غزوة ذي قرد
غارة ابن حصن على لقاح الرسول

ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلم يُقم بها إلا ليالي قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة ، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له ، فقتلوا الرجل ، واحتملوا المرأة في اللِّقاح ‏.‏

شجاعة ابن الأكوع في هذه الغزوة

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر ، ومن لا أتهم ، عن عبدالله بن كعب بن مالك ، كل قد حدث في غزوة ذي قَرَد بعض الحديث ‏:‏ أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي ، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله ، ومعه غلام لطلحة بن عبدالله معه فرس له يقوده ، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم ، فاشرف في ناحية سلع ، ثم صرخ ‏:‏ واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم ، و كان مثل السبع حتى لحق القوم ، فجعل يردهم بالنبل ، ويقول إذا رمى ‏:‏ خذها وأنا ابن الأكوع ، اليوم يوم الرُّضَّع ، فإذا وُجِّهت الخيل نحوه انطلق هاربا ، ثم عارضهم ، فإذا أمكنه الرمي رمى ، ثم قال ‏:‏ خذها وأنا ابن الأكوع ، اليوم يوم الرضع ، قال ‏:‏ فيقول قائلهم ‏:‏ أُوَيْكعنا هو أول النهار ‏.‏

صراخ الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ‏:‏ وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صياحُ ابن الأكوع ، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع ، فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
تسابق الفرسان إليه

وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان ‏:‏ المقداد بن عمرو ، وهو الذي يقال له ‏:‏ المقداد بن الأسود ، حليف بني زهرة ؛ ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار ، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء ، أحد بني عبدالأشهل؛ وسعد بن زيد ، أحد بني كعب بن عبدالأشهل ؛ وأسيد بن ظُهير ، أخو بني حارثة بن الحارث ، يشك فيه؛ وعُكَّاشة بن محصن ، أخو بني أسد بني خزيمة ؛ ومحُرز بن نضلة ، أخو بني أسد بن خزيمة؛ وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، أخو بني سلمة ؛ وأبو عياش ، وهو عبيد بن زيد بن الصامت ، أخو بني زريق‏.‏ فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد ، فيما بلغني ، ثم قال‏:‏ اخرج في طلب القوم ، حتى ألحقك في الناس ‏.‏

الرسول و نصيحته لأبي عياش بترك فرسه

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني عن رجال من بني زريق ، لأبي عياش ‏:‏ يا أبا عياش ، لو أعطيت هذا الفرس رجلا ، هو أفرس منك فلحق بالقوم ‏؟‏ قال أبو عياش ‏:‏ فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، أنا أفرس الناس ، ثم ضربت الفرس ، فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني ، فعجبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ لو أعطيته أفرس منك ، وأنا أقول ‏:‏ أنا أفرس الناس ‏.‏ فزعم رجال من بني زريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص ، أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة ، وكان ثامنا ، وبعض الناس يعد سلمة بن عمرو بن الأكوع أحد الثمانية ، ويطرح أسيد بن ظهير ، أخا بني حارثة ، والله أعلم أي ذلك كان ‏.‏ ولم يكن سلمة يومئذ فارسا، وقد كان أول من لحق بالقوم على رجليه ‏.‏ فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا ‏.‏

سبق محرز بن نضلة إلى القوم ومقتله

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة ‏:‏ أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة ، أخو بني أسد بن خزيمة - وكان يقال لمحرز ‏:‏ الأخرم ؛ ويقال له ‏:‏ قُمير - وأن الفزع لما كان جال فرس لمحمود بن مسلمة في الحائط ، حين سمع صاهلة الخيل ، وكان فرسا صنيعا جامّا ، فقال نساء من نساء بني عبدالأشهل ، حين رأين الفرس يجول في الحائط بجذع نخل هو مربوط فيه ‏:‏ يا قمير ، هل لك في أن تركب هذا الفرس ‏؟‏ فإنه كما ترى ، ثم تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم، فأعطيناه إياه ‏.‏ فخرج عليه ، فلم يلبث أن بذّ الخيل بجمامه ، حتى أدرك القوم ، فوقف لهم بين أيديهم ، ثم قال ‏:‏ قفوا يا معشر بني اللَّكيعة حتى يلحق بكم مَن وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار ‏.‏ قال ‏:‏ وحمل عليه رجل منهم فقتله ، وجال الفرس ، فلم يقدر عليه حتى وقف على آرِيِّه من بني عبدالأشهل ، فلم يُقتل من المسلمين غيره ‏.‏

مقتل وقاص بن مجزز

قال ابن هشام ‏:‏ وقتل يومئذ من المسلمين مع محرز ، وقَّاص بن مجُزّز المُدلجي ، فيما ذكر غير واحد من أهل العلم ‏.‏

