الجزء الخامس - الكلام في الطبائع

قال أبو محمد‏:‏ ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة و قال وا ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في العالم طبيعة أصلاً و قال وا إنما حدث حر النار جملة وبرد الثلج عند الملامسة قال وا ولا في الخمر طبيعة إسكار ولا في المني قوة يحدث بها حيوان ولكن الله عز وجل يخلق منه ما شاء وقد كان ممكنا أن يحدث من مني الرجال جملا ومن مني الحمار إنسانا ومن زريعة الكزبر نخلا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلاً وقد ناظرت بعضهم في ذلك فقلت له إن اللغة التي نزل بها القرآن تبطل قولكم لأن من لغة العرب القديمة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة والبحيرة والغريزة والسجية والسيمة والجبلة بالجيم ولا يشك ذو علم في أن هذه الألفاظ استعملت في الجاهلية وسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكرها قط ولا أنكرها أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا أحد ممن بعدهم حتى حدث من لا يعتد به وقد قال امرؤ القيس‏:‏ وإن كنت قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل و قال حميد بن ثور الهلالي الكندي‏:‏ لكل امرئ يا أم عمرو طبيعة وتفرق ما بين الرجال الطبائع و قال النابغة‏:‏ لهم سيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير عوازب و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارود إذ أخبره أن فيه الحلم والأناة فقال له الجارود الله جبلني عليهما يا رسول الله أم هما كسب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل الله جبلك عليهما ومثل هذا كثير وكل هذه الألفاظ أسماء مترادفة بمعنى واحد عندهم وهو قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه فاضطرب ولجأ إلى أن قال أقوال بهذا في الناس خاصة فقلت له وأني لك بالتخصيص وهذا موجود بالحس وببديهة العقل في كل مخلوق في العالم فلم يكن عنده تمويه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن سموا ما تأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة لأنهم جعلوا امتناع شق القمر وشق البحر وامتناع إحياء الموتى وإخراج ناقة من صخرة وسائر معجزاتهم إنما هي عادات فقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ معاذ الله من هذا ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجاز أصلاً لأن المادة في لغة العرب والدأب والدين والديدان والهجري ألفاظ مترادفة على معنى واحد وهي في أكثر استعمال الإنسان له مما لا يؤمن تركه إياه ولا ينكر زواله عنه بل هو ممكن وجود غيره ومثله بخلاف الطبيعة التي الخروج عنها ممتنع فالعادة في استعمال العرب العامة التلحي وحمل القناة وتحمل بعض الناس القلنسوة وكاستعمال بعضهم حلق الشعر وبعضهم توفيره‏.‏

تقول وقد دارت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني و قال آخر ومن عاداته الخلق الكريم‏.‏

و قال آخر‏:‏ قد عود الطير عادات وثقن بها فهن يصحبنه في كل مرتحل و قال آخر عودت كندة عادات فصبرا لها‏.‏

و قال آخر‏:‏ وشديد عادة منتزعه‏.‏

فذكر أن انتزاع العادة يشتد إلا أنه ممكن غير ممتنع بخلاف إزالة الطبيعة التي لا سبيل إليها وربما وضعت العرب لفظة العادة مكان لفظة الطبيعة كما قال حميد بن ثور الهلالي‏:‏ سلي الربع إن يممت يا أم سالم وهل عادة للربع أن يتكلما قال أبو محمد‏:‏ وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة خلقها الله عز وجل فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبدا ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكنا له التصرف في العلوم والصناعات إن لم يعترضه آفة وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك وكطبيعة البر أن لا ينبت شعيرا ولا جوزا وهكذا كل ما في العالم والقوم مقرون بالصفات وهي الطبيعة نفسها لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي به لا يتوهم زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت خلاً وبطل اسم الخمر عنها وكصفات الخبز واللحم التي إذا زالت عنها صارت زبلا وسقط اسم الخبز واللحم عنهما وهكذا كل شئ له صفة ذاتية فهذه هي الطبيعة ومن الصفات المحمولة في الموصوف ما لو توهم زواله عنه لم يبطل حامله ولا فارقه اسمه وهذا القسم ينقسم أقساما ثلاثة فأحدها ممتنع الزوال كالغطس والقصر والزرق وسواد الزنجي ونحو ذلك إلا أنه لو توهم زايلا لبقي الإنسان إنسانا بحاله وثانيها بطيء لزوال كالمرودة وسواد الشعر وما أشبه ذلك وثالثها سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل وكمدة الهم ونحو ذلك فهذه هي حقيقة الكلام في الصفات وما عدا ذلك فطريق السوفسطائية الذين لا يحققون حقيقة ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