ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلم يُقم بها إلا ليالي قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة ، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له ، فقتلوا الرجل ، واحتملوا المرأة في اللِّقاح .
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر ، ومن لا أتهم ، عن عبدالله بن كعب بن مالك ، كل قد حدث في غزوة ذي قَرَد بعض الحديث : أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي ، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله ، ومعه غلام لطلحة بن عبدالله معه فرس له يقوده ، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم ، فاشرف في ناحية سلع ، ثم صرخ : واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم ، و كان مثل السبع حتى لحق القوم ، فجعل يردهم بالنبل ، ويقول إذا رمى : خذها وأنا ابن الأكوع ، اليوم يوم الرُّضَّع ، فإذا وُجِّهت الخيل نحوه انطلق هاربا ، ثم عارضهم ، فإذا أمكنه الرمي رمى ، ثم قال : خذها وأنا ابن الأكوع ، اليوم يوم الرضع ، قال : فيقول قائلهم : أُوَيْكعنا هو أول النهار .
وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان : المقداد بن عمرو ، وهو الذي يقال له : المقداد بن الأسود ، حليف بني زهرة ؛ ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار ، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء ، أحد بني عبدالأشهل؛ وسعد بن زيد ، أحد بني كعب بن عبدالأشهل ؛ وأسيد بن ظُهير ، أخو بني حارثة بن الحارث ، يشك فيه؛ وعُكَّاشة بن محصن ، أخو بني أسد بني خزيمة ؛ ومحُرز بن نضلة ، أخو بني أسد بن خزيمة؛ وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، أخو بني سلمة ؛ وأبو عياش ، وهو عبيد بن زيد بن الصامت ، أخو بني زريق. فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد ، فيما بلغني ، ثم قال: اخرج في طلب القوم ، حتى ألحقك في الناس .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني عن رجال من بني زريق ، لأبي عياش : يا أبا عياش ، لو أعطيت هذا الفرس رجلا ، هو أفرس منك فلحق بالقوم ؟ قال أبو عياش : فقلت : يا رسول الله ، أنا أفرس الناس ، ثم ضربت الفرس ، فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني ، فعجبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لو أعطيته أفرس منك ، وأنا أقول : أنا أفرس الناس . فزعم رجال من بني زريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص ، أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة ، وكان ثامنا ، وبعض الناس يعد سلمة بن عمرو بن الأكوع أحد الثمانية ، ويطرح أسيد بن ظهير ، أخا بني حارثة ، والله أعلم أي ذلك كان . ولم يكن سلمة يومئذ فارسا، وقد كان أول من لحق بالقوم على رجليه . فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا .
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة : أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة ، أخو بني أسد بن خزيمة - وكان يقال لمحرز : الأخرم ؛ ويقال له : قُمير - وأن الفزع لما كان جال فرس لمحمود بن مسلمة في الحائط ، حين سمع صاهلة الخيل ، وكان فرسا صنيعا جامّا ، فقال نساء من نساء بني عبدالأشهل ، حين رأين الفرس يجول في الحائط بجذع نخل هو مربوط فيه : يا قمير ، هل لك في أن تركب هذا الفرس ؟ فإنه كما ترى ، ثم تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين ؟ قال : نعم، فأعطيناه إياه . فخرج عليه ، فلم يلبث أن بذّ الخيل بجمامه ، حتى أدرك القوم ، فوقف لهم بين أيديهم ، ثم قال : قفوا يا معشر بني اللَّكيعة حتى يلحق بكم مَن وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار . قال : وحمل عليه رجل منهم فقتله ، وجال الفرس ، فلم يقدر عليه حتى وقف على آرِيِّه من بني عبدالأشهل ، فلم يُقتل من المسلمين غيره .
قال ابن هشام : وقتل يومئذ من المسلمين مع محرز ، وقَّاص بن مجُزّز المُدلجي ، فيما ذكر غير واحد من أهل العلم .