أسماء أفراس المسلمين

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان اسم فرس محمود ‏:‏ ذا اللمَّة ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وكان اسم فرس سعد بن زيد ‏:‏ لاحق ؛ واسم فرس المقداد ‏:‏ بَعْزَجة ؛ ويقال ؛ سبحة ، واسم فرس عُكاشة بن محصن ‏:‏ ذو اللَّمة ؛ واسم فرس أبي قتادة ‏:‏ حَزْوة ؛ وفرس عباد بن بشر ‏:‏ لَمَّاع ، وفرس أسيد بن ظهير ‏:‏ مسنون ؛ وفرس أبي عياش ‏:‏ جُلوة ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بعض من لا أتهم عن عبدالله بن كعب بن مالك ‏:‏ أن مجُزّزا إنما كان على فرس لعكاشة بن محصن ، يقال له ‏:‏ الجناح ، فقُتل مجزز واستُلبت الجناح ‏.‏

القتلى من المشركين

ولما تلاحقت الخيل قَتل أبو قتادة الحارث بن ربعي ، أخو بني سلمة ، حبيب بن عيينة بن حصن ، وغشَّاه برده ، ثم لحق بالناس ‏.‏ وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين ‏.‏

استعماله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ‏.‏قال ابن إسحاق ‏:‏ فإذا حبيب مسجَّى ببرد أبي قتادة، فاسترجع الناس وقالوا ‏:‏ قتل أبو قتادة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ليس بأبي قتادة ، ولكنه قتيل لأبي قتادة ، وضع عليه برده ، لتعرفوا أنه صاحبه ‏.‏ وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا وابنه عمرو بن أوبار ، وهما على بعير واحد ، فانتظمهما بالرمح ، فقتلهما جميعا ، واستنفذوا بعض اللقاح ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد ، وتلاحق به الناس ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به ، وأقام عليه يوما وليلة ؛ وقال له سلمة بن عمرو بن الأكوع ‏:‏ يا رسول الله ، لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح ، وأخذت بأعناق القوم ‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني ‏:‏ إنهم الآن ليُغْبَقُون في غطفان ‏.‏

تقسيم الفيء بين المسلمين

فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه في كل مائة رجل جزورا ، وأقاموا عليها ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا حتى قدم المدينة ‏.‏

لا نذر في معصية

وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر ، فلما فرغت ، قالت ‏:‏ يا رسول الله ، إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها ؛ قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ‏:‏ بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها ‏!‏ إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين ، إنما هي ناقة من إبلي ، فارجعي إلى أهلك على بركة الله ‏.‏ والحديث عن امرأة الغفاري وما قالت ، وما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أبي الزبير المكي ، عن الحسن بن أبي الحسن البصري ‏:‏

ما قاله حسَّان في غزوة ذي قرد

وكان مما قيل من الشعر في يوم ذي قرد قول حسَّان بن ثابت ‏:‏

لولا الذي لاقت ومس نسورها

 

بجنوب ساية أمسِ في التَّـقْـوادِ

لَلَقِينكم يحملن كـل مـدجـج

 

حامي الحقيقة مـاجـد الأجـداد

ولَسرَّ أولاد اللقـيطة أنـنـا

 

سِلْم غداة فـوارس الـمـقـداد

كنا ثمانية وكانوا جـحـفـلا

 

لجبا فشُكُّوا بـالـرمـاح بَـداد

كنا من القوم الذين يلونـهـم

 

ويُقدّمون عـنـان كـل جـواد

كلا ورب الراقصات إلى منى

 

يقطعن عرض مخارم الأطـواد

حتى نُبيل الخيل في عرصاتكم

 

ونؤوب بالـمـلـكـات والأولاد

رَهْوا بكل مقلَّص وطـمـرَّة

 

في كل معترك عطفـن و وادي

أفنى دوابرها ولاح متونـهـا

 

يوم تُـقـاد بـه ويوم طــراد

فكذاك إن جيادنا مـلـبـونة

 

والحرب مشعـلة بـريح غـواد

وسيوفنا بيض الحدائد تجتلـي

 

جُنَنَ الحديد وهامة الـمـرتـاد

أخذ الإله عليهمُ لـحـرامـه

 

ولعزة الـرحـمـن بـالأسـداد

كانوا بدار ناعمين فـبُـدّلـوا

 

أيام ذي قـرد وجـوه عـبــاد

غضب سعد على حسان و محاولة حسان استرضاءه

قال ابن هشام ‏:‏ فلما قالها حسَّان غضب عليه سعد بن زيد ، وحلف أن لا يكلمه أبدا ؛ قال ‏:‏ انطلق إلى خيلي وفوارسي فجعلها للمقداد ‏!‏ فاعتذر إليه حسَّان وقال ‏:‏ والله ما ذاك أردت ، ولكن الروي وافق اسم المقداد ؛ وقال أبياتا يُرضي بها سعدا ‏:‏

