الجزء الخامس - المعاني التي يسميها أهل الكلام اللطائف

الفصل بكسر ففتح جمع فصلى بفتح فسكون كقصعة وقصع النخلة المنقولة من محلها إلى محل آخر لتثمر بسم الله الرحمن الرحيم

والكلام في السحر وفي المعجزات التي فيها إحالة الطبائع يجوز واحدها لغير الأنبياء أم لا قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عز وجل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان وجميع إحالة الطبائع وكل معجز للأنبياء عليهم السلام ورأيت لمحمد ابن الطيب الباقلاني أن الساحر يمشي على الماء على الحقيقة وفي الهواء ويقلب الإنسان حماراً على الحقيقة وإن كل هذا موجود من الصالحين على سبيل الكرامة وأنه لا فرق بين آيات الأنبياء وبين ما يظهر من الإنسان الفاضل ومن الساحر أصلاً إلا بالتحدي فإن النبي يتحدى الناس بأن يأتوا بمثل ما جاء هو به فلا يقدر أحد على ذلك فقط وان كل ما لم يتحد به النبي صلى الله عليه وسلم الناس فليست آية له وقطع بأن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على لسان متنبئ كاذب وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عينا ولا يحيل طبيعة إلا الله عز وجل لأنبيائه فقط سواء تحدوا بذلك أو لم يتحدوا وكل ذلك آيات لهم عليهم الصلاة والسلام تحدوا بذلك أم لا والتحدي لا معنى له وأنه لا يمكن وجود شيء من ذلك لصالح ولا لساحر ولا لأحد غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدعين للنبوة لكنه تعالى لا يفعل كما لا يفعل ما لا يريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره برهان ذلك قوله عز وجل ‏"‏ وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته ‏"‏ و قال عز وجل ‏"‏ وعلم آدم الأسماء كلها ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ‏"‏ فصح أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله عز وجل الترتيب الذي لا يتبدل وصح أن الله عز وجل أوقع كل اسم على مسماه فلا يجوز أن يوقع اسم من تلك الأسماء على غير مسماه الذي أوقعه الله تعالى عليه لأنه كان يكون تبديلاً لكلمات الله تعالى التي أبطل الله عز وجل أن تبدل ومنع من أن يكون لها مبدل ولو جاز أن تحال صفات مسمى منها التي بوجودها فيه استحق وقوع ذلك الاسم عليه لوجب أن يسقط عنه ذلك الاسم الذي أوقعه الله تعالى عليه فإذ ذلك كذلك فقد وجب أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله على ما هو عليه من فصوله الذاتية وأنواعه وأجناسه فلا يتبدل شيء منه قطعا إلا حيث قام البرهان على تبدله وليس ذلك إلا على أحد وجهين إما استحالة معهودة جارية على رتبة واحدة وعلى ما بنى الله تعالى عليه العالم من استحالة المني حيوانا والنوي والبزور شجرة ونباتا وسائر الاستحالات المعهودات وإما استحالة لم تعهد قط ولا نبي الله تعالى العالم عليها ولذلك قد صح للانبياء عليهم السلام شواهد لهم على صحة نبوتهم وجود ذلك بالمشاهدة ممن شهدهم ونقله إلى من لي يشاهدهم بالتواتر الموجب للعلم الضروري فوجب الإقرار بذلك وبقي ماعدا أمر الأنبياء عليهم السلام على الامتناع فلا يجوز البتة وجود ذلك لا من ساحر ولا من صالح بوجه من الوجوه لأنه لم يقم برهان بوجود ذلك ولا صح به نقل وهو ممتنع في العقل كما قدمنا ولو كان ذلك ممكنا لاستوى الممتنع والممكن والواجب وبطلت الحقائق كلها وامكن كل ممتنع ومن لحق هاهنا لحق بالسوفسطائية على الحقيقة ونسأل من جوز ذلك للساحر والفاضل هل يجوز