فلما كانت الظهر ، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حدثني الزهري ، معتجرا بعمامة من إستبرق ، على بغلة عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج ، فقال : أوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم ؛فقال جبريل : فما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم ، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة ، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم .
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا ، فأذن في الناس : من كان سامعا مطيعا ، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة . جبريل يأتي بحرب بني قريظة .
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، فيما قال ابن هشام . علي يبلغ الرسول ما سمعه من بني قريظة قال ابن إسحاق : وقَدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة ، وابتدرها الناس ، فسار على بن أبي طالب ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول الله ، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث ؛ قال : لم ؟ أظنك سمعت منهم لي أذى ؟ قال : نعم يا رسول الله؛ قال : لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم . قال: يا إخوان القردة ، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ قالوا : يا أبا القاسم ، ما كنت جهولا .
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه بالصَّوْرَيْن قبل أن يصل إلى بني قريظة ، فقال : هل مر بكم أحد ؟ قالوا : يا رسول الله ، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي ، على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة ديباج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك جبريل ، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم . ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة ، نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم ، يقال لها بئر أنا . قال ابن هشام : بئر أنى .
قال ابن إسحاق : وتلاحق به الناس ، فأتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة ، ولم يصلوا العصر ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة ، فشغلهم ما لم يكن منه بد في حربهم ، وأبوا أن يصلوا ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : حتى تأتوا بني قريظة . فصلوا العصر بها ، بعد العشاء الآخرة ، فما عابهم الله بذلك في كتابه ، ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثني بهذا الحديث أبي إسحاق بن يسار ، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري .
قال : وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب . وقد كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم ، حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه .
فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيها شئتم ؛ قالوا : وما هي ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه ، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل ، وأنه للذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ؛ قالوا : لا نفارق حكم التوارة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ؛ قال : فإذا أبيتم عليّ هذه ، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مُصلتين السيوف ، لم نترك وراءنا ثقلا ، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ، ولم نترك وراءانا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء ؛ قالوا : نقتل هؤلاء المساكين ! فما خير العيش بعدهم ؟ قال : فإن أبيتم عليّ هذه ، فإن الليلة ليلة السبت ، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها ، فانزلوا لعلنا نُصيب من محمد وأصحابه غرة ؛ قالوا : نفسد سبتنا علينا ، ونحُدث فيه ما لم يحدث مَنْ كان قبلنا إلا من قد علمت ، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ ! قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
قال : ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبدالمنذر ، أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس ، لنستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ؛ فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم ، وقالوا له : يا أبا لبابة ! أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، إنه الذبح . قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت ، وعهد الله : أن لا أطأ بني قريظة أبدا ، ولا أُرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا .
قال ابن هشام : وأنزل الله تعالى في أبي لبابة ، فيما قال سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبدالله بن أبي قتادة : {(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)}.
قال ابن إسحاق : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ، وكان قد استبطأه ، قال : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ قد فعل ما فعل ، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه .
قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن عبدالله بن قُسيط : أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر ، وهو في بيت أم سلمة . فقالت أم سلمة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم من السحر و هو يضحك . قالت : فقلت : مم تضحك يا رسول الله ؟ أضحك الله سنك ؛ قال : تِيب على أبي لبابة ؛ قالت : قلت : أفلا أبشره يا رسول الله ؟ قال : بلى ، إن شئت . قال : فقامت على باب حجرتها ، وذلك قبل أن يُضرب عليهنّ الحجاب ، فقالت : يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب الله عليك . قالت : فثار الناس إليه ليطلقوه ، فقال : لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده؛ فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه .
قال ابن إسحاق : ثم إن ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، وهم نفر من بني هدل ، ليسوا من بني قريظة ولا النضير ، نسبهم فوق ذلك ، هم بنو عم القوم ، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وخرج في تلك الليلة عمرو بن سُعْدى القرظي ، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه محمد بن مسلمة تلك الليلة ؛ فلما رآه قال : من هذا ؟ قال : أنا عمرو بن سُعدى - وكان عمرو قد أبى يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : لا أغدر بمحمد أبدا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ، ثم خلى سبيله . فخرج على وجهه حتى أتى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ، ثم ذهب فلم يُدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه ؛ فقال : ذاك رجل نجاه الله بوفائه . وبعض الناس يزعم أنه كان أُوثق بِرُمَّة فيمن أُوثق من بني قريظة ، حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحت رمته ملقاة ، ولا يدري أين يذهب ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة ، والله أعلم أي ذلك كان .
قال : فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول الله ، إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبدالله بن أبي بن سلول ، فوهبهم له - فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذاك إلى سعد بن معاذ . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها : رُفيدة ، في مسجده ، كانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب . فلما حكَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطَّئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يقولون : يا أبا عمرو ، أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ؛ فلما أكثروا عليه قال : لقد أَنى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم . فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبدالأشهل ، فنَعَى لهم رجال بني قريظة ، قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التي سمع منه . فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى سيدكم - فأما المهاجرون من قريش ، فيقولون : إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ؛ وأما الأنصار، فيقولون : قد عمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقاموا إليه ، فقالوا : يا أبا عمرو ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم ؛ فقال سعد بن معاذ : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، أنّ الحكم فيهم لمَا حكمت ؟ قالوا : نعم : وعلى من هاهنا ؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ؛ قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتُسبى الذراري والنساء .
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبدالرحمن ابن عمرو بن سعد بن معاذ ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة .
قال ابن هشام : حدثني بعض من أثق به من أهل العلم : أن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ، وتقدم هو والزبير بن العوام ، وقال : والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم ؛ فقالوا : يا محمد ، ننزل على حكم سعد بن معاذ .
قال ابن إسحاق : ثم استنزلوا ، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة ، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا ، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب ، وكعب بن أسد ، رأس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثِّر لهم يقول : كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة . وقد قالوا لكعب بن أسد ، وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا : يا كعب ، ما تراه يصنع بنا ؟ قال : أفي كل موطن لا تعقلون ؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذُهب به منكم لا يرجع ؟ هو والله القتل ! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأُتي بحيي بن أخطب عدو الله ، وعليه حله له فقَّاحية - قال ابن هشام : فقاحية : ضرب من الوشي - قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يُسلبها ، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل . فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أما والله ما لمت نفسي في عدواتك ، ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس ، فقال : أيها الناس ، إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب وقدر ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه .
فقال جبل بن جوال الثعلبي :
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه |
|
ولكنه من يخـذل الـلـه يخُـذلِ |
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها |
|
وقلقل يبغي العز كل مُقـلـقَـل |
قال ابن إسحاق : وقد حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : لم يقتل من نسائهم إلا امراة واحدة . قالت : والله إنها لعندي تحَدَّث معي ، وتضحك ظهرا وبطنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها في السوق ، إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة ؟ قالت : أنا والله ، قالت : قلت لها : ويلك ؛ ما لك ؟ قالت : أُقتل ؛ قلت : ولم ؟ قالت : لحدث أحدثته ؛ قالت : فانطلق بها ، فضربت عنقها ؛ فكانت عائشة تقول : فوالله ما أنسى عجبا منها ، طيب نفسها ، وكثرة ضحكها ، وقد عرفت أنها تُقتل . قال ابن هشام : وهي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد ، فقتلته .