إذا أردتم الأشد الجَلْـدا

 

أو ذا غناء فعليكم سعـدا

سعد بن زيد لا يُهدّ هَدّا

 

 

فلم يقبل منه سعد ولم يُغْن شيئا ‏.‏

شعر آخر لحسان في يوم ذي قرد

وقال حسَّان بن ثابت في يوم ذي قرد ‏:‏

أظنَّ عـيينة إذ زارهـا

 

بأن سوف يهدم فيها قصورا

فأُكذبتَ ما كنت صدَّقتـه

 

وقلتم سنغنم أمـرا كـبـيرا

فعفت المدينة إذ زرتهـا

 

وآنست للأسد فـيهـا زئيرا

فولوا سراعا كشد النعـام

 

ولم يكشفوا عن ملطٍّ حصيرا

أمير علينا رسول المليك

 

أحبب بذاك إلـينـا أمـيرا

رسول نصدق ما جـاءه

 

ويتلو كتابا مضيئا مـنـيرا

ما قاله كعب في يوم ذي قرد

وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد للفوارس ‏:‏

أتحسب أولاد اللـقـيطة أنـنـا

 

على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس

وإنا أناس لا نرى القـتـل سـبة

 

ولا ننثني عند الرماح المـداعـس

وإنا لنقري الضيف من قمع الذرا

 

ونضرب رأس الأبلخ المتـشـاوس

نردّ كماة المعلمين إذا انتـخـوا

 

بضرب يسلِّي نخوة المتـقـاعـس

بكل فتى حامي الحقيقة مـاجـد

 

كريم كسرحان الغضاة مـخـالـس

يذودون عن أحسابهم وتـلادهـم

 

ببيض تقد الهام تحت الـقـوانـس

فسائل بني بدر إذا ما لقـيتـهـم

 

بما فعل الإخوان يوم الـتـمـارس

إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتـم

 

ولا تكتموا أخباركم في المجـالـس

وقولوا زللنا عن مخالب خـادر

 

به وَحَر في الصدر ما لم يمـارس

قال ابن هشام ‏:‏ أنشدني بيته ‏:‏ ‏(‏ وإنا لنقري الضيف ‏)‏ أبو زيد ‏.‏

شعر شداد الجشمي لعيينة

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال شداد بن عارض الجشمي ، في يوم ذي قرد ‏:‏ لعيينة بن حصن ، وكان عيينة بن حصن يكنى بأبي مالك ‏:‏

فهلا كررت أبا مـالـك

 

وخيلك مـدبـرة تـقـتـل

ذكرت الإياب إلى عسجر

 

وهيهات قد بعد المـقـفـل

وطمنت نفسـك ذا مـيعة

 

مِسحّ الفـضـاء إذا يرسـل

إذا قبَّضتْه إليك الـشـمـا

 

ل جاش كما اضطرم المرجل

فلما عرفتـم عـبـاد الإل

 

ه لـم ينـظـر الآخـر الأول

عرفتم فوارس قد عـودوا

 

طراد الكماة إذا أسـهـلـوا

إذا طردوا الخيل تشقى بهم

 

فضاحا وإن يُطردوا ينزلـوا

فيعتصموا في سواء المُقا

 

مِ بالبيض أخلصها الصيقـل

غزوة بني المصطلق في شعبان سنة ست

وقتها

قال ابن إسحاق ‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا ، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة ، في شعبان سنة ست ‏.‏

استعمال أبي ذر على المدينة

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري ؛ ويقال ‏:‏ نميلة ابن عبدالله الليثي ‏.‏

سبب غزو الرسول لهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق ، قالوا ‏:‏ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم ، حتى لقيهم على ماء لهم ، يقال له ‏:‏ المريسيع ، من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس واقتتلوا ، فهزم الله بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، ونفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم ، فأفاءهم عليه ‏.‏ استشهاد ابن صبابة خطأ وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر ، يقال له ‏:‏ هشام بن صبابة ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت ، وهو يرى أنه من العدو ، فقتله خطأ ‏.‏

ما وقع من الفتنة بين المهاجرين والأنصار

فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له ‏:‏ جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الجهني ‏:‏ يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه‏:‏ يا معشر المهاجرين ؛ فغضب عبدالله بن أبي بن سلول ، وعنده رهط من قومه فيهم ‏:‏ زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال ‏:‏ أوقد فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول ‏:‏ سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ‏.‏ثم أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم ‏:‏ هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمستكم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ‏.‏ فسمع ذلك زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال ‏:‏ مُرْ به عباد بن بشر فليقتله ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ‏!‏ لا ولكن أذن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس ‏.‏