لكل أحد غير هذين أ لا يجوز إلا لهذين فقط فان قال إن ذلك للساحر والفاضل فقط وهذا هو قولهم سألناهم عن الفرق بين هذين وبين سائر الناس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قال وا أن ذلك جائزاً أيضاً لغير الساحر والفاضل لحقوا بالسوفسطائية حقا ولم يثبتوا حقيقة وجاز تصديق من يدعي أنه يصعد إلى السماء ويرى الملائكة وانه يكلم الطير و يجتني من شجر الخروب التمر والعناب وان رجالا حملوا وولدوا وسائر التخليط الذي من صار إليه وجب أن يعامل بما هو أهله إن أمكن أو أن يعرض عنه لجنونه وقلة حيائه قال أبو محمد‏:‏ لا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي بن أبي طالب مرتين حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال‏:‏ فردت علينا الشمس والليل راغم بشمس لهم من جانب الخدر تطلع نضا ضوءها سبغ الدجنة وانطوى أبهجتها فوق السماء المرجع فوالله ما أدرى علي بدا لنا فردت له أم كان في القوم يوشع وكذلك دعوى النصارى لرهبانهم وقدمائهم فانهم يدعون لهم من قلب الأعيان أضعاف ما يدعيه هؤلاء وكذلك دعوى اليهود لأحبارهم ورؤوس المثايب عندهم ان رجلا منهم رحل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد وانه اثبت قرنين في رأس رجل مسلم من بنى الاسكندراني كان يسكن بقرطبة عند باب اليهود وهذا كله باطل موضوع وبنو الاسكندراني كانوا أقواماً أشرافاً معروفين لم يعرف لأحد منهم شيء من هذا والحماقة لا حد لها وهذا برهان كاف لمن نصح نفسه‏.‏

قال أبو محمد وأما السحر فانه ضروب منه ما هو من قبل الكواكب كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب ومن هذا الباب كانت الطلسمات وليست إحالة طبيعة ولا قلب عين ولكنها قوي ركبها الله عز وجل مدافعة لقوى اخر كدفع الحر للبرد ودفع البرد للحر وكقبل القمر للدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة للقمر ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا بأنفسنا أثارها ظاهرة إلى الآن من قرى لا تدخلها جرادة ولا يقع فيه برد وكسر قطة التي لا يدخلها جيش إلا أن يدخل كرها وغير ذلك كثير جدا لا ينكره إلا معاند وهي أعمال قد ذهب من كان يحسنها جملة وانقطع من العالم ولم يبق إلا آثار صناعاتهم فقط ومن هذا الباب كان ما تذكره الأوائل في كتبهم في المويسيقا وانه كان يؤلف به بين الطبائع وينافر به أيضاً بينها ونوع آخر من السحر يكون بالرقي وهو كلام مجموع من حروف مقطعه في طوالع معروفة أيضاً يحدث لذلك التركيب قوة تستثار بها الطبائع وتدافع قوى أخر وقد شاهدنا وجربنا من كان يرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول ظهوره فييبس يبدأ من يومه ذلك بالذبول ويتم يبسه في اليوم الثالث ويقلع كما تقلع قشرة القرحة إذا تم يبسها جربنا من ذلك مالا نحصيه وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد دفعا على إنسان واحد ولا ترقي الثاني فييبس الذي رقت ويتم ظهور الذي لم ترق ويلقي حامله منه أذى الشديد وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير فيندمل ما يفتح منها ويذبل ما لم ينفتح ويبرأ كل ذلك البرء التام كان لا يزال يفعل ذلك في الناس والدواب ومثل هذا كثير جدا وقد اخبرنا من خبره عندنا كمشاهدتنا لثقته وتجريبنا لصدقة وفضله انه شاهد ما لا يحصى نساء يتكلمن على الذي يمخضون الزبد من اللبن بكلام فلا يخرج من ذلك اللبن زبد ولا فرق بين هذين الوجهين وبين ملاقاة فضلة الصفراء