الجزء الخامس - الكلام في خلق الله تعالى للشيء

أهو المخلوق نفسه أم غيره وهل فعل الله من دون الله تعالى هو المفعول أم قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن خلق الشيء هو غير الشيء المخلوق واحتج هؤلاء بقول الله عز وجل ‏"‏ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ‏"‏ قال أبو محمد‏:‏ ولا حجة لهم في هذه الآية لأن الإشهاد هاهنا هو الإحضار بالمعرفة وهذا حق لأن الله تعالى لم يحضرنا عارفين ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء أنفسنا ووجدنا من قال أن خلق الشيء هو الشيء نفسه يحتج بقول الله تعالى هذا خلق الله وهذه إشارة إلى جميع المخلوقات فقد سمي الله تعالى جميع المخلوقات كلها خلقاً له وهذا برهان لا يعارض‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نسأل من قال أن خلق الشيء هو غير الشيء فنقول له أخبرنا عن خلق الله تعالى لما خلق أمخلوق هو أيضاً أم غير مخلوق فلا بد من أحد الأمرين فإن قال وا هو غير مخلوق أوجبوا بإزاء كل مخلوق شيئاً موجوداً غير مخلوق وهذا مضاهاة لقول الدهرية والبرهان قد قام بخلاف هذا و قال تعالى ‏"‏ خلق كل شيء فقدره تقديراً ‏"‏ وإن قال وا بل خلقه تعالى لما خلق قلنا فخلقه تعالى لذلك الخلق أبخلق أم بغير خلق فإن قال وا بغير خلق قيل لهم من أين قلتم أن خلقه للأشياء بمخلق هو غير المخلوق وقلتم في خلقه لذلك الخلق أنه بغير خلق وهذا تخليط وإن قال وا بل خلقه بخلق سألناهم الخلق هو أم بخلق هو غيره وهكذا أبداً فإن وقفوا في شيء من ذلك فقالوا خلقه هو هو سألناهم عن الفرق بين ما قال وا أن خلقه هو غيره وبين ما قال وا أن خلقه هو هو وإن تماد وأخرجوا إلى وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وقد قطع بهذا معمر بن عمرو العطار أحد رؤساء المعتزلة وسنذكر كلامه بعد هذا إن شاء الله تعالى متصلاً بهذا الباب وبالله تعالى نتأيد وأيضاً فإن الجميع مطبقون على أن الله عز وجل خلق ما خلق بلا معاياة فإذ لا شك في ذلك فقد صح يقيناً أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين ما خلق ولا ثالث في الوجود غير الخالق والمخلوق وخلق الله تعالى ما خلق حق موجود وهو بلا شك مخلوق وهو بلا شك ليس هو الخالق فهو المخلوق نفسه بيقين لا شك فيه إذ لا ثالث هاهنا أصلاً وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل من دون الله تعالى فعله هو مفعوله نفسه لا غير لأنه لا يفعل أحد دون الله تعالى إلا حركة أو سكوناً أو تأثيراً أو معرفة أو فكرة أو إرادة ولا مفعول لشيء دون الله تعالى إلا ما ذكرنا فهي مفعولات الفاعلين وهي أفعال الفاعلين ولا فرق وما عدا هذا فإنما هو مفعول فيه كالمضروب والمقتول أو مفعول به كالسوط والإبرة وما أشبه ذلك أو مفعول له كالمطاع والمخدوم أو مفعول من أجله كالمكسوب والمحلوب فهذه أوجه المفعولات‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما سائر أفعال الله تعالى فبخلاف ما قلنا في الخلق بل هي غير المفعول فيه أوله أو به أو من أجله وذلك كالأحياء فهو غير المحيا بلا شك وكلاهما مخلوق لله تعالى وخلقه تعالى لكل ذلك هو المخلوق نفسه كما قلنا وكالا ماتة فهي غير الممات ولو كان غير هذا وكان الأحياء هو المحيا والإماتة هي الممات وبيقين ندري أن المحيا هو الممات نفسه لوجب أن يكون الأحياء هو الإماتة وهذا محال وكالإبقاء فهو غير المبقي للبرهان الذي ذكرنا وبيقين ندري أن الشيء غير أعراضه التي هي قائمة به وقتاً وفانية عنه تارة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

الكلام في البقاء والفناء

والمعاني التي يدعيها معمر والأحوال التي تدعيها الأشعرية وهل المعدوم شيء أم ليس شيئاً ومسئلة الأجزاء وهل يتجدد خلق الله للأشياء أم لا يتجدد قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن البقاء والفناء صفتان للباقي والفاني لا هما الباقي ولا الفاني ولا هما غير الباقي والفاني‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا قول في غاية الفساد لأن القضية الثانية بنقيض الأولى والأولى بنقيض الثانية لأنه إذا قال ليست هي فقد أوجب أنها غيره وإذا قال ليست غيره فقد أوجب أنه هو وهذا تناقض ظاهر وأيضاً فإنه لا فرق بين قول القائلين ليس هو هو ولا غيره وبين قوله هو هو وهو غيره والمعنى في تلك القضيتين سواء وأيضاً فلو كان البقاء ليس هو الباقي ولا هو غيره والفناء ليس هو الفاني ولا هو غيره فالباقي هو الفاني نفسه والباقي ليس هو الباقي ولا غيره وهذا مزيد من الجنون ومن التناقض وذهب معمر إلى أن الفناء صفة قائمة بغير الفاني‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ وهذا تخبيط لا يعقل ولا يتوهم ولا يقوم عليه دليل أصلاً وما كان هكذا فهو باطل والحقيقة في ذلك ظاهرة وهي أن البقاء هو وجود الشيء وكونه ثابتاً قائماً مدة زمان ما فإذ هو قائم كذلك فهو صفة موجودة في الباقي محمولة فيه قائمة به موجودة بوجوده فانية بفنائه وأما الفناء فهو عدم الشيء وبطلانه جملة وليس هو شيئاً أصلاً والفناء المذكور ليس موجوداً البتة في شيء من الجواهر وإنما هو عدم العرض فقط كحمرة الخجل إذا ذهبت عبر عن المعنى المراد بالإخبار عن ذهابها بلفظة الفناء كالغضب يفنى ويعقبه رضاً وما أشبه ذلك لو شاء الله عز وجل أن يعدم الجواهر لقدر على ذلك ولكنه لم يوجد ذلك إلى الآن ولا جاء به نص فيقف عنده فالفناء عدم كما قلنا‏.‏