نفاق ابن أبي

وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه ، فحلف بالله ‏:‏ ما قلت ما قال ، ولا تكلمت به - وكان في قومه شريفا عظيما - ، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه ‏:‏ يا رسول الله ، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حدبا على ابن أبي سلول ، ودفعا عنه ‏.‏

من أسباب نفاق ابن أبي

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ، ثم قال ‏:‏ يا نبي الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ، ما كنت تروح في مثلها ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أوما بلغك ما قال صاحبكم ‏؟‏ قال ‏:‏ و أي صاحب يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ عبدالله بن أبي ؛ قال ‏:‏ وما قال ‏؟‏ قال ‏:‏ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال ‏:‏ فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت ، وهو والله الذليل وأنت العزيز ؛ ثم قال ‏:‏ يا رسول الله ، ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا ‏.‏

انشغال الناس عن الفتنة

ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما ، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس ، من حديث عبدالله بن أبي ‏.‏

تنبؤ الرسول بموت رفاعة بن زيد

ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، وسلك الحجاز حتى نزل عل ماء بالجحاز فويق النقيع؛ يقال له ‏:‏ بقعاء ‏.‏ فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوفوها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا تخافوها ، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار ‏.‏ فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت ، أحد بني قينقاع ، وكان عظيما من عظماء يهود ، وكهفا للمنافقين ، مات في ذلك اليوم ‏.‏

ما نزل في ابن أبي من القرآن

ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على مثل أمره ، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ، ثم قال ‏:‏ هذا الذي أوفى الله بأذنه ‏.‏ وبلغ عبدالله بن عبدالله بن أبي الذي كان من أمر أبيه ‏.‏

موقف عبدالله الابن من أبيه
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ‏:‏ أن عبدالله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ يارسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتله فأقتل رجلا مؤمنا بكافر ، فأدخل النار ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ بل نترفق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا ‏.
‏تولي قوم ابن أبي مجازاته

وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب ، حين بلغه ذلك من شأنهم ‏:‏ كيف ترى يا عمر ؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله ، لأُرعدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ؛ قال عمر ‏:‏ قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري ‏.‏

مخادعة مقيس بن صبابة في الأخذ بثأر أخيه و شعره في ذلك

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلما ، فيما يُظهر ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، جئتك مسلما ، وجئتك أطلب دية أخي ، قتل خطأ ‏.‏ فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة ؛ فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ، ثم خرج إلى مكة مرتدا ؛ فقال في شعر يقوله ‏:‏

شفى النفس أن قد مات بالقاع مسندا

 

تضـرج ثـوبـيه دمـاء الأخــادع

وكانت هموم النفس من قبل قتلـه

 

تُلمّ فتحميني وطـاء الـمـضـاجـع

حللت به وتري وأدركت ثـؤرتـي

 

وكنـت إلـى الأوثـان أول راجـع

ثأرت به فهرا وحملت عـقـلـه

 

سراة بني النـجـار أربـاب فـارع

وقال مقيس بن صبابة أيضاً ‏:‏

جلَّلته ضربة باءت لها وشل

 

من ناقع الجوف يعلوه وينصرم

فقلت والموت تغشاه أسرّته

 

لا تأمنن بني بكر إذا ظلـمـوا

شعار المسلمين

قال ابن هشام ‏:‏ وكان شعار المسلمين يوم بني المصطلق ‏:‏ يا منصور ، أمِتْ أمت ‏.‏

قتلى بني المصطلق

قال ابن إسحاق ‏:‏ وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس ، وقتل علي ابن أبي طالب منهم رجلين ، مالكا وابنه ، وقتل عبدالرحمن بن عوف رجلا من فرسانهم ، يقال له ‏:‏ أحمر ، أو أحيمر ‏.‏

حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب منهم سبيا كثيرا ، فشا قسمه في المسلمين ؛ وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت ‏:‏ لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق ، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حلوة مُلاّحة ، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها ؛ قالت عائشة ‏:‏ فوالله ما هو إلا ان رأيتها على باب حجرتي فكرهتها ، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت ، فدخلت عليه ، فقالت ‏:‏ يا رسول الله ، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء ، ما لم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسي ، فجئتك أستعينك على كتابتي ؛ قال ‏:‏ فهل لك في خير من ذلك ‏؟‏ قالت ‏:‏ وما هو يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ أقضي عنك كتابتك و أتزوجك ؛ قالت ‏:‏ نعم يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ قد فعلت ‏.‏ قالت ‏:‏ وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار ، فقال الناس‏:‏ أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرسلوا ما بأيديهم ؛ قالت ‏:‏ فلقد أُعتق بتزوجيه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها ‏.قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث ، وكان بذات الجيش ، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة ، وأمره بالاحتفاظ بها ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؛ فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته ؛ فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء ، فرغب في بعيرين منها ، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق ، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال ‏:‏ يا محمد ، أصبتم ابنتي ، وهذا فداؤها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق ، في شعب كذا وكذا ‏؟‏ فقال الحارث ‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله ، فوالله ما اطلع على ذلك إلا الله ، فأسلم الحارث ، وأسلم معه ابنان له ، وناس من قومه ، وأرسل إلى البعيرين ، فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودُفعت إليه ابنته جويرية ، فأسلمت ، وحسن إسلامها ؛ فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وأصدقها أربعمائة درهم ‏.‏