بالسقمونيا وملاقاة ضعف القلب بالكندر وكل هذه المعاني جارية على رتبة واحدة من طلب علم ذلك أدركه ومنه ما يكون بالخاصة كالحجر الجاذب للحديد وما أشبه ذلك ومنه ما يكون لطف يد كحيل أبي العجائب التي شاهدها الناس وهي أعمال لطيفة لا تحيل طبعا أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذه الوجوه التي ذكرناها ليست من باب معجزات الأنبياء عليهم السلام ولا من باب ما يدعيه أهل الكذب للسحرة والصالحين لأن معجز الأنبياء هو خارج عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم لا يجري شيء من ذلك على قانون ولا على سنن معلوم لكن قلب عين وإحالة صفات ذاتية كشق القمر وفلق البحر واختراع طعام وماء وقلب العصا حية وإحياء ميت قد أرم وإخراج ناقة من صخرة ومنع الناس من أن يتكلموا بكلام مذكورا ومن أن يأتوا بمثله وما أشبه هذا من إحالة الصفات الذاتية التي بوجودها تستحق الأسماء‏.‏

ومنها تقوم الحدود وهذا بعينه هو الذي يدعيه المبطلون للساحر والفاضل قال أبو محمد‏:‏ وإنما يلوح الفرق جداً بين هذين السبيلين لأهل العلم بحدود الأسماء والمسميات وبطبائع العالم وانقسامه من مبدئه من أجناس أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاصه وما هو من أعراضه ذاتي وما هو منها غيري وما يسرع الاستحالة والزوال من الغيري منها وما يبطئ زواله منها وما يثبت منها ثبات الذاتي وان لم يكن ذاتياً والفرق بين البرهان وبين ما نظن أنه برهان وليس برهاناً والحمد لله على ما وهب وأنعم به علينا لا إله إلا هو حدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عبد البصير قال ثنا قاسم بن اصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثني ثنا عبد الرحمن ابن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن بشير بن عمرو قال ذكر الغيلان عند عمر بن الخطاب فقالوا انهم يتحولون فقال عمر انه ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له ولكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا فهذا عمر رضي الله عنه يبطل إحالة الطبائع وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين كثيرا وقد نص الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى ‏"‏ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ‏"‏ فاخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخييلا لا حقيقة له و قال تعالى ‏"‏ إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ‏"‏ فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له فإن قيل قد قال الله عز وجل ‏"‏ سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ‏"‏ قلنا نعم إنها حيل عظيمة وإثم عظيم إذ قصدوا بها معارضة معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم وانهم كادوا عيون الناس إذ أوهموهم أن تلك الحبال والعصي تسعي فاتفقت الآيات كلها والحمد لله رب العالمين وكان الذي قدر ممن لا يدري حيلهم من أنها تسعى ظنا أصله اليقين وذلك انهم رأوا صفة حيات رقط طوال تضطرب فسارعوا إلى الظن وقدروا أنها ذات حيات ولوا معنوا الظن وفتشوها لوقفوا على الحيلة فيها وأنها ملئت زئبقا ولد فيها تلك الحركات كما يفعل العجائبي الذي يضرب بسكينة في جسم إنسان فيظن من رآه ممن لا يدري حيلته أن السكين غاصب في جسد المضروب وليس كذلك بل كان نصاب السكين مثقوبا فقط فغاصت السكين في النصاب وكإدخاله خيطا في حلقة خاتم يمسك