الكلام في المعدوم أهو شيء أم لا

قال أبو محمد‏:‏ وقد اختلف الناس في المعدوم أهو شيء أم لا فقال أهل السنة وطوائف من المرجئة كالأشعرية وغيرهم ليس شيئاً وبه يقول هشام بن عمرو الغوطي أحد شيوخ المعتزلة و قال سائر المعتزلة المعدوم شيء و قال عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط أحد شيوخ المعتزلة أن المعدوم جسم في حال عدمه إلا انه ليس متحركاً ولا ساكناً ولا مخلوقاً ولا محدثاً في حال عدمه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج من قال بأن المعدوم شيء بان قال وا قال عز وجل إن زلزلة الساعة شيء عظيم فقالوا فقد أخبر الله عز وجل بأنها شيء وهي معدومة ومن الدليل على أن المعدوم شيء أنه يخبر عنه ويوصف ويتمنى ومن المحال أن يكون ما هذه صفته ليس شيئاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما قول الله عز وجل ‏"‏ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏ فإن هذه القصة موصولة بقوله تعالى ‏"‏ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ‏"‏ فإنما تم الكلام عند قوله يوم ترونها فصح أن زلزلة الساعة يوم ترونها شيء عظيم وهذا هو قولنا ولم يقل تعالى قط أنها الآن شيء عظيم ثم أخبر تعالى بما يكون يومئذ من هول المرضعات ووضع الأحمال وكون الناس سكارى من غير خمر فبطل تعلقهم بالآية وما نعلم أنهم شغبوا بشيء غيرها وأما قولهم أن المعدوم يخبر عنه ويوصف ويتمنى ويسمى فجهل شديد وظن فاسد وذلك أن قولنا في شيء يذكر أنه معدوم ويخبر عنه أنه معدوم ويتمنى به إنما هو أن يذكر اسم ما فذلك الاسم موجود بلا شك يعرف ذلك بالحس كقولنا العنقاء وابن آوى وحبين وعرس ونبوة مسيلمة وما أشبه ذلك ثم كل اسم يتعلق به ويوجد ملفوظاً أو مكتوباً فإنه ضرورة لا بد له من أحد وجهين أما أن يكون له مسمى وإما أن يكون ليس له مسمى فإن كان له مسمى فهو موجود وهو شيء حينئذ وإن كان ليس له مسمى فأخبارنا بالعدم وتمنينا للمريض بالصحة إنما هو إخبار عن ذلك الاسم الموجود أنه ليس له مسمى ولا تحته شيء وتمن منا لأن يكون تحته مسمى فهكذا هو المر لا كما ظنه أهل الجهل فصح أن المعدوم لا يخبر عنه ولا يتمنى ونسألهم عمن قال ليت لي ثوباً أحمر وغلاماً أسود أخبرونا هل الثوب المتنى به عندكم أحمر أم لا فإن أثبتوا معنى وهو ثوباً أحمر أثبتوا عرضاً محمولاً فيه وهو الحمرة فوجب أن المعدوم يحمل الأعراض وإن قال وا لم يتمن شيئاً أصلاً صدقوا وصح أن المعدوم لا يتمنى لأنه ليس شيئاً ولا فرق بين قول القائل تمنيت لا شيء وبين قوله لم أتمن شيأ بل هما متلايمان بمعنى واحد وهذا أيضاً يخرج على وجه آخر وهو أنه لا يتمنى إلا شيأ موجود في العالم كثوب موجود او غلام موجود واما من اخرج لفظة التمني لما ليس في العالم فلم يتمن شيأ وأما قولهم يوصف فطريق عجب جداً لأن معنى قول القائل يوصف إخبار بأن له صفة محمولة فيه موجودة به فليت شعري كيف يحمل المعدوم الصفات من الحمرة والخضرة والقوة والطول والعرض إن هذا لعجيب جداً فظهر فساد ما موهوا به والحمد قال أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وإذ قد عرا قولهم عن الدليل فقد صح أنه دعوى كاذبة ثم نقول وبالله التوفيق من البرهان على أن المعدوم اسم لا يقع على شيء أصلاً قول الله عز وجل وقد خلقتك من قبل ولم تك شيأ وقوله تعالى هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيأ مذكوراً وقوله وخلق كل شيء فقدره تقديرا و قال عز وجل إنا كل شيء خلقناه بقدر فيلزمهم ولا بد إن كان المعدوم شيأ أن يكون مخلوقاً بعد وهم لا يختلفون في أن المخلوق موجود وقد وجد وقتاً من الدهر فالمعدوم على هذا موجود وقد كان موجوداً وهذا خلاف قولهم وهذا غاية البيان في أن المعدوم ليس شيئاً‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ ونسألهم ما معنى قولنا شيء فلا يجدون بداً من أن يقولوا أنه الموجود وأن يقولوا هو كل ما يخبر عنه فإن قال وا هو الموجود صاروا إلى الحق وإن قال وا هو كل ما يخبر عنه قلنا لهم إن المشركين يخبرون عن شريك الله عز وجل قال تعالى ‏"‏ أين شركائي ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا معدوم لا مدخل له في الحقيقة واسم لا مسمى تحته فإن قال وا إن شركاء الله تعالى أشياء كانوا قد أفحشوا وأيضاً فإنه قد اتفقت جميع الأمم لا نحاشي أن المعدوم ليش شيئاً أو لا شيء أو ما يعبر به في كل لغة عن شيء ومن لا شيء إلا أن المعنى واحد فلو كان المعدوم شيئاً لكان ما أجمعوا عليه بلا شيء وليس شيئاً ولم يكن شيئاً باطلاً وهذا رد على جميع أهل الأرض مذ كانوا إلى أن يفنى العالم فصح أن الموجود هو الشيء فإذ هو الشيء فبضرورة العقل أن اللاشيء هو المعدوم ثم نسألهم أتقولون أن المعدوم عظيم أو صغير أو حسن أو قبيح أو طويل أو قصير أو ذو لون في حال عدمه فإن أبوا من هذا تناقض قولهم وسئلوا عن الفرق بين قولهم أنه شيء وبين قولهم أنه حسن او قبيح أو صغير أو كبير وكيفقالوا أنه شيء ثم قال وا أنه ليس حسناً ولا قبيحاً ولا صغيراً وكبيراً فإن قال وا نعم أوجبوا أن المعدوم يحمل الأعراض والصفات وهذا تخليط ناهيك به وسئلوا فيماذا يحمل الصفات أفي ذاته أو فيما ذا فإن قال وا في ذاته أوجبوا أنه له ذاتاً وهذه صفة الموجود ضرورة وإن قال وا بل يحمل الصفات في غيره كان ذلك أيضاً عجباً زائداً لا خفاء به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم هل الإيمان موجود من أبي جهل أو معدوم فإن قولهم بلا شك أنه معدوم منه‏.‏