الوليد بن عقبة و بنو المصطلق و ما نزل في ذلك من القرآن

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يزيد بن رومان ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوه ما قِبَلهم من صدقتهم ، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم ، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يغزوهم ، فبينا هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قِبَلنا من الصدقة ، فانشمر راجعا ، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقتله ، ووالله ما جئنا لذلك ؛ فأنزل الله تعالى فيه وفيهم ‏:‏ ‏ {(‏ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ‏.‏ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يُطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ‏)} ‏ ‏.‏ ‏.‏‏.‏ إلى آخر الآية ‏.‏ وقد أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك ، كما حدثني من لا أتهم عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها، حتى إذا كان قريبا من المدينة ، وكانت معه عائشة في سفره ذلك ، قال فيها أهل الإفك ما قالوا ‏.‏

خبر الإفك في غزوة بني المصطلق سنة ست

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثنا الزهري ، عن علقمة بن وقاص ، وعن سعيد بن جبير ، وعن عروة بن الزبير، وعن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، قال ‏:‏ كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، وبعض القوم كان أوعى له من بعض ، وقد جمعت لك الذي حدثني القوم ‏.‏ من كان يسافر معه صلى الله عليه و سلم من نسائه قال محمد بن إسحاق ‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عن عائشة، وعبدالله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبدالرحمن ، عن عائشة ، عن نفسها ، حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا ، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه ، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها ما سمع ، قالت ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ؛ فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه ، كما كان يصنع ، فخرج سهمي عليهن معه ، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

سقوط عقد عائشة وتخلفها للبحث عنه

قالت ‏:‏ وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العُلَق لم يهجهن اللحم فيثقلن ، وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون لي ويحملونني ، فيأخذون بأسفل الهودج ، فيرفعونه ، فيضعونه على ظهر البعير ، فيشدونه بحباله ، ثم يأخذون برأس البعير ، فينطلقون به ‏.‏قالت ‏:‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك ، وجه قافلا ، حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل ، فارتحل الناس ، وخرجت لبعض حاجتي ، وفي عنقي عقد لي، فيه جزع ظفار ، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري ، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي، فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلافي ، الذين كان يرحلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أني فيه ، كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدوه على البعير ، ولم يشكوا أني فيه ، ثم أخذوا برأس البعير ، فانطلقوا به ؛ فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس ‏.‏

صفوان بن المعطل يعثر على عائشة و يحتملها على بعيره

قالت ‏:‏ فتلففت بجلبابي ، ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتُقدت لرُجع إلي ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطَّل السلمي ، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم بيت مع الناس ، فرأى سوادي ، فأقبل حتى وقف علي ، وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال ‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏!‏ وأنا متلففة في ثيابي ؛ قال ‏:‏ ما خلَّفك يرحمك الله ‏؟‏ قالت ‏:‏ فما كلمته ، ثم قرب البعير ، فقال ‏:‏ اركبي ، واستأخر عني ‏.‏ قالت ‏:‏ فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا ، يطلب الناس ، فوالله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ، ونزل الناس ، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي ، فقال أهل الإفك ما قالوا ، فارتعج العسكر ، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك ‏.‏

مرضها وإعراضه عليه الصلاة و السلام عنها

ثم قدمنا المدينة ، فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ، ولا يبلغني من ذلك شيء ، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أبوي لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا ، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي ، كنت إذا اشتكيت رحمني ، ولطف بي ، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني - قال ابن هشام ‏:‏ وهي أم رومان ، واسمها زينب بنت عبد دهمان ، أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة - قال ‏:‏ كيف تِيكم ، لا يزيد على ذلك ‏.‏