قال ابن إسحاق : وقد كان ثابت بن قيس بن الشماس ، كما ذكر لي ابن شهاب الزهري ، أتى الزبير بن باطا القرظي ، وكان يكنى أبا عبدالرحمن - وكان الزبير قد منَّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية . ذكر لي بعض ولد الزبير أنه كان منّ عليه يوم بعاث ، أخذه فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله - فجاءه ثابت وهو شيخ كبير ، فقال : يا أبا عبدالرحمن ، هل تعرفني ؟ قال : وهل يجهل مثلي مثلك ؛ قال: إني قد أردت أن أجزيك بيدك عندي ؛ قال : إن الكريم يجزي الكريم . ثم أتى ثابت بن قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنه قد كانت للزبير عليّ منة ، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو لك ؛ فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك ، فهو لك ؛ قال : شيخ كبير لا أهل له ولا ولد ، فما يصنع بالحياة ؟ قال : فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، هب لي امرأته وولده ؛ قال : هم لك . قال : فأتاه فقال : قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك ، فهم لك ؛ قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم ، فما بقاؤهم على ذلك ؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ماله ؛ قال : هو لك . فأتاه ثابت فقال : قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ، فهو لك . قال : أي ثابت ، مافعل الذي كأن وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحي ، كعب بن أسد؟ قال : قتل ؛ قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ؟ قال : قتل ؛ قال : فما فعل مقدمتنا إذا شددنا ، وحاميتنا إذا فررنا ، عزَّال بن سموأل ؟ قال : قتل ؛ قال : فما فعل المجلسان ؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؛ قال : ذهبوا قتلوا ؛ قال : فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم ، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير ، فما أنا بصابر لله فتلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة . فقدمه ثابت ، فضرب عنقه . فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ( ألقى الأحبة ) . قال : يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا . قال ابن هشام : قبلة دلو ناضح . قال زهير بن أبي سلمى في ( قبلة ) :
وقابل يتغنى كلما قدرت |
|
على العراقي يداه قائما دَفَقا |
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن هشام : ويُروى : وقابل يتلقى ، يعني قابل الدلو يتناول .
قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم . قال ابن إسحاق: وحدثني شعبة بن الحجاج ، عن عبدالملك بن عمير ، عن عطية القرظي ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يُقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم ، وكنت غلاما ، فوجدوني لم أُنبت، فخلوا سبيلي . قال ابن إسحاق : وحدثني أيوب بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي صعصعة ، أخو بني عدي بن النجار : أن سلمى بنت قيس ، أم المنذر ، أخت سليط بن أخت سليط بن قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد صلت معه القبلتين ، بايعته بيعة النساء - سألته رفاعة بن سموأل القرظي ، وكان رجلا قد بلغ ، فلاذ بها ، وكان يعرفهم قبل ذلك ، فقالت : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي ، هب لي رفاعة ، فإنه قد زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل ؛ قال : فوهبه لها ، فاستحيته .
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأعلم في ذلك اليوم سُهْمان الخيل وسهمان الرجال ، وأخرج منها الخُمس ، فكان للفارس ثلاثة أسهم ، للفرس سهمان ولفارسه سهم ، وللراجل ، من ليس له فرس ، سهم . وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرسا ، وكان أول فيء وفعت فيه السهمان ، وأُخرج منها الخمس ، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وقعت المقاسم ، ومضت السنة في المغازي . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبدالأشهل بسبي من سبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا .
قال ابن إسحاق : وأنزل الله تعالى في أمر الخندق ، وأمر بني قريظة من القرآن ، القصة في الأحزاب، يذكر فيها ما نزل من البلاء ، ونعمته عليهم ، وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم ، بعد مقالة من قال من أهل النفاق : {( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا )} . والجنود : قريش وغطفان وبنو قريظة ، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة . يقول الله تعالى : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا ) . فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان . يقول الله تبارك وتعالى : ( هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسلوه إلا غرورا ) لقول معتِّب بن قشير إذ يقول ما قال . ( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) لقول أوس بن قيظي ومن كان على رأيه من قومه ( ولو دُخلت عليهم من أقطارها ) : أي المدينة . تفسير ابن هشام لبعض الغريب قال ابن هشام : الأقطار : الجوانب ؛ وواحدها : قطر ، وهي الأقتار ، وواحدها : قتر . قال الفرزدق :
كم من غِنى فتح الإله لهم به |
|
والخيل مُقْعية على الأقـطـار |
ويُروى : ( على الأقتار ) . وهذا البيت في قصيدة له . ( ثم سئلوا الفتنة ) : أي الرجوع إلى الشرك ( لآتوها وما تلبثُّوا بها إلا يسيرا . ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ، وكان عهد الله مسئولا ) ، فهم بنو حارثة ، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يوم أحد، ثم عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا ، فذكر لهم الذين أعطوا من أنفسهم ، ثم قال تعالى : ( قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ، وإذا لا تمتعون إلا قليلا . قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا ، أو أراد بكم رحمة ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا . قد يعلم الله المعوِّقين منكم ) : أي أهل النفاق ( والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ، ولا يأتون البأس إلا قليلا ) : أي إلا دفعا وتعذيرا ( أشحة عليكم ) : أي للضغن الذي في أنفسهم ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك ، تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت ) : أي إعظاما له وفرقا منه ( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) : أي في القول بما لا تحبون ، لأنهم لا يرجون آخرة ، ولا تحملهم حِسبة ، فهم يهابون الموت هيبة من لا يرجو ما بعده .
قال ابن هشام : سلقوكم : بالغوا فيكم بالكلام ، فأحرقوكم وآذوكم . تقول العرب : خطيب سلاّق ، وخطيب مِسْلق ومِسْلاق . قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :
فيهم المجد والسماحة والنَّجْ |
|
دة فيهم والخاطب الـسـلاقُ |
وهذا البيت في قصيدة له . ( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ) قريش وغطفان ( وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ، ولو كانوا فيكم ما قاتلوا الا قليلا ) . ثم أقبل على المؤمنين فقال : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) : أي لئلا يرغبوا بانفسهم عن نفسه ، ولا عن مكان هو به .ثم ذكر المؤمنين وصدقهم وتصديقهم بما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به ، فقال : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، وما زادهم الا إيمانا وتسليما ) : أي صبرا على البلاء وتسليما للقضاء ، وتصديقا للحق ، لما كان الله تعالى وعدهم ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ) : أي فرغ من عمله ، ورجع إلى ربه ، كمن استشهد يوم بدر ويوم أحد .