فنسألهم عن إيمان أبي جهل المعدوم حسن هو أم قبيح‏.‏

فإن قال وا لا حسن ولا قبيح قلنا لهم أيكون يعقل إيمان ليس حسناً هذا عظيم جداً‏.‏

وإن قال وا بل هو حسن أوجبوا أنه حاصل للحسن وكذلك نسألهم عن الكفر المعدوم من الأنبياء عليهم السلام أقبيح هو أم لا‏.‏

فإن قال وا لا أوجبوا كفراً ليس قبيحا‏.‏

وإن قال وا بل هو قبيح أوجبوا أن المعدوم يحمل الصفات ونسألهم عن ولد العقيم المعدوم منه أصغير هو أم كبير أم عاقل أم أحمق‏.‏

فإن منعوا من وجود شيء من هذه الصفات له كان عجباً أن يكون ولد لا صغير ولا كبير ولا حي ولا ميت وإن وصفوه بشيء من هذه الصفات أتوا بالزيادة من المحال ونسألهم عن الأشياء المعدومة ألها عدد أم لا عدد لها‏.‏

فإن قال وا لا عدد لها كانوا قد أتوا بالمحال إذ أقروا بأشياء لا عدد لها‏.‏

وإن قال وا بل لها عدد كان ذلك عجباً جداً أو محالاً لا خفاء به وسألناهم عن الأولاد المعدومين من العاقر والعقيم كم عددهم‏.‏

ونسألهم عن الأشياء المعدومة أهي في العالم ومن العالم أم ليست في العالم ولا من العالم فإن قال وا هي في العالم ومن العالم سألناهم عن مكانها فإن حددوا لها مكاناً سخفوا ما شاؤا وإن قال وا لا مكان لها قيل لهم وكيف يكون شيء في العالم لا مكان له فيه ولا حامل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويلزمهم أن المعدومات إذا كانت أشياء لا عدد لها ولا نهاية ولا مبدأ فإنها لم تزل وهذه دهرية محققة وكفر مجرد أن تكون أشياء لا تحصى كثرة لم تزل مع الله تعالى ونعوذ بالله من مثل هذا الهوس‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد ادعوا أن المعدوم يعلم وهذا جهل منهم بحدود الكلام لا سيما ممن أقر بأن المعدوم لا شيء وادعى مع ذلك أنه يعلم فألزمناهم على ذلك أنهم يعلمون لا شيء وأن الله تعالى يعلم لا شيء فجسر بعضهم على ذلك فقلنا لهم إن قولك علمت لا شيء وعلم الله تعالى لا شيء ملائم لقولك لم أعلم شيئاً ولقولك لم يعلم الله تعالى شيئاً لا فرق بين معنى القضيتين البتة بل هما واحد وإن اختلفت العبارتان وإذ هو كذلك فقد صح أن المعدوم لا يعلم فإن ألزمنا على هذا وسألنا هل يعلم الله تعالى الأشياء قبل كونها أم لا قلنا لم يزل الله تعالى يعلم أن ما يخلقه أبداً إلى ما لا نهاية له فإنه سيخلقه ويرتبه على الصفات التي يخلقها فيها إذا خلقه وأنه سيكون شيئاً إذا كونه ولم يزل عز وجل يعلم أن ما لم يخلق بعد فليس هو شيئاً حتى يخلقه ولم يزل تعالى يعلم أنه لا شيء معه وأنه ستكون الأشياء أشياء إذا خلقها لأنه تعالى إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علمها على خلاف ما هي عليه فلم يعلمها بل جهلها وليس هذا علماً بل هو ظن كاذب وجهل وبرهان هذا قول الله عز وجل ‏"‏ ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ‏"‏ ولو في لغة العرب التي خاطبنا الله تعالى بها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح أنه تعالى لم يسمعهم لأنه لم يعلم فيهم خيراً أو لا خير فيهم فصح أن المعدوم لا يعلم أصلاً ولو علم لكان موجوداً وإنما يعلم الله تعالى أن لفظة المعدوم لا مسمى لها ولا شيء تحتها ويعلم عز وجل الآن أن الساعة غير قائمة وهو الآن تعالى لا يعلمها قائمة بل يعلم أنه سيقيمها فتقوم فتكون قيامة وساعة ويوم جزاء ويوم بعث وشيئاً عظيماً حين يخلق كل ذلك لا قبل أن يخلقه فأما علمه تعالى بأنه سيقيمها فتقوم فهو موجود حق فهذا معنى إطلاق العلم على ما لم يكن بعد من المعدومات كما أننا لا نعلم الآن الشمس طالعة طلوعها في غد بل نعلم أنها ستطلع غداً وكذلك لا نعلم موت الأحياء الآن بل نعلم أن الله تعالى سيخلق موتهم فنعلمه موتاً لهم إذا خلقه لا قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق و قال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين فهذا نص جلى على أن المعدوم لا يعلم لأن الله تعالى أخبر أنه لا يدخل الجنة من لا يعمله الله تعالى مجاهداً ولا صابراً فصح أن من لم يجاهد ولا صبر فلم يعلمه الله تعالى قط مجاهداً ولا صابراً ولا علم له جهاداً ولا صبراً وإنما علمه غير مجاهد وغير صابر ولم يزل تعالى يعلم أن من كان منهم سيجاهد وسيصبر فإنه لم يزل يعلم أن سيجاهد وسيصبر فإذا جاهد وصبر علمه حينئذ صابراً مجاهداً والعلم لا يستحيل لأنه ليس شيئاً غير الباري تعالى وإنما استحال المعلوم فقط‏.‏

ثم نسألهم هل يعلم الله تعالى لحية الأطلس وقنا الأفطس أم لا يعلم ذلك وهل يعلم الله تعالى أولاد العقيم وإيمان الكافر وكفر المؤمن وكذب الصادق وصدق الكاذب أم لا يعلم شيئاً من ذلك‏.‏

فإن قال وا إن الله تعالى يعلم كل ذلك كانوا قد وصفوا الله تعالى باجهل وأنه يعلم الأشياء بخلاف ما هي عليه‏.‏

