فقال : يا محمد ، أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال : نعم، يا أخا بني ضمرة ، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك ، قال : لا والله يا محمد ، ما لنا بذلك منك من حاجة .
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أبا سفيان ، فمر به معبد بن أبي معبد الخزاعي ، فقال ، وقد رأى مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وناقته تهوي به :
قد نفرت من رفقتي محمد |
|
وعجوة من يثرب كالعنجـد |
تهوي على دين أبيها الأتلد |
|
قد جعلت ماء قديد موعـدي |
وماء ضجنان لها ضحى الغد
وقال عبدالله بن رواحة في ذلك - قال ابن هشام : أنشدنيها أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك :
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد |
|
لميعاده صدقا وما كـان وافـيا |
فأقسم لو وافيتنا فلقـيتـنـا |
|
لأبت ذميما وافتقدت المـوالـيا |
تركنا به أوصال عبتة وابنه |
|
وعمرا أبا جهل تركنـاه ثـاويا |
عصيتم رسول الله أفٍّ لدينكم |
|
وأمركم السيء الذي كان غاويا |
فإني وإن عنفتموني لقـائل |
|
فدى لرسول الله أهلى ومالـيا |
أناه لم نعدله فينـا بـغـيره |
|
شهابا لنا في ظلمة الليل هـاديا |
وقال حسَّان بن ثابت في ذلك :
دعوا فَلَجات الشام قد حال دونـهـا |
|
جلاد كأفـواه الـمـخـاض الأوَارِك |
بأيدي رجال هاجروا نحو ربـهـم |
|
وأنصـارِه حـقـا وأيدي الـمـلائك |
إذا سلكت للغور من بطن عـالـج |
|
فقولا لها ليس الـطـريق هـنـالـك |
أقمنا على الرس النزوع ثـمـانـيا |
|
بأرعن جرار عـريض الـمـبـارك |
بكل كُمَيت جوزُه نصف خـلـقـه |
|
وقبٍّ طوال مشـرفـات الـحـوارك |
ترى العرفج العاميَّ تذري أصولـه |
|
مناسِم أخفاف الـمـطـيّ الـرواتـك |
فإن نلق في تطوافنا والتمـاسـنـا |
|
فرات بن حيان يكـن رهـن هـالـك |
وإن تلق قيس بن امرىء القيس بعده |
|
يزد في سواد لـونـه لـون حـالـك |
فأبلغ أبا سفـيان عـنـي رسـالة |
|
فإنك من غرِّ الرجال الـصـعـالـك |
فأجابه أبو سفيان بن الحارث ابن عبدالمطلب ، فقال :
أحسَّان إنا يابن آكلة الـفـغـا |
|
وجدك نغتال الخـروق كـذلـك |
خرجنا وما تنجوا اليعافير بيننـا |
|
ولو وألت منـا بـشَـدٍّ مـدَارِك |
إذا ما انبعثنا من مناخ حسبتـه |
|
مدَمَّن أهل الموسم المـتـعـارك |
أقمتَ على الرس النزوع تريدنا |
|
وتتركنا في النخل عند الـمـدارك |
على الزرع تمشى خلينا وركابنا |
|
فما وطئت ألصقنه بـالـدَّكـادك |
أقمنا ثلاثا بين سـلـع وفـارع |
|
بجرد الجياد والمطي الـرواتـك |
حسبتم جلاد القوم عند قبابـهـم |
|
كمأخذكم بالعـين أرطـال آنـك |
فلا تبعثِ الخيل الجياد وقل لها |
|
على نحو قول المعصم المتماسـك |
سعدتم بها وغيركم كان أهلها |
|
فوارس من أبناء فهر بن مالك |
فإنك لا في هجرة إن ذكرتها |
|
ولا حرمات الدين أنت بناسـك |
قال ابن هشام : بقيت منها أبيات تركناها لقبح اختلاف قوافيها ، وانشدني أبو زيد الأنصاري هذا البيت: خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا والبيت الذي بعده لحسَّان بن ثابت في قوله دعو فلجات الشأم قد حال دونها وأنشدني له فيها بيته " فأبلغ أبا سفيان "