إنسان غير متهم طرفي الخيط بيديه ثم يأخذ العجائبي الخاتم الذي فيه الخيط بفيه وفي ذلك المقام أدخله تحت يده وكان في فيه خاتم أخرى يري من حضر حلقة الخاتم الذي في فيه يوهمهم انه قد أخرجه من الخيط ثم يرد فمه إلى الخيط ويرفع يديه وفمه فينظر الخاتم الذي كان فيه الخيط وكذلك سائر حيلهم وقد وقفنا على جميعها فهذا هو معنى قوله تعالى سحروا أعين الناس واسترهبوهم أي انهم أوهموا الناس فيما رأوا ظنونا متوهمة لا حقيقة لها ولو فتشوها للاح لهم الحق وكذلك قوله تعالى ‏"‏ فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ‏"‏ فهذا أمر ممكن يفعله النمام وكذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم فولد ذلك عليه مرضا حتى كان يظن انه فعل الشيء وهو لم يفعله فليس في هذا أيضا إحالة طبيعية ولا قلب عين وإنما هو تأثير بقوة لتلك الصناعة كما قلنا في الطلسمات والرقي فلا فرق ونحن نجد الإنسان يسب أو يقابل بحركة يغضب منها فيستحيل من الحلم إلى الطيش وعن السكون إلى الحركة والنزق حتى يقارب حال المجانين وربما أمرضه ذلك وقد قال عليه السلام إن من البيان لسحرا لأن من البيان ما يؤثر في النفس فيثيرها أو يسكنها عن ثورانها ويحيلها عن عزماتها وعلى هذا المعنى استعملت الشعراء ذكر سحر العيون لاستمالتها للنفوس فقط‏:‏ قال أبو محمد‏:‏ وي قال لمن قال أن السحر يحيل الأعيان ويقلب الطبائع أخبرونا إذا جاز هذا فأي فرق بين النبي صلى الله عليه وسلم والساحر ولعل جميع الأنبياء كانوا سحرة كما قال فرعون عن موسى عليه السلام ‏"‏ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ‏"‏ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ .‏

وإذا جاز أن يقلب سحرة موسى عليه السلام عصيهم وحبالهم حيات وقلب موسى عليه السلام عصاه حية وكان كلا الآمرين حقيقة فقد صدق فرعون بلا شك في انه ساحر مثلهم إلا انه أعلم منهم به فقط وحاشا لله من هذا بل كان فعل السحرة إلا من حيل أبي العجائب فقط فان لجئوا إلى ما ذكره الباقلاني من التحدي قيل لهم هذا باطل من وجوه أحدها إن اشتراط التحدي في كون آية النبي آية دعوى كاذبة سخيفة لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من حجة عقل ولا قال بهذا أحد قط قبل هذه الفرقة الضعيفة وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والهجنة قال الله عز وجل ‏"‏ قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين ‏"‏ فوجب ضرورة أن من لا برهان له على صحة قوله فهو كاذب فيها غير صادق وثانيها‏.‏

أنه لو كان ما قال وا لسقطت اكثر آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم كنبعان الماء من بين أصابعه وإطعامه المئين والعشرات من صاع شعير وعناق ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار وكتفله في العين فجاشت بماء غزير إلى اليوم وحنين الجذع وتكليم الذراع وشكوى البعير والذئب والأخبار بالغيوب وتمر جابر وسائر معجزاته العظام لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتحد بذلك كله أحداً ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من أصحابه رضى الله عنهم ولم يبق له آية حاشا القرآن ودعاء اليهود إلى تمنى الموت وشق القمر فقط وكفى نحسا بقول أدى إلى مثل هذا فان ادعوا انه عليه السلام تحدى بها من حصر وغاب وان تمادوا على أن كل هذه ليست معجزات ولا آيات أكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله والثالث وهو البرهان الدافع هو قول الله تعالى ‏"‏ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ‏"‏ وقوله ‏"‏ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ‏"‏ فسمى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء عليهم السلام آيات ولم يشترط عز وجل في ذلك تحديا من غيره فصح أن اشتراط التحدي باطل محض وسح أنها إذا ظهرت فهي آية كان هنالك تحد أو لم يكن وقد صح إجماع الأمة المتيقن على أن الآيات لا يأتي بها ساحر ولا غير نبي فصح أن المعجزات إذا هي آيات لا تكون لساحر ولا لأحد ليس نبيا والرابع أنه لو صح حكم التحدي لكان حجة عليه لأن التحدي عندهم يوجب أن لا يقدر على مثل ذلك أحد إذ لو أمكن أن يوجد مثل ذلك من أحد لكان قد بطل تحديه وقيل له قد وجد من يعمل مثل عملك هذا إما صالح وإما ساحر والخامس أنه لو كان ما قال وا وجاز ظهور معجزة من ساحر لا يتحدى بها أو فاضل لا يتحدى بها لامكن أن يتحدى لهما بها بعد موتهما من ضل فيهما كما فعات الغلاة بعلي رضي الله عنه فعلى كل حال قولهم ساقط والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما من ادعى أنه يشبه الساحر على العيون فيريهم ما لا يرى فان هذه الطائفة لم تكتف بالكفر بإبطال النبوات إذ لعل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم كان تشبيهاً على العيون لا حقيقة له حتى رامت إبطال الحقائق كلها أولها عن آخرها ولحقت بالسوفسطائية لحاقاً صحيحاً بلا تكلف وي قال لهم إذا جاز أن يشبه على العيون حتى يرى المشبه عليها ما لا حقيقة له وما لا تراه فما يدريكم لعلكم كلكم الآن مشبه على عيونكم ولعل بعض السحرة قد شبه عليكم فأراكم أنكم تتوضئون وتصلون وأنتم لا تعقلون شيئاً من ذلك ولعلكم تظنون أنكم تزوجتم وإنما في بيوتكم ضأن ولا معز ولعلكم الآن على ظهر البحر ولعل كل ما تعتقدون من الدين تشبيه عليكم وهذا كله لا مخلص لهم منه وقد عاب الله عز وجل من ذهب إلى هذا فقال ‏"‏ ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ‏"‏ فلو جاز أن يكون للسحر حقيقة ويشبه ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام وأمكن أن يشبه على البصر ما ذمهم الله عز وجل بأن قال وا شيئاً يمكن كونه لكنهم لما قال وا ما لا يمكن البتة وتعلقوا بذلك في دفع الحقائق عابهم الله تعالى بذلك وأنكره عليهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وليس غلط الحواس في بعض الأوقات من باب التشبيه عليها في شيء لأن أحدنا قد يرى شخصاً على بعد لا يشك فيه إلا أنه سارع فقطع أنه إنسان أو أنه فلان فقطع بظنه ولو أنه لم يعمل ظنه ولا قطع به لكان باقياً على ما أدرك من الحقيقة وهكذا في كل ما حكم فيه المرء بظنه وأما ذو الآفة كمن فيه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها فهو أيضاً كما ذكرنا وإنما الماء المطل على حدقته يوهمه أنه رأى شيئاً وقطع بذلك فإذا تثبت في كل ذلك لاح له الحق من الظن وكذلك من فسد مكان التخيل من دماغه فإن نفسه تظن ما يتوهمه فتقطع به ولو قوي تميزها لفرقت بين الحق والباطل وهكذا القول في إدراك السمع والذوق وهذا كله يجري على رتب مختلفة بمن أعمل ظنه وعلى رتب غير مختلفة في جمل هذه الأوقات بل هي ثابتة عند أهل التحقيق والمعرفة معروفة العلاج حتى يعود منها إلى صلاحه ما لم يستحكم فساده ولا يظن ظان أنه ممكن أن نكون في مثل حال هؤلاء إذ لو كان هذا لم نعرف شيئاً من العلوم على رتبه وأحكامه