الجزء الخامس - نبوة النساء

قال أبو محمد‏:‏ هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظيم فيه إلا عندنا بقرطبة وفي زماننا فإن طائفة ذهبت إلى إبطال كون النبوة في النساء جملة وبدعت من قال ذلك وذهبت طائفة إلى القول بأنه قد كانت في النساء نبوة وذهبت طائفة إلى التوقف في ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلاً إلا أن بعضهم نازع في ذلك بقول الله قال أبو محمد‏:‏ وهذا أمر لا ينازعون فيه ولم يدع أحد أن الله تعالى أرسل امرأة وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة فوجب طلب الحق في ذلك بأن ينظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عز وجل فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الأنباء وهو الإعلام فمن أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون أو أوحي إليه منبئا له بأمر ما فهو نبي بلا شك وليس هذا من باب الإلهام الذي هو طبيعة كقول الله تعالى ‏"‏ وأوحى ربك إلى النحل ‏"‏ ولا من باب الظن والتوهم الذي لا يقطع بحقيقته إلا مجنون ولا من باب الكهانة التي هي من استراق الشياطين السمع من السماء فيرمون بالشهب الثواقب وفيه يقول الله عز وجل ‏"‏ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ‏"‏ وقد انقطعت الكهانة بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من باب النجوم التي هي تجارب تتعلم ولا من باب الرؤيا التي لا يدري أصدقت أم كذبت بل الوحي الذي هو النبوة قصد من الله تعالى إلى إعلام من يوحي إليه بما يعلمه به ويكون عند الوحي به إليه حقيقة خارجة عن الوجوه المذكورة يحدث الله عز وجل لمن أوحى به إليه علما ضروريا بصحة ما أوحي به كعلمه بما أدرك بحواسه وبديهة عقله سواء لا مجال للشك في شيء منه إما بمجئ الملك به إليه وإما بخطاب يخاطب به في نفسه وهو تعليم من الله تعالى لمن يعلمه دون وساطة معلم فإن أنكروا أن يكون هذا هو معنى النبوة فليعرفونا ما معناها فإنهم لا يأتون بشيء أصلاً فإذ ذلك كذلك فقد جاء القرآن بأن الله عز وجل أرسل ملائكة إلى نساء فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى فبشروا أم إسحاق بإسحاق عن الله تعالي قال عز وجل ‏"‏ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ‏"‏ فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن الله عز وجل بالبشارة لها بإسحاق ثم يعقوب ثم بقولهم لها أتعجبين من أمر الله ولا يمكن البتة أن يكون هذا الخطاب من ملك لغير نبي بوجه من الوجوه ووجدناه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم عيسى عليهما السلام بخطابها و قال لها ‏"‏ إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ‏"‏ فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح ورسالة من تعالى إليها وكان زكريا عليه السلام يجد عندها من الله تعالى رزقا واردا تمنى من أجله ولدا فاضلا ووجدنا أم موسى عليهما الصلاة والسلام قد أوحى الله إليها بإلقاء ولدها في اليم وأعلمها أنه سيرده إليها ويجعله نبيا مرسلا فهذه نبوة لا شك فيها وبضرورة العقل يدري كل ذي تمييز صحيح أنها لو لم تكن واثقة بنبوة الله عز وجل لها لكانت بإلقائها ولدها في اليم برؤيا تراها أو بما يقع في نفسها أو قام في هاجستها في غاية الجنون والمرار الهائج ولو فعل ذلك أحدنا لكان غاية الفسق أو في غاية الجنون مستحقا لمعاناة دماغه في البيمارستان لا يشك في هذا أحد فصح يقينا أن الوحي الذي ورد لها في إلقاء ولدها في اليم كالوحي الوارد على إبراهيم في الرؤيا في ذبح ولده لكنه ذبح ولده لرؤيا رآها أو ظن وقع في نفسه لكان بلا شك فاعل ذلك من غير الأنبياء فاسقا في نهاية الفسق أو مجنونا في غاية الجنون هذا ما لا يشك فيه أحد من الناس فصحت نبوتهن بيقين ووجدنا الله تعالى قد قال وقد ذكر من الأنبياء عليهم السلام في سورة كهعيص ذكر مريم في جملتهم ثم قال عز وجل ‏"‏ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏"‏ وهذا هو عموم لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم وليس قوله عز وجل وأمه صديقة بمانع من أن تكون نبية فقد قال تعال ‏"‏ يوسف أيها الصديق ‏"‏ وهو مع ذلك نبي رسول وهذا ظاهر وبالله تعالى التوفيق ويلحق بهن عليهن السلام في ذلك امرأة فرعون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون أو كما قال عليه الصلاة والسلام والكمال في الرجال لا يكون إلا لبعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن من دونهم ناقص عنهم بلا شك وكان تخصيصه صلى الله عليه وسلم مريم وامرأة فرعون تفضيلا لهما على سائر من أوتيت النبوة من النساء بلا شك إذ من نقص عن منزلة آخر ولو بدقيقة فلم يكمل فصح بهذا الخبر أن هاتين المرأتين كملتا كمالا لم يلحقهما فيه امرأة غيرهما أصلاً وإن كن بنصوص القرآن نبيات وقد قال تعالى ‏"‏ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ‏"‏ فالكامل في نوعه هو الذي لا يلحقه أحد من أهل نوعه فهم من الرجال الرسل الذين فضلهم الله تعالى على سائر الرسل ومنه نبينا وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام بلا شك للنصوص الواردة بذلك في فضلهما على غيرهما وكمل من النساء من ذكر عليه الصلاة والسلام‏.‏