وإن قال وا أنه تعالى لا يعلم للعقيم أولاداً وإنما يعلمه لا ولد له ولا يعلم لحية الكلام في المعاني على معمر قال أبو محمد‏:‏ وأما معمر ومن اتبعه فقالوا أنا وجدنا المتحرك والساكن فأيقنا أن معنى الحدث في المتحرك به فارق الساكن في صفته وإن معنى حدث في الساكن به أيضاً فارق المتحرك في صفته وكذلك علمنا أن في الحركة معنى به فارقت السكون وإن في السكون معنى به فارق الحركة وكذلك علمنا أن في ذلك المعنى الذي به خالفت الحركة السكون معنى به فارق المعنى الذي به فارقه السكون وهكذا أبداً أوجبوا أن في كل شيء في هذا العالم من جوهر أو عرض أي شيء كان معاني فارق كل معنى منها كل ما عداه في العالم وكذلك أيضاً في تلك المعاني لأنها أشياء موجودة متغايرة وأوجبوا بهذا وجود أشياء في زمان محدود في العالم لا نهاية لعددها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه جملة كل ما شغبوا به إلا أنهم فصلوها ومدوها في الكفر والكافر والإيمان والمؤمن وفي غير ذلك مما هو المعنى الذي أوردناه بعينه ولا زيادة فيه أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا ليس شيئاً لأننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق العالم كله قسمان جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد ولا ثالث في العالم غير هذين القسمين هذا أمر يعرف بضرورة العقل وضرورة الحس فالجواهر مغايرة بعضها لبعض بذواتها التي هي أشخاصها يعني بالغيرية فيها وتختلف أيضاً بجنسها وهي أيضاً مفترق بعضها من بعض بالعرض المحمول في كل حامل من الجواهر وأما الأعراض فمغايرة للجواهر بذواتها بالغيرية فيها وكذلك هذه أيضاً بعضها مغاير لبعض بذواتها وبعضها مفارق لبعض بذواتها وإن كان بعض الأعراض أيضاً قد تحمل الأعراض كقولنا حمرة مشرقة وحمرة كذرة وعمل سيئ وعمل صالح وقوة شديدة وقوة دونها في الشدة ومثل هذا كثير إلا أن كل هذا يقف في عدد متناه لا يزيد وهذا أمر يعلم بالحس والعقل فالمتحرك يفارق الساكن هذا بحركته وهذا بسكونه والحركة تفارق السكون بذاتها ويفارقها السكون بذاته وبالنوعية والغيرية والحركة إلى الشرق تفارق الحركة إلى الغرب بكون هذه إلى الشرق وبكون هذه إلى الغرب بذاته وبالغيرية فقط وهكذا في كل شيء فكل شيئين وقعا تحت نوع واحد مما يلي الأشخاص فإنهما يختلفان بغيريتهما فإن كانا وقعا تحت نوعين فإنهما يختلفان بالغيرية في الشخص وبالغيرة في النوع أيضاً والغيرية أيضاً لها نوع جامع لجميع أشخاصها إلا أن كل ذلك واقف عند حد من العدد لا يزيد ولا بد ثم نسألهم خبرونا عن المعاني التي تدعونها في حركة واحدة أيما أكثر أهي أم المعاني التي تدعونها في حركتين فإن أثبتوا قلة وكثرة تركوا مذهبهم وأوجبوا النهاية في المعاني التي نفوا النهاية عنها وإن قال وا إلا قلة ولا كثرة هاهنا كابروا وأتوا بالمحال الناقض أيضاً لأقوالهم لأنهم إذا أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين معنيين وهكذا أبداً فوجبت الكثرة والقلة ضرورة لا محيد عنها‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ فلم يكن لهم جواب أصلاً إلا أن بعضهم قال أخبرونا أليس الله تعالى قادراً على أن يخلق في جسم واحد حركات لا نهاية لها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجواب أهل الإسلام في هذا السؤال نعم وأما من عجز ربه فأجابوا بلا فسقط هذا السؤال عنهم وكان سقوط الإسلام عنهم بهذا الجواب أشد من سقوط سؤال أصحاب معمر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فتمادى سؤالهم لأهل الحق فقالوا فأخبرونا أيما أكثر ما يقدر الله تعالى عليه من خلق الحركات في جسمين أو ما يقدر عليه من خلق الحركات في جسم واحد فكان جواب أهل الحق في ذلك أنه لا يقع عدد على معدوم ولا يقع العدد إلا على موجود معدود والذي يقدر الله تعالى عليه ولم يفعله فليس هو بعد شيئاً ولا له عدد ولا هو معدود ولا نهاية لقدرة الله تعالى وأما ما يقدر عليه تعالى ولم يفعله فلا ي قال فيه أن له نهاية ولا أنه لا نهاية له وأما كل ما خلق الله تعالى فله نهاية بعد وكذا كل ما يخلق فإذا خلقه حدثت له نهاية حينئذ لا قبل ذلك وأما المعاني التي تدعونها فإنكم تدعون أنها موجودة قائمة فوجب أن يكون لها نهاية فإن نفيتم النهاية عنها لحقتم بأهل الدهر وكلمناكم بما كلمناهم به مما قدر ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق ثم لو تثبت لكم هذه العبارة من قول القائل أن ما يقدر الله تعالى عليه لا نهاية لعدده وهذا لا يصح بل الحق في هذا أن نقول أن الله تعالى قادر على أن يخلق ما لا نهاية له في وقت ذي نهاية ومكان ذي نهاية ولو شاء أن يخلق ذلك في وقت غير ذي نهاية وكان غير ذي نهاية لكان قادراً على كل ذلك لما وجب من ذلك إثبات ما ادعيتم من وجود معان في وقت واحد لا نهاية لها إذ ليس هاهنا عقل يوجب ذلك ولا خبر يوجب ذلك وإنما هو قياس منكم إذ قلتم لما كان قادراً على أن يخلق ما لا نهاية له قلنا أنه قد خلق ما لا نهاية له فهذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان القياس حقاً لكان هذا منه باطلاً لأنه بزعمكم قياس موجود على معدوم وقياس وتشبيه لما قد خلقه بزعمكم على ما لم يخلقه وهذا في غاية الفساد ولا فرق بينكم في هذا القياس الفاسد وبين من يقول أن في بلد كذا قوماً يشمون من عيونهم ويسمعون من أنوفهم ويذوقون من آذانهم ويبصورون من ألسنتهم فإذا كذب في ذلك وسئل برهاناً على دعواه قال أتقرون أن الله قادر على خلق ذلك فقلنا له نعم قال فهذا دليل على صحة دعواي بل أنتم أسوأ حالاً لأن هذا أخبر عن متوهم لو كان كيف كان يكون فأنتم أتخبرون عن غير متوهم في النفس ولا متشكل في العقل وهو إقراركم بوجود معان لا نهاية لعددها في وقت واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبطل هذا القول الفاسد والحمد لله رب العالمين وكان يكفي من بطلانها أنها دعوى لا برهان على صحتها وهي دعوى فاسدة غير ممكنة بل هي محال لا يتوهم ولا يتشكل وبالله تعالى التوفيق‏.‏