قال ابن هشام : قضى نحبه : مات ، والنحب : النفس ، فيما أخبرني أبو عبيدة ، وجمعه : نحوب . قال ذو الرمة :
عشية فر الحارثيون بعـد مـا |
|
قضى نحبه في ملتقى الخيل هَوْبَرُ |
وهذا البيت في قصيدة له . وهوبر : من بني الحارث بن كعب ، أراد : يزيد بن هوبر . والنحب أيضاً: النذر . قال جرير بن الخَطَفَى :
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا |
|
عشية بسطام جرين على نحب |
يقول : على نذر كانت نذرت أن تقتله فقتلته ، وهذا البيت في قصيدة له . وبسطام : بسطام بن قيس بن مسعود الشيباني ، وهو ابن ذي الجدين . حدثني أبو عبيدة : أنه كان فارس ربيعة بن نزار . وطِخْفة : موضع بطريق البصرة . والنحب أيضا : الخِطار ، وهو الرهان . قال الفرزدق :
وإذ نحبت كلب على الناس أينـا |
|
على النحب أعطى للجزيل وأفضل |
والنحب أيضا : البكاء . ومنه قولهم : ينتحب . والنحب أيضا : الحاجة والهمة ؛ تقول : ما لي عندهم نحب . قال مالك بن نويرة اليربوعي :
وما لي نحب عندهم غير أنني |
|
تلمست ما تبغي من الشُّدُن الشُّجْرِ |
وقال نهار بن توسعة ، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل - قال ابن هشام : هؤلاء موالي بني حنيفة - :
ونجَّى يوسفَ الثقفي ركض |
|
دراك بعد ما وقـع الـلـواء |
ولو أدركنه لقضين نحـبـا |
|
به وكـل مُـخـطَـأَة وقـاء |
والنحب أيضاً : السير الخفيف المَرِّ . قال ابن إسحاق : ( ومنهم من ينتظر ) : أي ما وعد الله به من نصره ، والشهادة على ما مضى عليه أصحابه . يقول الله تعالى : ( وما بدلوا تبديلا ) : أي ما شكوا وما ترددوا في دينهم ، وما استبدلوا به غيره . ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين إن شاء ، أو يتوب عليهم ، إن الله كان غفورا رحيما . و ردَّ الله الذين كفروا بغيظهم ) : أي قريشا وغطفان ( لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا . وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب ) : أي بني قريظة ( من صياصيهم ) ، والصياصي : الحصون والآطام التي كانوا فيها . قال ابن هشام : قال سحيم عبد بني الحسحاس ؛ وبنو الحسحاس من بني أسد بن خزيمة :
وأصبحت الثيران صرعى وأصبحت |
|
نساء تمـيم يبـتـدرن الـصـياصـيا |
وهذا البيت في قصيدة له . والصياصي أيضا : القرون . قال النابغة الجعدي :
وسادة رهطي حتى بَقِيْ |
|
تُ فردا كصيصية الأعضب |
يقول : أصاب الموت سادة رهطي . وهذا البيت في قصيدة له . وقال أبو دواد الإيادي :
فذَعَرْنا سُحم الصياصي بأيدي |
|
هنّ نَضْحٌ من الكُحـيل وقـار |
وهذا البيت في قصيدة له . والصياصي أيضاً : الشوك الذي للنساجين ، فيما أخبرني أبو عبيدة . وأنشدني لدريد بن الصمة الجشمي ، جشم ابن معاوية بن بكر بن هوازن :
نظرت إليه والرماح تنـوشـه |
|
كوقع الصياصي في النسيج الممدد |
وهذا البيت في قصيدة له . والصياصي أيضاً : التي تكون في أرجل الديكة ناتئة كأنها القرون الصغار ، والصياصي أيضاً : الأصول . أخبرني أبو عبيدة أن العرب تقول : جذّ الله صيصيته : أي أصله .قال ابن إسحاق : ( وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ) : أي قتل الرجال ، وسبي الذراري والنساء ، ( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها ) : يعني خيبر ( وكان الله على كل شيء قديرا )
قال ابن إسحاق : فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه ، فمات منه شهيدا . قال ابن إسحاق : حدثني معاذ بن رفاعة الزُّرقي ، قال : حدثني من شئت من رجال قومي : أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قُبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجرا بعمامة من إستبرق ، فقال : يا محمد ، من هذا الميت الذي فُتحت له أبواب السماء ، واهتز له العرش ؟ قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد ، فوجده قد مات . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبدالرحمن قالت : أقبلت عائشة قافلة من مكة ، ومعها أسيد بن حضير ، فلقيه موت امرأة له ، فحزن عليها بعض الحزن ، فقالت له عائشة : يغفر الله لك يا أبا يحيى، أتحزن على امرأة وقد أُصبت بابن عمك ، وقد اهتز له العرش ! قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن الحسن البصري ، قال : كان سعد رجلا بادنا ، فلما حمله الناس وجدوا له خفة ، فقال رجال من المنافقين : والله إن كان لبادنا ، وما حملنا من جنازة أخف منه ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال : إن له حملة غيركم ، والذي نفسي بيده ، لقد استبشرت الملائكة بروح سعد ، واهتز له العرش . قال ابن إسحاق : وحدثني معاذ بن رفاعة ، عن محمود بن عبدالرحمن ابن عمرو بن الجموح ، عن جابر بن عبدالله ، قال : لما دُفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبح الناس معه ، ثم كبر فكبر الناس معه ؛ فقالوا : يا رسول الله ، مم سبحت ؟ قال : لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره ، حتى فرجه الله عنه . قال ابن هشام : ومجاز هذا الحديث قول عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للقبر لضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ . قال ابن إسحاق : ولسعد يقول رجل من الأنصار :
وما اهتز عرش الله من موت هالك |
|
سمعنا به إلا لسعـد أبـي عـمـرو |
و قالت أم سعد ، حين احتُمل نعشه وهي تبكيه - قال ابن هشام : وهي كُبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبد بن الأبجر ، وهو خُدْرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج - :
ويل أم سعد سعدا |
|
صرامة وحـــدا |
وسُوددا ومجـدا |
|
وفارسـا مُـعـدّا |
سُدّ به مَـسـدّا |
|
يَقُـدُّ هـامـا قَـدّا |
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل نائحة تكذب ، إلا نائحة سعد بن معاذ .
قال ابن إسحاق : ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر .
ومن بني عبدالأشهل : سعد بن معاذ ، وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو ، وعبدالله بن سهل . ثلاثة نفر .
ومن بني جشم بن الخزرج ، ثم من بني سلمة : الطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمة . رجلان .
ومن بني النجار ، ثم من بني دينار : كعب بن زيد ، أصابه سهم غرب ، فقتله .
قال ابن هشام : سهمُ غَرْبٍ وسهمٌ غرب ، بإضافة وغير إضافة ، وهو الذي لا يُعرف من أين جاء ولا من رمى به .
وقتل من المشركين ثلاثة نفر .
ومن بني عبدالدار بن قصي : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبدالدار ، أصابه سهم ، فمات منه بمكة . قال ابن هشام : هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق .
قال ابن إسحاق : ومن بني مخزوم بن يقظة : نوفل بن عبدالله بن المغيرة ؛ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده ، وكان اقتحم الخندق ، فتورط فيه ، فقُتل ، فغلب المسلمون على جسده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حاجة لنا في جسده ولا بثمنه ، فخلى بينهم وبينه . قال ابن هشام : أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده عشرة آلاف درهم ، فيما بلغني عن الزهري .
قال ابن إسحاق : ومن بني عامر بن لؤي ، ثم من بني مالك بن حسل : عمرو بن عبد ود ، قتله علي بن أبي طالب رضوان الله عليه . قال ابن هشام : وحدثني الثقة أنه حدث عن ابن شهاب الزهري أنه قال: قتل علي بن أبي طالب يومئذ عمرو بن عبد ود وابنه حسل بن عمرو . قال ابن هشام : ويقال عمرو بن عبد ود ، ويقال : عمرو بن عبد .
قال ابن إسحاق : واستشهد يوم بني قريظة من المسلمين ، ثم من بني الحارث بن الخزرج : خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو ، طُرحت عليه رحى ، فشدخته شدخا شديدا ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن له لأجر شهيدين . ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان ، أخو بني أسد بن خزيمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة ، فدفن في مقبرة بني قريظة التي يدفنون فيها اليوم، وإليه دفنوا أمواتهم في الإسلام .
ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني : لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم . فلم تغزهم قريش بعد ذلك ، وكان هو الذي يغزوها ، حتى فتح الله عليه مكة .