انتقالها إلى بيت أبيها لتمريضها

قال ابن إسحاق ‏:‏ قالت ‏:‏ حتى وجدت في نفسي ، فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، حين رأيت ما رأيت من جفائه لي ‏:‏ لو أذنت لي ، فانتقلت إلى أمي ، فمرضتني ‏؟‏ قال ‏:‏ لا عليك ‏.‏ قالت ‏:‏ فانتقلت إلى أمي ، ولا علم لي بشيء مما كان ، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة ، وكنا قوما عربا ، لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم ، نعافها ونكرهها ، إنما كنا نذهب في فسح المدينة ، وإنما كانت النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن ‏.‏ فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مِسطح بنت أبي رهم بن المطلب ابن عبد مناف ، وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد ابن تيم ، خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ‏.‏ علمها بما قيل فيها قالت ‏:‏ فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها ؛ فقالت ‏:‏ تعس مسطح ‏!‏ ومسطح ‏:‏ لقب ، واسمه ‏:‏ عوف ؛ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا ؛ قالت ‏:‏ أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ‏؟‏ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ وما الخبر ‏؟‏ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك ، قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ أوقد كان هذا ‏؟‏ قالت ‏:‏ نعم والله لقد كان ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ، ورجعت ؛ فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي ؛ قالت‏:‏ وقلت لأمي ‏:‏ يغفر الله لك ، تحدث الناس بما تحدثوا به ، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا ‏!‏ قالت ‏:‏ أي بنية، خفِّضي عليك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء ، عند رجل يحبها ، لها ضرائر ، إلا كثَّرن وكثَّر الناس عليها ‏.‏  خطبته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن

قالت ‏:‏ وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال ‏:‏ أيها الناس ، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ، ويقولون عليهم غير الحق ، والله ما علمت منهم إلا خيرا ، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا ، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي‏.‏

من أشاع حديث الإفك

قالت ‏:‏ وكان كُبرْ ذلك عند عبدالله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش ، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن من نسائه امرأة تناصيني في المنزلة عنده غيرها ؛ فأما زينب فعصمها الله تعالى بدينها فلم تقل إلا خيرا ، وأما حمنة بنت جحش ، فأشاعت من ذلك ما أشاعت ، تُضادُّني لأختها ، فشقيت بذلك ‏.‏

ما اقترحه المأمون بعد خطبته صلى الله عليه وسلم

فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة ، قال أسيد بن حضير ‏:‏ يا رسول الله ، إن يكونوا من الأوس نكفكهم ، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج ، فمرنا بأمرك ، فوالله إنهم لأهل أن تُضرب أعناقهم ؛ قالت ‏:‏ فقام سعد بن عبادة ، وكان قبل ذلك يُرى رجلا صالحا ؛ فقال ‏:‏ كذبت لعمر الله ، لا نضرب أعناقهم ، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا ، فقال أسيد ‏:‏ كذبت لعمر الله ، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين ؛ قالت ‏:‏ وتساور الناس ، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر ‏.‏ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل علي ‏.‏

الرسول يستشير عليا و أسامة

قالت ‏:‏ فدعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، و أسامة بن زيد ، فاستشارهما ؛ فأما أسامة فأثنى علي خيرا وقاله ؛ ثم قال ‏:‏ يا رسول الله ، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا ، وهذا الكذب والباطل ؛ وأما علي فإنه قال ‏:‏ يا رسول الله ، إن النساء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فإنها ستصدقك ‏.‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بُريرة ليسألها ؛ قالت ‏:‏ فقام إليها علي بن أبي طالب ، فضربها ضربا شديدا ، ويقول ‏:‏ اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قالت ‏:‏ فتقول والله ما أعلم إلا خيرا ، وما كنت أعيب على عائشة شيئا ، إلا أني كنت أعجن عجيني ، فآمرها أن تحفظه ، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله ‏.‏ قالت ‏:‏ ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندي أبواي ، وعندي امرأة من الأنصار ، وأنا أبكي ، وهي تبكي معي ، فجلس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال ‏:‏ يا عائشة ، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس ، فاتقي الله ، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ؛ قالت ‏:‏ فوالله ما هو إلا أن قال لي ذلك ، فقلص دمعي ، حتى ما أحس منه شيئا ، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يتكلما ، قالت ‏:‏ وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي ، وأصغر شأنا من أن ينزل الله فيّ قرآنا يُقرأ به في المساجد ، ويُصلى به ، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه شيئا يكذب به الله عني ، لما يعلم من براءتي ، أو يخُبر خبرا ؛ فأما قرآن ينزل في ، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك ‏.‏

حزن عائشة ونزول القرآن ببراءتها

قالت ‏:‏ فلما لم أر أبوي يتكلمان ، قالت ‏:‏ قلت لهما ‏:‏ ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قالت‏:‏ فقالا ‏:‏ والله ما ندري بماذا نجيبه ؛ قالت ‏:‏ ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام ؛ قالت ‏:‏ فلما أن استعجما علي ، استعبرت فبكيت ؛ ثم قلت ‏:‏ والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا ‏.‏ والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس ، والله يعلم أني منه بريئة ، لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني ‏.‏ قالت ‏:‏ ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره ؛ فقلت ‏:‏ ولكن سأقول كما قال أبو يوسف ‏:‏ ‏ {(‏ فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ‏)} ‏ ‏.‏  قالت ‏:‏ فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشَّاه من الله ما كان يتغشاه ، فسُجِّي بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه ، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت ، فوالله ما فزعت ولا باليت ، قد عرفت أني بريئة ، وأن الله عز وجل غير ظالمي ؛ وأما أبواي ، فوالذي نفس عائشة بيده ، ما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما ، فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس ‏.‏ قالت ‏:‏ ثم سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه ، ويقول ‏:‏ أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك ؛ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ بحمد الله ‏.‏ ثم خرج إلى الناس ، فخطبهم ، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك ، ثم أمر بمسطح بن أثاثة ، وحسَّان بن ثابت ، وحمنة بنت حجش ، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضُربوا حدَّهم‏.‏