الكلام في الأحوال مع الأشعرية

ومن وافقهم قال أبو محمد وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا أن هاهنا أحوالاً ليست حقاً ولا باطلاً ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي موجودة ولا معدومة ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء و قالوا من هذا علم العالم بأن له علماً ووجوده لوجوده و قالوا فإن قلتم أن لكم علماً بأن لكم علماً بالباري تعالى وبما تعلمونه وأن لكم وجوداً لوجودكم ما تجدونه سألناكم ألكم علم بعلمكم بأن لكم علماً وهل لكم وجود لوجودكم وجودكم ما تجدونه فإن أقررتم بذلك لزمكم أن تسلسلوا هذا أبداً إلى ما لا نهاية له ودخلتم في قول أصحاب معمر والدهرية‏.‏

وإن منعتم من ذلك سئلتم عن صحة الدليل على صحة منعكم ما منعتم من ذلك وصحة إيجابكم ما أوجبتم من ذلك وكذلك قالوا في قدم القديم وحدث المحدث وبقاء الباقي وفناء الفاني وظهور الظاهر وخفاء الخافي وقصد القاصد ونية الناوي وزمان الزمان وما أشبه ذلك‏.‏

و قالوا لو كان للباقي بقاء ولبقاء الباقي بقاء وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له قالوا فهذا يوجب وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال وهكذا قالوا في قدم القديم وقد قدمه وقدم قدم قدمه إلى ما لا نهاية له وفي حدوث المحدث وحدث حدثه وحدث حدث حدثه إلى ما لا نهاية له وهكذا قالوا في زمان الزمان وزمان زمان الزمان إلى ما لا نهاية وفي فناء الفاني وفناء فنائه وفناء فناء فنائه إلى ما لا نهاية له وكذلك ظهور الظاهر وظهور ظهوره وظهور ظهور ظهوره إلى ما لا نهاية له وكذلك القصد والقصد إلى القصد والقصد إلى القصد إلى القصد وهكذا إلا ما لا نهاية له وكذلك النية والنية للنية والنية للنية للنية إلى ما لا نهاية له وكذلك تحقيق الحق وتحقيق تحقيق الحق إلى ما لا نهاية له‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أفكار السوء إذا ظن صاحبها أنه يدقق فيها فهي أضر عليه لأنها تخرجه إلى التخليط الذي ينسبونه إلى السوفسطائية وإلى الهذيان المحض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وللكلام في هذا أبين من أن يشكل على عامي فكيف على فهم فكيف على عالم والحمد لله ونحن نتكلم على هذا إن شاء الله عز وجل كلاماً ظاهراً لائحاً لا يخفى على ذي حس سليم وبالله تعالى نتأيد فنقول وبالله تعالى التوفيق‏.‏