قال ضرار بن الخطاب بن مرداس ، أخو بني محارب بن فهر ، في يوم الخندق :
ومشفقة تظن بنا الظنـونـا |
|
وقد قُدنا عرندسة طـحـونـا |
كأن زهاءها أحـد إذا مـا |
|
بدت أركانه لـلـنـاظـرينـا |
ترى الأبدان فيها مسبغـات |
|
على الأبطال واليَلَبَ الحصينـا |
وجردا كالقداح مسـوَّمـات |
|
نؤم بها الغواة الـخـاطـيينـا |
كأنهم إذا صالوا و صُلْـنـا |
|
بباب الخندقين مصافـحـونـا |
أناس لا نرى فيهـم رشـيدا |
|
وقد قالوا ألسـنـا راشـدينـا |
فأحجرناهمُ شهرا كـريتـا |
|
وكنا فوقهم كـالـقـاهـرينـا |
نراوحهم ونغـدو كـل يوم |
|
عليهم في السلاح مدججـينـا |
بأيدينا صوارم مرهـفـات |
|
نقدّ بها المفارق والـشـئونـا |
كأن وميضهن مـعـرَّيات |
|
إذا لاحت بأيدي مصـلـتـينـا |
وميض عقيقة لمعت بلـيل |
|
ترى فيها العقائق مستـبـينـا |
فلولا خندق كـانـوا لـديه |
|
لدمرنا عليهـم أجـمـعـينـا |
ولكن حال دونهم وكـانـوا |
|
به من خوفنـا مـتـعـوذينـا |
فإن نرحل فإنا قد تركـنـا |
|
لدى أبياتكم سـعـدا رهـينـا |
إذا جن الظلام سمعت نوحي |
|
على سعد يُرجِّعْن الحـنـينـا |
وسوف نزوركم عما قريب |
|
كما زرناكـم مـتـوازرينـا |
بجمع من كنانة غير عُـزْل |
|
كأسد الغاب قد حمت العرينـا |
فأجابه كعب بن مالك ، أخو بني سلمة ، فقال :
وسائلة تسائل ما لـقـينـا |
|
ولو شهدت رأتنا صابـرينـا |
صبرنا لا نرى للـه عـدلا |
|
على مانابنا مـتـوكـلـينـا |
وكان لنا النبي وزير صدق |
|
به نعلو البرية أجـمـعـينـا |
نقاتل معشرا ظلموا وعقُّوا |
|
وكانوا بالعداوة مرصـدينـا |
نعاجلهم إذا نهضوا إلـينـا |
|
بضرب يعجل المتسرعـينـا |
ترانا في فضافض سابغات |
|
كغدران الملا متسربـلـينـا |
وفي أيماننا بيض خفـاف |
|
بها نشفي مراح الشاغبـينـا |
بباب الخندقين كأن أسـدا |
|
شوابكهن يحمين الـعـرينـا |
فوارسنا إذا بكروا وراحوا |
|
على الأعداء شوسا معلمينـا |
لننصر أحمدا والله حتـى |
|
نكون عباد صدق مخلصينـا |
ويعلم أهل مكة حين ساروا |
|
وأحزاب أتوا متـحـزبـينـا |
بأن الله ليس لـه شـريك |
|
وأنا الله مولى المؤمـنـينـا |
فإما تقتلوا سعدا سفـاهـا |
|
فإن الله خـير الـقـادرينـا |
سيدخله جنانـا طـيبـات |
|
تكون مقامة للصـالـحـينـا |
كما قد ردكم فَـلاًّ شـريدا |
|
بغيظكـم خـزايا خـائبـينـا |
خزايا لم تنالوا ثَـمَّ خـيرا |
|
وكدتم أن تكونـوا دامـرينـا |
بريح عاصف هبت عليكم |
|
فكنتم تحتها متـكـمِّـهـينـا |
وقال عبدالله بن الزبعرى السهمي ، في يوم الخندق :
حي الديار محا معارف رسمها |
|
طول البِلى وتـراوح الأحـقـاب |
فكأنما كتب اليهود رسومـهـا |
|
إلا الكنيف ومعـقـد الأطـنـاب |
قفرا كأنك لم تكن تلهـو بـهـا |
|
في نعـمة بـأوانـس الـتـراب |
فاترك تذكُّر ما مضى من عيشة |
|
ومحلة خلـق الـمـقـام يبـاب |
واذكر بلاء معاشر واشكرهـم |
|
ساروا بأجمعهم مـن الأنـصـاب |
أنصاب مكة عامدين لـيثـرب |
|
في ذي غياطل جحفل جبـجـاب |
يدع الحزون مناهجا معـلـومة |
|
في كل نشر ظاهـر وشـعـاب |
فيها الجياد شوازب مجـنـوبة |
|
قُبُّ البطون لـواحـق الأقـراب |
من كل سلهبة وأجرد سلـهـب |
|
كالسيد بـادرَ غـفـلة الـرقـاب |
جيش عيينة قـاصـد بـلـوائه |
|
فيه وصـخـر قـائد الأحـزاب |
قرمان كالبدرَيْن أصبح في هام |
|
غيث الفقير ومعقـل الـهُـراب |
حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا |
|
للموت كل مـجـرَّب قـضّـاب |
شهرا وعشرا قاهرين محمـدا |
|
وصحابه في الحرب خير صحاب |
نادوا برحلتهم صبيحة قـلـتـم |
|
كدنا نكون بـهـا مـع الـخُـيَّاب |
لولا الخنادق غادروا من جمعهم |
|
قتلـى لـطـير سُـغَّـب وذئاب |
رد حسَّان بن ثابت عليه فأجابه حسَّان بن ثابت الأنصاري ، فقال :
هل رسم دارسة المقـام يبـاب |
|
متكـلـم لـمـحـاور بـجـواب |
قفر عفا رهم السحاب رسومـه |
|
وهبوب كـل مـطـلة مـربـاب |
ولقد رأيت بها الحلول يزينـهـم |
|
بيض الوجوه ثواقـب الأحـسـاب |
فدع الديار وذكـر كـل خـريدة |
|
بيضاء آنـسة الـحـديث كـعـاب |
و اشك الهموم إلى الإله وما ترى |
|
من معشر ظلموا الرسول غضـاب |
ساروا بأجمعهم إلـيه وألـبـوا |
|
أهل القـرى وبـوادي الأعـراب |
جيش عيينة وابن حرب فـيهـم |
|
متخمطـون بـحـلـبة الأحـزاب |
حتى إذا وردوا المدينة وارتجـوا |
|
قتل الرسول ومـغـنـم الأسـلاب |
وغدوا علينا قـادرين بـأيدهـم |
|
ردوا بغيظهم عـلـى الأعـقـاب |
بهبوب معصفة تفرق جمعـهـم |
|
وجـنـود ربـك سـيد الأربــاب |
فكفى الإله المؤمنين قتـالـهـم |
|
وأثابهم فـي الأجـر خـير ثـواب |
من بعد ما قنطوا ففرق جمعهـم |
|
تنزيل نصر ملـيكـنـا الـوهـاب |
و أقرَّ عين محمد وصـحـابـه |
|
وأذل كـل مـكـذب مـرتــاب |
عاتي الفـؤاد مـوقَّـع ذي ريبة |
|
في الكفر ليس بطـاهـر الأثـواب |
علق الشقاء بقلـبـه فـفـؤاده |
|
في الكفر آخـر هـذه الأحـقـاب |
وأجابه كعب بن مالك أيضاً ، فقال :
أبقى لنا حدث الحـروب بـقـية |
|
من خير نحـلة ربـنـا الـوهـاب |
||
بيضاء مشرفة الذُّرى ومعاطـنـا |
|
حُمَّ الـجـذوع غـزيرة الأحـلاب |
||
كاللُّوب يبذل جمها وحـفـيلـهـا |
|
للجار وابن الـعـم والـمـنـتـاب |
||
ونزائعا مثل السِّراح نمى بـهـا |
|
علف الشعير وجزة المـقـضـاب |
||
عري الشوى منها وأردف نحضها |
|
جرد الـمـتـون وســائر الآراب |
||
قُودا تراح إلى الصياح إذ غـدت |
|
فعل الضـراء تـراح لـلـكـلاّب |
||
وتحـوط سـائمة الـديار وتـارة |
|
تُردي العـدا وتـئوب بـالأسـلاب |
||
حوش الوحوش مطارة عند الوغى |
|
عُبْس اللـقـاء مـبـينة الإنـجـاب |
||
عُلفت على دعة فصارت بُـدَّنـا |
|
دُخْس البضيع خفـيفة الأقـصـاب |
||
يغدون بالزغف المضاعف شـكة |
|