استنتاج أبي أيوب طهر عائشة

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني أبي إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار ‏:‏ أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أم أيوب ‏:‏ يا أبا أيوب ، ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة ‏؟‏ قالت ‏:‏ لا والله ما كنت لأفعله ؛ قال ‏:‏ فعائشة والله خير منك ‏.‏

ما نزل من القرآن في حديث الإفك

قالت ‏:‏ فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال من أهل الإفك ، فقال تعالى ‏:‏ ‏ (‏ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ، لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ، لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ‏) ‏ ، وذلك حسَّان بن ثابت وأصحابه الذين قالوا ما قالوا ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ وذلك عبدالله بن أبي وأصحابه ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ والذي تولى كبره عبدالله بن أبي ، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في هذا الحديث قبل هذا ‏.‏ ثم قال تعالى ‏:‏ ‏ (‏ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ‏) ‏ ‏:‏ أي فقالوا كما قال أبو أيوب وصاحبته ، ثم قال ‏:‏ ‏ (‏ إذ تلقَّونه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ، وتحسبونه هينا ، وهو عند الله عظيم ‏) ‏ ‏.‏

أبو بكر يمتنع عن الإنفاق على مسطح ورجوعه عن ذلك

فلما نزل هذا في عائشة ، وفيمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته‏:‏ والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ، وأدخل علينا؛ قالت‏:‏ فأنزل الله في ذلك ‏ (‏ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، وليعفوا وليصفحوا ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، والله غفور رحيم ‏) ‏ ‏.‏

تفسير ابن هشام لبعض ألفاظ القرآن

قال ابن هشام ‏:‏ يقال ‏:‏ كِبرْه وكُبرْه في الرواية ، وأما في القرآن فكِبره بالكسر ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ ‏ (‏ ولا يأتل أولوا الفضل منكم ‏) ‏ ولا يألُ أولوا الفضل منكم ‏.‏ قال امرؤ القيس بن حجر الكندي ‏:‏

ألا رب خصم فيك ألوى رددتُه

 

نصيح على تَعْذاله غير مـؤتـل

وهذا البيت في قصيدة له ؛ ويقال ‏:‏ ولا يأتلِ أولوا الفضل ‏:‏ ولا يحلف أولوا الفضل ، وهو قول الحسن بن أبي الحسن البصري ، فيما بلغنا عنه ‏.‏ وفي كتاب الله تعالى ‏:‏ ‏ (‏ للذين يؤلون من نسائهم ‏) ‏ وهو من الألية ، والألية ‏:‏ اليمين ‏.‏ قال حسَّان بن ثابت ‏:‏

آليت ما في جميع الناس مجتهدا

 

منـي ألـيَّة بـر غـير إفـنـاد

وهذا البيت في أبيات له ، سأذكرها إن شاء الله في موضعها ‏.‏ فمعنى ‏:‏ أن يؤتوا في هذا المذهب ‏:‏ أن لا يؤتوا ، وفي كتاب الله عز وجل ‏:‏ ‏ (‏ يبين الله لكم أن تضلوا ‏) ‏ يريد ‏:‏ أن لا تضلوا ؛ ‏ (‏ ويمسك السماء أن تقع على الأرض ‏) ‏ يريد أن لا تقع على الأرض ، وقال ابن مفرغ الحميري ‏:‏

لا ذعرتُ السوام في وضح الصب

 

ح مـغــيرا ولا دُعـــيت يزيدا

يوم أُعطى مخافة الموت ضيمـا

 

والمنـايا يرصُـدْنـنـي أن أحـيدا

يريد ‏:‏ أن لا أحيد ؛ وهذان البيتان في أبيات له ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ قالت ‏:‏ فقال أبو بكر ‏:‏ بلى والله ، إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال ‏:‏ والله لا أنزعها منه أبدا‏.‏

صفوان يحاول قتل حسَّان

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن صفوان بن المعطَّل اعترض حسَّان بن ثابت بالسيف ، حين بلغه ما كان يقول فيه ، وقد كان حسَّان قال شعرا مع ذلك يعرّض بابن المعطل فيه ، وبمن أسلم من العرب من مضر ، فقال ‏:‏