أما العدم فإنه من صفات الزمن ومن فيه تقول ملك أقدم من ملك وزمان أقدم من زمان وشيخ أقدم من شيخ أي أنه متقدم بزمانه عليه والزمان متقدم بذاته على الزمان ليس في العالم قدم قديم الأزماني هذا هو حكم اللغة التي لا يوجد فيها غيره أصلاً فالقدم هو التقدم والتقدم متقدم بنفسه على غيره فقط لأن القدم موجود معلوم وهي صفة المتقدم فلا يجوز إنكاره وأما قدم القديم فباطل لأنه لم يأت به نص ولا قام بوجوده دليل وما كان هكذا فهو باطل وأما وجود الموجود فبضرورة الحس أن الموجود حق وأنه يقتضي واجداً وأن الواجد يقتضي وجوداً لما وجد هو فعل الواجد وصفته فهو حق لما ذكرنا ووجود الواجد يوجد بذاته لا بوجود هو غيره لأن وجود الوجود لم يأت به نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما الباري عز وجل فإنه يجد نفسه ويعلمها ويجد ما دونه ويعلمه بذاته لا بوجود هو غيره ولا بعلم هو غيره فقط وكذلك العالم منا يقتضي علماً ولا بد هو فعل العالم وصفته المحمولة فيه عرضاً بيقين ويزيد ويذهب ويثبت أطواراً هذا ما لا شك فيه والعالم منا يعلم أنه يحمل علماً بعلمه ذلك لا بعلم هو غير علمه لأن العالم بالعلم لم يوجب وجوده نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وكذلك الباقي مثاله بلا شك والبقاء هو اتصال وجوده مدة بعد مدة وهذا معنى صحيح لا يجوز أن ينكره عاقل فإما بقاء البقاء فلم يأت بإيجاب وجود نص ولا قام به برهان وما كان هكذا فهو باطل ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالبقاء ولا أنه باق كما لا يوصف بالخلد ولا بأنه خالد ولا بالدوام ولا بأنه دائم ولا بالثبات ولا بأنه ثابت ولا بطول العمر ولا بطول المدة لأن الله عز وجل لم يسم نفسه بشيء من ذلك لا في القرآن ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قال ه قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا قام به برهان بل البرهان قام ببطلان ذلك لأن كل ما ذكرنا من صفات المخلوقين ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين إلا أن يأتي نص بأن يسمي باسم ما فيوقف عنده ولأن كل ما ذكرنا أعراض فيما هو فيه والله تعالى لا يحمل الأعراض وأيضاً فإنه عز وجل لا في زمان ولا يمر عليه زمان ولا هو متحرك ولا ساكن لكن ي قال لم يزل الله تعالى ولا يزال وأما الفناء فإنه مدة للعدم تعدها أجزاء الحركات والسكون ولا يجوز أن تكون للمدة مدة لكنها مدة في نفسها ولنفسها فالقول بالزمان حق لأنه محسوس معلوم وأما القول بزمان الزمان فهو شيء لم يأت به نص ولا قام بحصته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما ظهور الظاهر فهو متيقن معلوم والظهور صفة الظاهر وفعله تقول ظهر يظهر ظهوراً والظهور معلوم ظاهر بنفسه ولا يجوز أن ي قال أن للظهور ظهوراً لأنه لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما خفاء الخافي فهو عدم ظهوره والعدم ليس شيئاً كما قدمنا وأما القصد إلى الشي والنية له فإنما هما فعل القاصد والناوي وإرادتهما الشيء والقول بهما واجب لأنهما موجودات بالضرورة يجدهما كل أحد من نفسه ويعلمهما من غيره علماً ضرورياً وأما القصد إلى القصد والنية للنية فباطل لأنه لم يأت به نص ولا أوجبهما دليل وما كان هكذا فهو باطل والقول به لا يجوز فهذا وجه البيان فيما خفي عليهم حتى أتوا فيه بهذا التخليط والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نقول لهم أخبرونا إذا قلتم هذه أحوال أهي معان ومسميات مضبوطة محدودة متميز بعضها من بعض أم ليست معاني أصلاً ولا لها مسميات ولا هي مضبوطة ولا محدودة متميز بعضها من بعض فإن قالوا ليست معاني ولا محدودة ولا مضبوطة ولا متيزاً بعضها من بعض ولا لتك الأسماء مسميات أصلاً قيل له فهذا هو معنى العدم حقاً فلم قلتم أنها ليست معدومة ثم لم سميتموها أحوالاً وهي معدومة ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية وتسميتكم هذه المعاني أحوالاً ليست تسمية شريعة ولا لغوية ولا مصطلحاً عليها لبيان ما يقع عليه فهي باطل محض بيقين فإن قالوا هي معان مضبوطة ولها مسميات محدودة متميزة بعضها من بعض قيل لهم هذه صفة الموجودة ولا بد فلم قلتم أنها ليست موجودة وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وي قال لهم أيضاً هذه الأحوال التي تقولون أمعقولة هي أم غير معقولة فإن قالوا هي معقولة كانوا قد أثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها عقلت فهي موجودة ولا بد والعدم ليس معقولاً لكنه لا معنى لهذه اللفظة أصلاً وبالله تعالى التوفيق وي قال لهم أيضاً هل الأحوال في اللغة وفي المعقول إلا صفات لذي حال وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى ي قال هذا حال فلان اليوم وكيف كانت حالك بالأمس وكيف يكون الحال غداً فإذا الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حق مخلوقة ولا بد فظهر فساد قولهم وأنه من أسخف الهذيان والمحال الممتنع الذي لا يرضي به عاقل وي قال لهم أيضاً قبل كل شيء وبعده فمن أين سميتم هذا الاسم يعني الأحوال ومن أين قلتم لا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا حق ولا باطل ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معدومة ولا موجودة ولا هي أشياء ولا غير أشياء أي دليل حداكم على هذا الحكم أقرآن أم سنة أم إجماع أو قول متقدم أم لغة أم ضرورة عقل أم دليل إقناعي أم قياس فهاتوه ولا سبيل إليه فلم يبق إلا الهذر والهوس وقلة المبالاة بما يكتبه اللكان ويسأل عنه رب العالمين والتهاون باستخفاف أهل العقول لمن قال بهذا الجنون ولا مزيد ونعوذ بالله من الخذلان وما ينبغي لهم بعد هذا أن ينكروا على من أتى بما لا يعقل ككون الجسم في مكانين والجسمين في مكان واحد وكون شيء قائماً قاعداً وكون أشياء غير متناهية في وقت واحد فإن قالوا هذا كفر قيل لهم بل الكفر ما جئتم به لأنه إبطال الحقائق كلها والعجب كل العجب أنهم لا يجوزون قدرة الله تعالى على ما هو محال عندهم وقد أتوا في هذا الفصل بعين المحال ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلامهم في هذه المسألة كلام ما سمع بأسخف منه ولا قول السوفسطائية ولا قول النصارى ولا قول الغالية على أن هذه الفرق أحمق الفرق أقوالاً أما السوفسطائية فإنهم قطعوا على أن الأشياء باطل لا حق أو أنها حق عند من هي عنده حق وباطل عند من هي عند باطل وأما النصارى والغالية فإن كانت هاتان الفرقتان قد أتتا بالعظائم فإنهم قطعوا بأنها حق وأما هؤلاء المخاذيل فإنهم أتوا بقول حققوه وأبطلوه ولم يحققوه وأبطلوه ولم يحققوه ولا أبطلوه كل ذلك معاً في وقت واحد من وجه واحد وهذا لا يأتي به إلا مبرسم أو مجنون أو ماجن يريد أن يضحك من معه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونحن نتكلف بيان هذا التخليط التي أتوا به وإن كان مكتفياً بسماعه ولكن التزيد من إبطال الباطل ما أمكن حسن فنقول وبالله تعالى التوفيق أن قولهم لا هي حق ولا هي باطل فإن كل ذي حس سليم يدري أن كل ما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن باطلاً فهو حق هذا لا يعقل غيره فكيف وقد قال الله تعالى ‏"‏ فماذا بعد الحق إلا الضلال ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ليحق الحق ويبطل الباطل ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ خلق كل شيء فقدره ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏"‏ و قال ‏"‏ فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهؤلاء قوم ينتمون إلى الإسلام ويصدقون القرآن ولولا ذلك ما احتججنا عليهم فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل وليس إلا علم أو جهل وهو عدم العلم وليس إلا وجود أو عدم إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء ولا على مخلوق فقد أكذبهم الله عز وجل في دعواهم ولا يشك ذو حس سليم أن ما لم يكن باطلاً فهو حق وما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن معلوماً فهو مجهول وما لم يكن مجهولاً فهو معلوم وما لم يكن شيئاً فهو لا شيء وما لم يكن لا شيء فهو شيء وما لم يكن موجوداً فهو معدوم وما لم يكن معدوماً فهو موجوداً وما لم يكن مخلوقاً فهو غير مخلوق وما لم يكن غير مخلوق فهو مخلوق هذا كله معلوم ضرورة ولا يعقل غيره فإذ هذا كذلك ولا فرق بين ما قال وه في هذه القضية وبين القول اللازم لهم ضرورة وهو أن تلك الأحوال معدومة موجودة معاً حق باطل معاً معلومة مجهولة معاً مخلوقة غير مخلوقة معاً شيء لا شيء معاً وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه لأنهم إذ قالوا ليست حقاً فقد أوجبوا أنها باطل وإذ قالوا ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق وهكذا في سائر ما قال وه فأعجبوا لعقول وسع هذا فيها وسخموا به ورقهم وعجب آخر وهو قال أبو محمد‏:‏ ولم يخلصوا من هذا من قول معمر في وجوب وجود أشياء لا نهاية لها أو أن يصيروا إلى قولنا في إبطال هذه التي يسمونها أحوالاً وإعدامها جملة وما نعلم هوساً إلا وقد انتظمته هذه الم قال ة ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