الجارية على سنن واحد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم بأي شيء يعرفون أنه لم يشبه على عيونكم فقد عرفناكم نحن بماذا نعرف أن حواسنا سليمة وأن عقولنا سليمة ما دامت سالمة وبماذا نعرف الحواس المدخولة والعقول المدخولة وغير المدخولة وهو إجراء ما أدرك بالحواس السليمة والعقول السليمة على رتب محدودة معلومة لا تبدل عن حدودها أبداً وأجرأ ما أدرك بالحواس الفاسدة والعقول المدخولة على غير رتب محدودة فإنهم لا يقدرون على فرق أصلاً وبالله تعالى التوفيق‏:‏ قال أبو محمد‏:‏ وكذلك ما ذكر عمن ليس نبياً من قلب عين أو إحالة طبيعة فهو كذب إلا ما وجد من ذلك في عصر نبي فإنه آية كذلك لذلك النبي وذلك الذي ظهرت عليه آية بمنزلة الجذع الذي ظهر فيه الحنين والذراع الذي ظهر فيه النطق والعصا التي ظهرت فيها الحياة وسواء كان الذي ظهرت فيه الآية صالحاً أو فاسقاً وذلك كنحو النور الذي ظهر في سوط عمر بن حممه الدوسي وبرهان ذلك أنه لم يظهر فيه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن قيل إذا أجزتم أن تظهر المعجزة في غير نبي لكن في عصر نبي لتكون آية لذلك النبي فهلا أجزتموه كذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لتكون آية له أيضاً ولا فرق بين الأمرين قلنا إنما أجزنا ذلك الشيء في الجماد وسائر الحيوان وفيمن شاء الله تعالى إظهار ذلك فيه من الناس ولا نخص بذلك فاضلاً لفضله ولا نمنع ذلك في فاسق لفسقه أو كافر وإنما ننكر على من خص بذلك الفاضل فجعلها كرامة له فلو جاز ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا شكل الأمر ولم نكن في أمن من دعوى من ادعى أنها آية لذلك الفاضل ولذلك الفاسق والإنسان من الناس يدعيها آية له ولو كان ذلك لكان إشكالاً في الدين وتلبيساً من الله تعالى على جميع عباده أولهم عن آخرهم وهذا خلاف وعد الله تعالى لنا وإخباره بأنه قد بين علينا الرشد من الغي وليس كذلك ما كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يكون إلا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وبإخباره وإنذاره فبدت بذلك أنها له لا للذي قال أبو محمد‏:‏ وأما الذي روي في ذلك عن الثلاثة أصحاب الغار وانفراج الصخرة ثلثاً ثلثاً عندما ذكروا من أعمالهم فلا تعلق لهم به لأن تكسير الصخرة ممكن في كل وقت ولكل أحد بلا إعجاز وما كان هكذا فجائز وقوعه بالدعاء وبغير الدعاء لكن وقع وفاقاً لتمنيه كمن دعا في موت عدوه أو تفريج همه أو بلوغ أمنيته في دنياه ولقد حدثني حكم بن منذر بن سعيد أن أباه رحمه الله كان في جماعة في سفرة في صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ونزلوا في ظل جبل ينتظرون الموت قال فأسندت رأسي إلى حجر ناتئ فتأذيت به فقلعته فاندفع الماء العذب من تحته فشربنا وتزودنا ومثل هذا كثير مما يفرج وحتى لو كانت معجزة لوجب بلا شك أن يكونوا أنبياء أو لنبي ممن في زمن نبي لابد مما قدمناه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا عجب أعجب من قول من يجيز قلب الأعيان للساحر وهو عندهم فاسق أو كافر ويجيز مثل ذلك للصالح وللنبي فقد جاز عندهم قلب الأعيان للنبي وللصالح وللفاسق وللكافر فوجب أن قلب الأعيان جائز من كل أحد وبؤساً لقول أدى إلى مثل هذا وهم يجيزون للمغيرة بن سعيد وبيان ومنصور الكشف وقلب الأعيان على سبيل السحر وقد جاء بعدهم من يدعي لهم النبوة بها فاستوى عند هؤلاء المخذولين النبي والساحر نعوذ بالله من الضلال المبين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فان اعترضوا بقول الله تعالى ‏"‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ أجيب دعوة الداع إذا دعان ‏"‏ فهذا حق وإنما هو بلا شك أنه في الممكنات التي علم الله تعالى أنها تكون لا فيما في علم الله تعالى أنها لا تكون ولا في المحال ونسألهم عمن دعا إلى الله تعالى في أن يجعله نبياً أو في أن ينسخ دين الإسلام أو بأن يجعل القيامة قبل وقتها أو يمسخ الناس كلهم قردة أو بأن يجعل له عيناً ثالثة أو بأن يدخل الكفار الجنة أو المؤمنين النار وما أشبه هذا فإن أجازوا كل هذا كفروا ولحقوا مع كفرهم بالمجانين وإن منعوا من كل هذا تركوا استدلالهم بالآيات المذكورة وصح أن الإجابة إنما تكون في خاص من الدعاء لا في العموم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة وخالد هلا شققت عن قلبه لتعلم أ قال ها متعوذا أم لا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلو جاز ظهور المعجزة على غير نبي على سبيل الكرامة لوجب القطع على ما في قلبه وأنه ولي الله تعالى وهذا لا يعلم من أحد بعد الصحابة رضى الله عنهم الذين ورد فيهم النص وأما قول الباقلاني أن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على يد كذاب فهو داخل في جملة تعجيزه الباري تعالى وهو أيضاً تعجيز سخيف داخل في جملة المحال وذلك أنه جعل الله تعالى قادراً على إظهار الآيات على كل ساحر فإن علم أنه يقول أنه نبي لم يقدر على أن يظهرها عليه وهذا قول في غاية الفساد لأن من قدر على شيء لم يجز أن يبطل قوته عليه علمه بأن ذلك الذي يظهر فيه الفعل يقول أنا نبي ولا يتوهم هذا ولا يتشكل في العقل ولا يمكن البتة وإنما هم قوم أهملوا حكم الله تعالى عليهم وأطلقوا حكمهم عليه تعالى وما في الكفر أسمج من هذا ولا أطم ولا أبرد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ورأيت للباقلاني في فصل من كلامه أن الناس ليسوا عاجزين عن مثل هذا القرآن ولا قادرين عليه ولا هم عاجزون عن الصعود إلى السماء ولا عن إحياء الموتى ولا عن خلق الأجسام ولا اختراعها ولا قادرين على ذلك هذا نص كلامه دون تأويل منا عليه ثم قال إن القدرة لا تقع إلا حيث يقع العجز‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذا هوس لا يأتي به إلا الممرور وأطم من ذلك احتجاجه بأن العجز لا يقع إلا حيث تقع القدرة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا الكذب أم في أي عقل وجد هذا السخف وما شك ذو علم باللغة من الخاصة والعامة في بطلان قوله وفي أن العجز ضد القدرة وأن ما قدر الإنسان عليه فلم يعجز عنه في حين قدرته عليه وأن ما عجز عنه فلم يقدر عليه في حين عجزه عنه وإن نفي القدرة إثبات للعجز وأن نفي العجز إثبات للقدرة ما يجهل هذا عامي ولا خاصي أصلاً وهو أيضاً معروف بأول العقل والعجب أن يأتي بمثل هذه الدعاوي السخيفة بغير دليل أصلاً لكن حماقات وضلالات يطلقها هذا الجاهل وأمثاله من الفساق في دين الله تعالى فيتلقفها عنهم من أضله الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان وقد قال الله تعالى ‏"‏ واعلموا أنكم غير معجزي الله ‏"‏ فاقتضى هذا أنهم مقدور عليهم لله تعالى و قال تعالى ‏"‏ ليس بمعجز في الأرض ‏"‏ فوجب أنه مقدور عليه و قال تعالى ‏"‏ والله على كل شيء قدير ‏"‏ فصح أنه غير عاجز وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