وبمترصات في الثـقـاف صـياب |
||
و صوارم نزع الصياقل غلبها |
|
وبكل أروع مـاجـد الأنـسـاب |
||
يصل اليمين بمارن متـقـارب |
|
وُكلت وقيعـتـه إلـى خـبَّـاب |
||
وأغر أزرق في القناة كـأنـه |
|
في طُخْية الظلماء ضوء شهـاب |
||
وكتيبة ينفي القرانَ قتـيرُهـا |
|
وترد حد قـواحـذ الـنُّـشـاب |
||
جأوى ململمة كأن رماحـهـا |
|
في كل مجَمعة ضـريمةُ غـاب |
||
يأوي إلى ظِل اللـواء كـأنـه |
|
في صعدة الخطِّي فيء عـقـاب |
||
أعيت أبا كرب وأعيت تُبَّـعـا |
|
وأبت بسالتها عـلـى الأعـراب |
||
ومواعظ من ربنا نهُدَى بـهـا |
|
بلسـان أزهـرَ طـيب الأثـواب |
||
عرضت علينا فاشتهينا ذكرهـا |
|
من بعد ما عرضت على الأحزاب |
||
حكما يراها المجرمون بزعمهم |
|
حرجا ويفهمهـا ذوو الألـبـاب |
||
جاءت سخينة كي تغالب ربهـا |
|
فليُغلبـنَّ مُـغـالِـبُ الـغـلاّب |
||
قال ابن هشام : حدثني من أثق به ، حدثني عبدالملك بن يحيى بن عباد ابن عبدالله بن الزبير ، قال : لما قال كعب بن مالك :
جاءت سخينة كي تغالب ربها |
|
فليغلبن مـغـالـب الـغـلاب |
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا . قال ابن إسحاق : وقال كعب بن مالك في يوم الخندق :
من سره ضرب يمعمع بعضـه |
|
بعضا كمعمعة الأباء الـمـحـرق |
فليأت مأسدة تُسـنّ سـيوفـهـا |
|
بين المذاد وبين جزع الـخـنـدق |
درِبوا بضرب المُعلِمين وأسلموا |
|
مهجات أنفسهم لرب الـمـشـرق |
في عصبة نصر الإلـه نـبـيَّه |
|
بهم وكان بـعـبـده ذا مـرفـق |
في كل سابغة تخط فضولـهـا |
|
كالنهي هبت ريحه المـتـرقـرق |
بيضاء محكمة كأن قـتـيرهـا |
|
حدق الجنادب ذات شـك مـوثـق |
جدلاء يحفزها نجـاد مـهـنـد |
|
صافي الحديد صـارم ذي رونـق |
تلكم مع التقوى تكون لبـاسـنـا |
|
يوم الهياج وكل سـاعة مـصـدق |
نَصِل السيوف إذا قصرن بخطونا |
|
قدما ونلحقهـا إذا لـم تـلـحـق |
فترى الجماجم ضاحيا هاماتهـا |
|
بَلْهَ الأكف كأنهـا لـم تـخـلـق |
نلقى العدو بفخمة مـلـمـومة |
|
تنفي الجموع كفصد رأس المشرق |
ونُعِد للأعداء كـل مـقـلَّـص |
|
ورد ومحجـول الـقـوائم أبـلـق |
تَردي بفرسان كأن كمـاتـهـم |
|
عند الهياج أسود طَـلّ مُـلـثـق |
صُدق يعاطون الكماة حتوفـهـم |
|
تحت العماية بالوشيج الـمـزهـق |
أمر الإله بربطـهـا لـعـدوه |
|
في الحرب إن الله خـير مـوفـق |
لتكون غيظا للـعـدو وحُـيَّطـا |
|
للدار إن دلفـت خـيولا الـنُّـزَّق |
ويُعيننا اللـه الـعـزيز بـقـوة |
|
منه وصدق الصبر ساعة نلتـقـي |
ونطيع أمر نبـينـا ونـجـيبـه |
|
وإذا دعا لكـريهة لـم نُـسـبـق |
ومتى يناد إلى الشدائد نـأتـهـا |
|
ومتى نرى الحومات فيها نُعـنـق |
من يتَّبع قول الـنـبـي فـإنـه |
|
فينا مطاع الأمر حـق مـصـدَّق |
فبذاك ينصرنا ويُظهـر عـزنـا |
|
ويُصيبنا من نـيل ذاك بـمـرفـق |
إن الذين يكـذبـون مـحـمـدا |
|
كفروا وضلوا عن سبيل المتَّـقـي |
قال ابن هشام : أنشدني بيته : تلكم مع التقوى تكون لباسنا وبيته :
من يتبع قول النبي |
|
|
أبو زيد . وأنشدني : تنفي الجموع كرأس قدس المشرق قال ابن إسحاق : وقال كعب بن مالك في يوم الخندق :
لقد علم الأحزاب حـين تـألَّـبـوا |
|
علينـا ورامـوا دينـنـا مـا نـوادع |
أضاميم من قيس بن عيلان أصفقت |
|
وخندف لم يدروا بـمـا هـو واقـع |
يذودوننا عـن دينـنـا ونـذودهـم |
|
عن الكفر والرحمـن راء وسـامـع |
إذا غايظونا في مقـام أعـانـنـا |
|
على غيظهم نصر من الـلـه واسـع |
وذلك حفظ الله فينـا وفـضـلـه |
|
علينا ومن لم يحفـظ الـلـهُ ضـائع |
هدانا لدين الحق واخـتـاره لـنـا |
|
ولله فوق الـصـانـعـين صـنـائع |
قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له . قال ابن إسحاق : وقال كعب بن مالك في يوم الخندق :
ألا أبلغ قريشا أن سلـعـا |
|
وما بين العُريض إلى الصماد |
نُواضح في الحروب مدرَّبات |
|
وخوص ثُقِّبت من عهـد عـاد |
رواكد يزخر المرار فـيهـا |
|
فليست بالجمـام ولا الـثـمـاد |
كأن الغاب والبرديَّ فـيهـا |
|
أجش إذا تبقَّـع لـلـحـصـاد |
ولم نجعل تجارتنا اشتراء الْ |
|
حمـير لأرض دوس أو مـراد |
بلاد لم تُثـر إلا لـكـيمـا |
|
نجالد إن نشِطـتـم لـلـجـلاد |
أثرنا سكة الأنبـاط فـيهـا |
|
فلم تر مثلهـا جـلـهـات واد |
قصرنا كل ذي حضر وطول |
|
على الغايات مقـتـدر جـواد |
أجيبونا إلى ما نجـتـديكـم |
|
من القول المـبـين والـسـداد |
وإلا فاصبروا لـجـلاد يوم |
|
لكم منا إلى شـطـر الـمـذاد |
نصبحكم بكل أخي حـروب |
|
وكل مطهَّم سـلـس الـقـياد |
وكل طِمرَّة خفق حشـاهـا |
|
تدف دفيف صفراء الـجـراد |
وكل مقلَّص الآراب نـهـد |
|
تميم الخلق من أُخْـر وهـادي |
خيول لا تُضاع إذا أُضيعـت |
|
خيول الناس في السنة الجمـاد |
ينازعن الأعنة مصـغـيات |
|
إذا نادى إلى الفزع المـنـادي |
إذا قالت لنا النذر استـعـدوا |
|
توكلنا عـلـى رب الـعـبـاد |
وقلنا لن يفرج ما لـقـينـا |
|
سوى ضرب القوانس والجهـاد |
فلم تر عصبة فيمن لقـينـا |
|
من الأقوام مـن قـار وبـادي |
أشد بسـالة مـنـا إذا مـا |
|
أردنـاه وألـين فـي الــوداد |
إذا ما نحن أشرجنا علـيهـا |
|
جياد الجُدْل في الأُرَب الشـداد |
قذفنا في السوابغ كل صقـر |
|
كريم غير معتـلـث الـزنـاد |
أشم كانـه أسـد عـبـوس |
|
غداة بدا ببطن الجـزع غـادي |
يغشّي هامة البطل المذكَّـى |
|
صبيَّ السيف مسترخي النجـاد |
لنظهر دينك الـلـهـم إنـا |
|
بكفك فاهدنا سـبـل الـرشـاد |
قال ابن هشام بيته :
قصرنا كل ذي حُضْر وطَول |
|
|
والبيت الذي يتلوه ، والبيت الثالث منه ، والبيت الرابع منه ، وبيته :
أشم كأنه أسد عبوس |
|
|
والبيت الذي يتلوه ، عن أبي زيد الأنصاري .