مسألة أخرى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قال ت الأشعرية ليس في العالم شيء له بعض أصلاً ولا شيء له نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس ولا سدس ولا سبع ولا ثمن ولا تسع ولا عشر ولا جزء أصلاً واحتجوا في هذا بأن قالوا يلزم من قال أن الواحد عشر العشر وجزء من العشرة وبعض العشرة أن يقول ولا بد أن الواحد عشر من نفسه وجزء من نفسه وبعض نفسه وأنه جزء لغيره عشر لغيره لأن العشرة تسعة وواحد فلو كان الواحد عشر العشرة وبعضاً للعشرة وجزأ للعشرة لكان عشراً لنفسه وللتسعة التي هي غيره ولكان جزأ بعضاً لنفسه وللتسعة التي هي غيره‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خبط شديد أول ذلك أنه رد على الله تعالى مجرد وتكذيب للقرآن وخلاف اللغة بل لجميع اللغات ومكابرة للعقول وللحواس قال تعالى ‏"‏ وإذا خلا بعضهم إلى بعض ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فلأمه الثلث فلامه السدس فلها النصف ولهن الربع ولهن الثمن ‏"‏ فقد كذبوا القرآن نصاً ثم هذا موجود في كل طبيعة في كل لغة ومحسوس بالحواس ثم ي قال لهم لا فرق بينكم وبين من صحح ولم ينكر كون الشيء بعض نفسه وبعض غيره وجزأ لنفسه وجزأ لغيره وعشر نفسه وعشر غيره واحتج في تصحيح ذلك بالحجة التي رمتم بها إبطال ذلك ولا مزيد وكلاكما متكسع في ظلمة الخطأ ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ليس الأمر كما ظننتم بل الأسماء موضوعة للتفاهم وللتميز بعض المسميات من بعض فالعشرة اسم للعشرة أفراد مجتمعات في العدد كذلك لتسعة وواحد ولثمانية اثنين ولسبعة وثلاثة ولستة وأربعة وخمسة وخمسة قال تعالى ‏"‏ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ‏"‏ وهكذا جميع الأعداد لا ينكر ذلك إلا مخذول منكر للمشاهدة فبالضرورة ندري أن كل جزء من تلك الجملة فهو بعض لها وعشر لها وقسم منها لنسبة ما ولا ي قال هو جزء لنفسه ولا جزء لغيره ولا أنه بعض لنفسه ولا أنه بعض لغيره ولا عشر لنفسه ولا عشر لغيره ومثل هذا البلق الذي هو اسم لاجتماع السواد والبياض معاً فالبياض بلا شك بعض البلق والسواد بعض البلق وليس البياض جزأ لنفسه وللسواد ولا بعضاً لنفسه وللسواد وكل واحد منهما جزء للبلق وكذلك الإنسان اسم للجملة المجتمعة من أعضائه ولا شك في أن العين بعض الإنسان وجزء من الإنسان ولا يحتمل أن ي قال العين بعض نفسها وبعض الأذن واليد ولا أن ي قال الأذن جزء لنفسها وللعين والأنف وهكذا في سائر الأعضاء فعلى قول هؤلاء النوكى يلزمهم أن لا تكون العين بعض الإنسان وأن يقولوا أن العين بعض نفسها وبعض الأذن ومن أبطل الأبعاض والأجزاء فقد أبطل الجمل لأن الجمل ليست شيئاً البتة غير أبعاضها ومن أبطل الجمل فقد بطل الكل والجزء وأبطال العالم بكل ما فيه وإذا بطل العالم بطل الدين والعقل وهذه حقيقة السفسطة وما نعلم في الأقوال أحمق من هذه المسألة ومن التي قبلها نعوذ بالله من الخذلان‏.‏