الجزء الخامس - الكلام في الرؤيا

قال أبو محمد‏:‏ ذهب صالح تلميذ النظام إلى أن الذي يري أحدنا في الرؤيا حق كما هو وأنه من رأى أنه بالصين وهو بالأندلس فإن الله عز وجل اخترعه في ذلك الوقت بالصين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا القول في غاية الفساد لأن العيان والعقل يضطران إلى كذب هذا القول وبطلانه أما العيان فلأننا نشاهد حينئذ هذا النائم عندنا وهو يرى نفسه في ذلك الوقت بالصين وأما من طريق العقل فهو معرفتنا بما يرى الحالم من المحالات من كونه مقطوع الرأس حيا وما أشبه ذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا قص عليه رؤيا فقال لا تخبر بتلعب الشيطان بك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والقول الصحيح في الرؤيا هو أنها أنواع فمنها ما يكون من قبل الشيطان وهو ما كان من الأضغاث والتخليط الذي لا ينضبط ومنها ما يكون من حديث النفس وهو ما يشتغل به المرء في اليقظة فيراه في النوم من خوف عدو أو لقاء حبيب أو خلاص من خوف أو نحو ذلك ومنها ما يكون من غلبة الطبع كرؤية من غلب عليه الدم للأنوار ولزهر والحمرة والسرور ورؤية من غلب عليه الصفراء للنيران ورؤية صاحب البلغم للثلوج والمياه وكرؤية من غلب عليه السوداء الكهوف والظلم والمخاوف ومنها ما يريه الله عز وجل نفس الحالم إذا صفت من أكدار الجسد وتخلصت من الأفكار الفاسدة فيشرف الله تعالى به على كثير من المغيبات التي لم تأت بعد وعلى قدر تفاضل النفس في النقاء والصفاء يكون تفاضل ما يراه في الصدق وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبق بعده من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له وأنها جزء من ستة وعشرين جزأ من النبوة إلى جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة إلى جزء من سبعين جزأ من النبوة وهذا نص جلي على ما ذكرنا من تفاضلها في الصدق والوضوح والصفاء من كل تخليط وقد تخرج هذه النسب والأقسام على أنه عليه السلام إنما أراد بذلك رؤيا الأنبياء عليهم السلام فمنهم من رؤياه جزء من ستة وعشرين جزأ من أجزاء نبوته وخصائصه وفضائله ومنهم من رؤياه جزء من ستة وأربعين جزأ من نبوته وخصايصه وفضايله ومنهم من رؤياه جزء من سبعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وهذا هو الأظهر والله أعلم ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل بتكلف وأما رؤيا غير الأنبياء فقد تكذب وقد تصدق إلا أنه لا يقطع على صحة شيء منه إلا بعد ظهور صحته حاشا رؤيا الأنبياء فإنها كلها وحي مقطوع على صحته كرؤيا إبراهيم عليه السلام ولو رأى ذلك غير نبى في الرؤيا فأنفذه في اليقظة لكان فاسقا عابثا أو مجنونا ذاهب التمييز بلا شك وقد تصدق رؤيا الكافر ولا تكون حينئذ جزأ من النبوة ولا مبشرات ولكن إنذارا له أو لغيره ووعظا وبالله تعالي التوفيق‏.‏