قال ابن إسحاق : وقال مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح ، يبكي عمرو بن عبد ود ، ويذكر قتل علي بن أبي طالب إياه :
عمرو بن عبد كان أول فارس |
|
جزع المذاد وكان فـارس يلـيل |
سمح الخلائق ماجد ذو مـرة |
|
يبغي القتال بشـكة لـم ينـكـل |
و لقد علمتم حين ولوا عنكـم |
|
أن ابن عبد فيهـم لـم يعـجـل |
حتى تكنَّفه الكماة وكـلـهـم |
|
يبغي مقاتله وليس بمـؤتـلـي |
ولقد تكنَّفت الأسنة فـارسـا |
|
بجنوب سلع غير نكـس أمـيل |
تسل النزال عليّ فارس غالب |
|
بجنوب سلع ، ليتـه لـم ينـزل |
فاذهب عليّ فما ظفرت بمثله |
|
فخرا ولا لاقيت مثل المعضـل |
نفسي الفداء لفارس من غالب |
|
لاقى حمام الموت لم يتحلـحـل |
أعني الذي جزع المذاد بمهره |
|
طلبا لثأر معـاشـر لـم يخـذل |
ما أنب به مسافع الفرسان أصحاب عمرو بن عبد ود وقال مسافع أيضاً يؤنب فرسا عمرو الذين كانوا معه ، فأجلوا عنه وتركوه :
عمرو بن عبد والجياد يقودهـا |
|
خيل تقـاد لـه وخـيل تـنـعـل |
أجلت فوارسه وغادر رهطـه |
|
ركنا عظيمـا كـان فـيهـا أول |
عجبا وإن أعجب فقد أبصرتـه |
|
مهما تسوم علي عـمـرا ينـزل |
لا تبعدن فقد أصبت بقـتـلـه |
|
ولقيت قبل الموت أمـرا يثـقـل |
وهبيرة المسلوب ولى مـدبـرا |
|
عند القتال مخـافة أن يقـتـلـوا |
وضرار كأن البأس منه محضرا |
|
ولى كما ولـى الـلـئيم الأعـزل |
قال ابن هشام : وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له . وقوله : ( عمرا ينزل ) عن غير ابن إسحاق .
قال ابن إسحاق : وقال هبيرة بن أبي وهب يعتذر من فراره ، ويبكي عمرا ، ويذكر قتل علي إياه :
لعمري ما وليت ظهري محمدا |
|
وأصحابه جبنا ولا خيفة القـتـل |
ولكنني قلبت أمري فلـم أجـد |
|
لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلـي |
وقفت فلما لم أجد لي مقـدمـا |
|
صدرت كضرغام هزبر أبي شبل |
ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد |
|
مكرا وقدما كان ذلك من فعـلـي |
فلا تبعدن يا عمرو حيا وهالكـا |
|
وحق لحسن المدح مثلك من مثلي |
ولا تبعدن يا عمرو حيا وهالكـا |
|
فقد بنت محمود الثنا ماجد الأصـل |
فمن لطراد الخيل تقدع بالقـنـا |
|
وللفخر يوما عند قرقرة الـبـزل |
هنالك لو كان ابن عبد لزارهـا |
|
وفرجها حقا فتى غير مـا وغـل |
فعنك علي لا أرى مثل موقـف |
|
وقفت على نجد المقدم كالفـحـل |
فما ظفرت كفاك فخرا بمثلـه |
|
أمنت به ما عشت من زلة النعـل |
ما قاله هبيرة في رثاء عمرو أيضاً وقال هبيرة بن أبي وهب يبكي عمرو بن عبد ود ، ويذكر قتل علي إياه :
لقد علمت عليا لؤي بن غالب |
|
لفارسها عمرو إذا نـاب نـائب |
لفارسها عمرو إذا ما يسومـه |
|
علي وإن الليث لا بـد طـالـب |
عشية يدعـوه عـلـي وإنـه |
|
لفارسها إذ خام عنه الـكـتـائب |
فيا لهف نفسي إن عمرا تركته |
|
بيثرب لا زالت هناك المصـائب |
وقال حسَّان بن ثابت يفتخر بقتل عمرو بن عبد ود :
بقيتكم عمرو أبحناه بالقنـا |
|
بيثرب نحمي والحماة قـلـيل |
ونحن قتلناكم بكل مهـنـد |
|
ونحن ولاة الحرب حين نصول |
ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت |
|
معاشركم في الهالكين تجـول |
قال ابن هشام : وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها لحسَّان . قال ابن إسحاق : وقال حسَّان بن ثابت أيضاً في شأن عمرو بن عبد ود :
أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغي |
|
بجنوب يثرب ثـأره لـم ينـظـر |
فلقد وجدت سيوفنا مشـهـورة |
|
ولقد وجدت جيادنا لـم تـقـصـر |
ولقد لقيت غداة بـدر عـصـبة |
|
ضربوك ضربا غير ضرب الحسر |
أصبحت لا تدعى ليوم عظـيمة |
|
يا عمرو أو لجسيم أمر مـنـكـر |
قال ابن هشام : وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها لحسَّان . قال ابن إسحاق : وقال حسَّان بن ثابت أيضاً:
الا أبلغ أبا هـدم رسـولا |
|
مغلغلة تخب بها المـطـي |
أكنت وليكم في كل كـره |
|
وغيري في الرخاء هو الولي |
و منكم شاهد ولقد رآنـي |
|
رفعت له كما احتمل الصبي |
قال ابن هشام : وتروى هذه الأبيات لربيعة بن أمية الديلي ، ويروى فيها آخرها :
كببت الخزرجي على يديه |
|
وكان شفاء نفسي الخزرجي |
وتروى أيضاً لأبي أسامة الجشمي .