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا

 

وابن الفُريعة أمسى بـيضة الـبـلـد

قد ثكلت أمه من كنت صـاحـبـه

 

أو كان منتشبا فـي بُـرْثـن الأسـد

ما لقتيلي الـذي أغـدو فـآخـذه

 

من دية فـيه يُعـطـاهـا ولا قـود

ما البحر حين تهب الريح شـامـية

 

فيغطَئِلُّ ويرمي العِـبـر بـالـزبـد

يوما بأغلب مني حين تبصـرنـي

 

مِلْغَيْظ أفري كفري العارض الـبـرد

أما قريش فإني لن أسـالـمـهـم

 

حتى يُنيبوا من الـغـيَّات لـلـرشـد

ويتركوا اللات والعزى بمـعـزلة

 

ويسجدوا كلهم للـواحـد الـصـمـد

ويشهدوا أن ما قال الرسول لـهـم

 

حق ويوفوا بعهـد الـلـه والـوُكُـدِ

فاعترضه صفوان بن المعطل ، فضربه بالسيف ، ثم قال - كما حدثني يعقوب بن عتبة - ‏:‏

تلقَّ ذُباب السيف عني فإنني

 

غلام إذا هُوجيت لست بشاعر

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ‏:‏ أن ثابت بن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل ، حين ضرب حسَّان ، فجمع يديه إلى عنقه بحبل ، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج ؛ فلقيه عبدالله بن رواحة ، فقال ‏:‏ ما هذا ‏؟‏ قال ‏:‏ أما أعجبك ضرب حسَّان بالسيف‏!‏ والله ما أراه إلا قد قتله ؛ قال له عبدالله بن رواحة ‏:‏ هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت ‏؟‏ قال ‏:‏ لا والله ؛ قال ‏:‏ لقد اجترأت ، أطلق الرجل ، فأطلقه ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا ذلك له ، فدعا حسَّان وصفوان بن المعطل ؛ فقال ابن المعطل ‏:‏ يا رسول الله ، آذاني وهجاني ، فاحتملني الغضب ، فضربته ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسَّان ‏:‏ أحسن يا حسَّان ، أَتشوَّهتَ على قومي أن هداهم الله للإسلام ، ثم قال ‏:‏ أحسن يا حسَّان في الذي أصابك ؛ قال ‏:‏ هي لك يا رسول الله ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ أبعد أن هداكم الله للإسلام ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني محمد بن إبراهيم ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عوضا منها بيرحاء ، وهي قصر بني حُديلة اليوم بالمدينة ، وكانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسَّان في ضربته ، وأعطاه سيرين ، أمة قبطية ، فولدت له عبدالرحمن ابن حسَّان ، قالت ‏:‏ وكانت عائشة تقول ‏:‏ لقد سئل عن ابن المعطل ، فوجدوه رجلا حصورا ، ما يأتي النساء ، ثم قتل بعد ذلك شهيدا ‏.‏ قال حسَّان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة رضي الله عنها ‏:‏

حصان رزان ما تُـزَنّ بـريبة

 

وتصبح غَرْثَى من لحوم الغوافـل

عقيلة حي من لؤي بن غالـب

 

كرام المساعي مجدهم غـير زائل

مهذبة قد طيب الله خِـيمـهـا

 

وطهَّرها من كل سـوء وبـاطـل

فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم

 

فلا رفعت سوطي إلي أنامـلـي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي

 

لآل رسول الله زين المـحـافـل

له رتب عال على الناس كلهـم

 

تقاصر عنه سورة المـتـطـاول

فإن الذي قد قيل لـيس بـلائط

 

ولكنه قول امرىء بـي مـاحـل

قال ابن هشام ‏:‏ بيته ‏:‏ ‏(‏ عقيلة حي ‏)‏ والذي بعده ، وبيته ‏:‏ ‏(‏ له رتب عال ‏)‏ عن أبي زيد الأنصاري ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وحدثني أبو عبيدة ‏:‏ أن امرأة مدحت بنت حسَّان بن ثابت عند عائشة ، فقالت ‏:‏

حصان رزان ما تزن بريبة

 

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت عائشة ‏:‏ لكن أبوها ‏.‏شعر في هجاء حسان و مسطح

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال قائل من المسلمين في ضرب حسَّان وأصحابه في فريتهم على عائشة - قال ابن هشام ‏:‏ في ضرب حسَّان وصاحبيه - ‏:‏

لقد ذاق حسَّان الذي كان أهلـه

 

وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسـطـح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهـم

 

وسخطة ذي العرش الكريم فأُترحوا

وآذوا رسول الله فيها فجُلِّـلـوا

 

مخازي تبقى عُمِّموها وفُضِّـحـوا

وصُبَّت عليهم محُصدات كأنهـا

 

شآبيب قطر من ذرا المزن تسفـح