قال ابن إسحاق : وقال حسَّان بن ثابت في يوم بن قريظة يبكي سعد بن معاذ ، ويذكر حكمه فيهم:
لقد سجمت من دمع عينـي عـبـرة |
|
وحق لعيني أن تفيض عـلـى سـعـد |
قتيل ثوى في معرك فـجـعـت بـه |
|
عيون ذواري الـدمـع دائمة الـوجــد |
على ملة الـرحـمـن وارث جـنة |
|
مع الشهـداء وفـدهـا أكـرم الـوفـد |
فإن تك قد ودعتـنـا وتـركـتـنـا |
|
وأمسيت في غبراء مظلـمة الـلـحـد |
فأنت الذي يا سعد أبت بـمـشـهـد |
|
كريم وأثواب الـمـكـارم والـحـمـد |
بحكمك في حـيي قـريظة بـالـذي |
|
قضى الله فيهم ما قضيت علـى عـمـد |
فوافق حكم الله حـكـمـك فـيهـمُ |
|
ولم تعف إذ ذكرت ما كان مـن عـهـد |
فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى |
|
شروا هذه الدنيا بجنـاتـهـا الـخـلـد |
فنعم مصير الـصـادقـين إذا دعـوا |
|
إلى الله يوما لـلـوجـاهة والـقـصـد |
وقال حسَّان بن ثابت أيضاً ، يبكي سعد بن معاذ ، ورجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهداء ، ويذكرهم بما كان فيهم من الخير :
ألا يا لقومي هل لـمـا حُـمّ دافـع |
|
و هل ما مضى من صالح العيش راجع |
|||
تذكرت عصرا قد مضى فتهافتـت |
|
بنات الحشى وانهل منـي الـمـدامـع |
|||
صبـابة وجـد ذكـرتـنـي أحـبة |
|
وقتلى مضى فيهـا طـفـيل ورافـع |
|||
وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت |
|
منازلهم فالأرض مـنـهـم بـلاقـع |
|||
وفوا يوم بدر للرسول و فوقهم |
|
ظلال المنايا والسيوف اللوامـع |
|
||
دعا فأجابوه بحق وكـلـهـم |
|
مطيع له في كل أمر وسـامـع |
|
||
فما نكلوا حتى تولوا جمـاعة |
|
ولا يقطع الآجال إلا المضـارع |
|
||
لأنهم يرجون منـه شـفـاعة |
|
إذا لم يكن إلا النبـيون شـافـع |
|
||
فذلك يا خير العبـاد بـلاؤنـا |
|
إجابتنا للـه والـمـوت نـاقـع |
|
||
لنا القدم الأولى إليك وخلفنـا |
|
لأوّلنا في مـلة الـلـه تـابـع |
|
||
ونعلم أن الملك لـلـه وحـده |
|
وأن قضاء الـلـه لا بـد واقـع |
|
||
وقال حسَّان بن ثابت أيضاً في يوم بني قريظة :
لقد لقيت قريظة ما سـآهـا |
|
وما وجدت لذل مـن نـصـير |
أصابهـم بـلاء كـان فـيه |
|
سوى ما قد أصاب بني النضـير |
غداة أتاهـم يهـوي إلـيهـم |
|
رسول الله كالقمـر الـمـنـير |
له خيل مجـنَّـبة تَـعـادَى |
|
بفرسان عليها كـالـصـقـور |
تركناهم وما ظفروا بشـيء |
|
دماؤهمُ علـيهـم كـالـغـدير |
فهم صرعى تحوم الطير فيهم |
|
كذاك يُدان ذو العند الـفَـجـور |
فأنذرْ مثلها نصحا قـريشـا |
|
من الرحمن إن قبلـت نـذيري |
وقال حسَّان بن ثابت في بني قريظة
لقد لقيت قريظة ما سآهـا |
|
وحل بحصـنـهـا ذل ذلـيل |
وسعد كان أنذرهم بنـصـح |
|
بأن إلـهـكـم رب جـلـيل |
فما برحوا بنقص العهد حتى |
|
فَلاهم في بلادهمُ الـرسـول |
أحاط بحصنهم منا صفـوف |
|
له من حَرّ وقعتهـم صـلـيل |
وقال حسَّان بن ثابت أيضاً في يوم بني قريظة : تفاقد معشر نصروا قريشا وليس لهم ببلدتهم نصير
هم أوتوا الكتاب فضيعوه |
|
وهم عمي من التوراة بـور |
كفرتم بالقرآن وقد أتيتـم |
|
بتصديق الذي قال الـنـذير |
فهان على سراة بني لؤي |
|
حريق بالبُويرة مستـطـير |
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ، فقال :
أدام الله ذلك من صنـيع |
|
وحرّق في طرائقها السعير |
ستعلم أينا منها بـنُـزه |
|
وتعلم أي أرضينا تـضـير |
فلو كان النخيل بها ركابا |
|
لقالوا لا مُقام لكم فسـيروا |
وأجابه جبل بن جوال الثعلبي أيضاً ، وبكى النضير وقريظة ، فقال :
ألا يا سعد سعد بني معـاذ |
|
لما لقيت قريظة والنـضـير |
لعمرك إن سعد بني معاذ |
|
غداة تحمَّلوا لهو الصـبـور |
فأما الخزرجي أبو حُباب |
|
فقال لقينقـاع لا تـسـيروا |
وبُدّلت الموالي من حضير |
|
أسيد والـدوائر قـد تـدور |
وأقفرت البويرة من سلام |
|
وسعية وابن أخطب فهي بور |
وقد كانوا ببلدتهم ثـقـالا |
|
كما ثقلت بمَيْطان الصخـور |
فإن يهلك أبو حكم سـلام |
|
فلا رثُّ السلاح ولا دَثُـور |
وكل الكاهنَيْن وكان فيهـم |
|
مع اللين الخضارمة الصقور |
وجدنا المجد قد ثبتوا عليه |
|
بمجد لا تغـيِّبـه الـبـدور |
أقيموا يا سراة الأوس فيها |
|
كأنكم من المـخـزاة عـور |
تركتم قدركم لا شيء فيها |
|
وقدر القوم حامـية تـفـور |
قال ابن إسحاق : ولما انقضى شأن الخندق ، وأمر بني قريظة ، وكان سلام بن أبي الحقيق ، وهو أبو رافع فيمن حزّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف ، في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه ، استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق ، وهو بخيبر ، فأذن لهم .قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبدالله بن كعب بن مالك ، قال : وكان مما صنع الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار ، والأوس والخزرج ، كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين ، لا تصنع الأوس شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَناء إلا قالت الخزرج : والله لا تذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام . قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها ؛ وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك . ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج : والله لا تذهبون بها فضلا علينا أبدا ؛ قال : فتذاكروا : مَن رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف ؟ فذكروا ابن أبي الحقيق ، وهو بخيبر ؛ فاستأذنوا رسول الله صلى الله في قتله ، فأذن لهم .
فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر : عبدالله بن عتيك ، ومسعود بن سنان ، وعبدالله بن أنيس ، وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، وخزاعي بن أسود ، حليف لهم من أسلم . فخرجوا وأمَّر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عَتيك ، ونهاهم عن أن يقتلوا وليدا أو امرأة ، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر ، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا ، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله . قال : وكان في عِلِّية له إليها عجلة ، قال : فأسندوا فيها ، حتى قاموا على بابه ، فاستأذنوا عليه ، فخرجت إليهم امرأته ، فقالت : من أنتم ؟ قالوا : ناس من العرب نلتمس الميرة . قالت : ذاكم صاحبكم ، فادخلوا عليه؛ قال : فلما دخلنا عليه ، أغلقنا علينا وعليها الحجرة ، تخوفا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه ، قالت : فصاحت امرأته ، فنوهت بنا وابتدرناه ، وهو على فراشه بأسيافنا ، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة . قال : ولما صاحت بنا امرأته ، جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ، ثم ذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده ، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل . قال : فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبدالله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه ، وهو يقول : قَطْني قطني : أي حسبي حسبي . قال : وخرجنا ، وكان عبدالله بن عتيك رجلا سيئ البصر ، قال : فوقع من الدرجة فوثِئت يده وثئا شديدا - ويقال : رجله ، فيما قال ابن هشام - وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم ، فندخل فيه. قال : فأوقدوا النيران ، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا ، قال : حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم ، فاكتنفوه وهو يقضي بينهم . قال : فقلنا : كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات ؟ قال : فقال رجل منا : أنا أذهب فأنظر لكم ، فانطلق حتى دخل في الناس . قال : فوجدت امرأته ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه ، وتحدثهم وتقول : أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ، ثم أكذبت نفسي وقلت : أنّى ابن عتيك بهذه البلاد ؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت : فاظ وإله يهود ؛ فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها . قال : ثم جاءنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله ، واختلفنا عنده في قتله ، كلنا يدعيه . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاتوا أسيافكم ؛ قال : فجئناه بها ، فنظر إليها فقال لسيف عبدالله بن أنيس : هذا قتله ، أرى فيه أثر الطعام .
قال ابن إسحاق : فقال حسَّان بن ثابت وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف ، وقتل سلاّم بن أبي الحقيق :
لله در عـصـابة لاقـيتـهـم |
|
يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف |
يسرون بالبِيض الخفاف إليكـم |
|
مرحا كأسد في عرين مـغـرف |
حتى أتوكم في محل بـلادكـم |
|
فسقوكمُ حتـفـا بـبـيض ذُفَّـفِ |
مستبصرين لنصر دين نبـيهـم |
|
مستصغرين لكل أمر مجـحـف |
قال ابن هشام : قوله : ( ذُفَّف ) عن غير ابن إسحاق . إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي ، عن حبيب بن أبي أوس الثقفي ، قال : حدثني عمرو بن العاص من فيه ، قال : لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش ، كانوا يرون رأيي ، ويسمعون مني ، فقلت لهم : تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا ، وإني قد رأيت أمرا ، فما ترون فيه ؟ قالوا : وماذا رأيت ؟ قال : رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده ، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي ، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد ، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا ، فلن يأتينا منهم إلا خير ، قالوا : إن هذا الرأي ، قلت : فاجمعوا لنا ما نهديه له ، وكان أحب ما يُهدى إليه من أرضنا الأدم. فجمعنا له أدما كثيرا ، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه .
فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه . قال : فدخل عليه ثم خرج من عنده . قال : فقلت لأصحابي : هذا عمرو ابن أمية الضمري ، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه ، فضربت عنقه ، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد . قال : فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع ، فقال : مرحبا بصديقي ، أهديت إلي من بلادك شيئا ؟ قال : قلت : نعم ، أيها الملك ، قد أهديت إليك أدما كثيرا؛ قال : ثم قربته إليه ، فأعجبه واشتهاه ، ثم قلت له : أيها الملك ، إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا ، فأعطينه لأقتله ، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا ؛ قال : فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره ، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه؛ ثم قلت له: أيها الملك ، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه ؛ قال : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله ! قال : قلت : أيها الملك ، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه ، فإنه والله لعلى الحق ، وليظهرنَّ على من خالفه ، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ؛ قال : قلت : أفتُبايعني له على الإسلام ؟ قال : نعم ، فبسط يده ، فبايعته على الإسلام ، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه ، وكتمت أصحابي إسلامي .
ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم ، فلقيت خالد بن الوليد ، وذلك قبيل الفتح ، وهو مقبل من مكة ؛ فقلت : أين يا أبا سليمان ؟ قال : والله لقد استقام المنسِم ، وإن الرجل لنبي ، أذهب والله فأسلم ، فحتى متى ؟ قال : قلت : والله ما جئت إلا لأسلم . قال : فقدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ، ثم دنوت ، فقلت : يا رسول الله ، إني أبايعك على أن يُغفر لي ما تقدم من ذنبي ، ولا أذكر ما تأخر ؛ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمرو ، بايع ، فإن الإسلام يجَبُّ ما كان قبله ، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها ؛ قال : فبايعته ، ثم انصرفت . قال ابن هشام : ويقال : فإن الإسلام يحتُّ ما كان قبله ، وإن الهجرة تحتُّ ما كان قبلها .
قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم : أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، كان معهما ، حين أسلما .
قال ابن إسحاق : فقال ابن الزِّبَعْرَى السهمي :
أنشد عثمان بن طلحة حلفنا |
|
ومُلقَى نعال القوم عند المُقبَّـلِ |
وما عقد الآباء من كل حلفه |
|
وما خالد من مثلها بمحـلَّـلِ |
أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي |
|
وما يُبتغى من مجد بيت مؤثَّلِ |
فلا تأمننَّ خالدا بعد هـذه |
|
وعثمان جاء بالدُّهيم المُعضَّلِ |
وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة وصدر ذي الحجة ، وولي تلك الحجة المشركون .
قال ابن إسحاق : حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام ، قال : حدثني زيد بن عبدالله البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي ، قال : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع ، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح قريظة ، إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع : خبيب بن عدي وأصحابه ، وأظهر أنه يريد الشام ، ليصيب من القوم غِرَّة .
فخرج من المدينة صلى الله عليه وسلم ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، فيما قال ابن هشام .
قال ابن إسحاق : فسلك على غُراب ، جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام ، ثم على محيص ، ثم على البتراء ، ثم صفَّق ذات اليسار ، فخرج على بِيْن ، ثم على صخيرات اليمام ، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة ، فأغذّ السير سريعا ، حتى نزل على غُرّان ، و هي منازل بني لحيان ، وغران واد بين أمج وعسفان ، إلى بلد يقال له : ساية ، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال . فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخطأه من غرتهم ما أراد ، قال : لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة ، فخرج في مئتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان ، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كُراع الغميم ، ثم كر وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا .
فكان جابر بن عبدالله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه راجعا : آبيون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون ، أعوذ بالله من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والمال .
والحديث في غزوة بني لحيان ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، وعبدالله ابن أبي بكر ، عن عبدالله بن كعب بن مالك ؛ فقال كعب بن مالك في غزوة بني لحيان :
لو انَّ بني لحيان كانوا تناظروا |
|
لقوا عُصبا في دارهم ذات مَصْدَقِ |
لقوا سَرَعانا يملأ السَّرْب روعه |
|
أمام طَحُون كالمـجـرة فَـيْلـقِ |
ولكنهم كانوا وِبارا تتَّـبـعـت |
|
شعاب حجاز غير ذي مُتـنـفَّـق |