قال ابن إسحاق : وكان اسم فرس محمود : ذا اللمَّة . قال ابن هشام : وكان اسم فرس سعد بن زيد : لاحق ؛ واسم فرس المقداد : بَعْزَجة ؛ ويقال ؛ سبحة ، واسم فرس عُكاشة بن محصن : ذو اللَّمة ؛ واسم فرس أبي قتادة : حَزْوة ؛ وفرس عباد بن بشر : لَمَّاع ، وفرس أسيد بن ظهير : مسنون ؛ وفرس أبي عياش : جُلوة . قال ابن إسحاق : وحدثني بعض من لا أتهم عن عبدالله بن كعب بن مالك : أن مجُزّزا إنما كان على فرس لعكاشة بن محصن ، يقال له : الجناح ، فقُتل مجزز واستُلبت الجناح .
ولما تلاحقت الخيل قَتل أبو قتادة الحارث بن ربعي ، أخو بني سلمة ، حبيب بن عيينة بن حصن ، وغشَّاه برده ، ثم لحق بالناس . وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين .
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم .قال ابن إسحاق : فإذا حبيب مسجَّى ببرد أبي قتادة، فاسترجع الناس وقالوا : قتل أبو قتادة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس بأبي قتادة ، ولكنه قتيل لأبي قتادة ، وضع عليه برده ، لتعرفوا أنه صاحبه . وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا وابنه عمرو بن أوبار ، وهما على بعير واحد ، فانتظمهما بالرمح ، فقتلهما جميعا ، واستنفذوا بعض اللقاح ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد ، وتلاحق به الناس ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به ، وأقام عليه يوما وليلة ؛ وقال له سلمة بن عمرو بن الأكوع : يا رسول الله ، لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح ، وأخذت بأعناق القوم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني : إنهم الآن ليُغْبَقُون في غطفان .
فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه في كل مائة رجل جزورا ، وأقاموا عليها ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا حتى قدم المدينة .
وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر ، فلما فرغت ، قالت : يا رسول الله ، إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها ؛ قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها ! إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين ، إنما هي ناقة من إبلي ، فارجعي إلى أهلك على بركة الله . والحديث عن امرأة الغفاري وما قالت ، وما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أبي الزبير المكي ، عن الحسن بن أبي الحسن البصري :
وكان مما قيل من الشعر في يوم ذي قرد قول حسَّان بن ثابت :
لولا الذي لاقت ومس نسورها |
|
بجنوب ساية أمسِ في التَّـقْـوادِ |
لَلَقِينكم يحملن كـل مـدجـج |
|
حامي الحقيقة مـاجـد الأجـداد |
ولَسرَّ أولاد اللقـيطة أنـنـا |
|
سِلْم غداة فـوارس الـمـقـداد |
كنا ثمانية وكانوا جـحـفـلا |
|
لجبا فشُكُّوا بـالـرمـاح بَـداد |
كنا من القوم الذين يلونـهـم |
|
ويُقدّمون عـنـان كـل جـواد |
كلا ورب الراقصات إلى منى |
|
يقطعن عرض مخارم الأطـواد |
حتى نُبيل الخيل في عرصاتكم |
|
ونؤوب بالـمـلـكـات والأولاد |
رَهْوا بكل مقلَّص وطـمـرَّة |
|
في كل معترك عطفـن و وادي |
أفنى دوابرها ولاح متونـهـا |
|
يوم تُـقـاد بـه ويوم طــراد |
فكذاك إن جيادنا مـلـبـونة |
|
والحرب مشعـلة بـريح غـواد |
وسيوفنا بيض الحدائد تجتلـي |
|
جُنَنَ الحديد وهامة الـمـرتـاد |
أخذ الإله عليهمُ لـحـرامـه |
|
ولعزة الـرحـمـن بـالأسـداد |
كانوا بدار ناعمين فـبُـدّلـوا |
|
أيام ذي قـرد وجـوه عـبــاد |
قال ابن هشام : فلما قالها حسَّان غضب عليه سعد بن زيد ، وحلف أن لا يكلمه أبدا ؛ قال : انطلق إلى خيلي وفوارسي فجعلها للمقداد ! فاعتذر إليه حسَّان وقال : والله ما ذاك أردت ، ولكن الروي وافق اسم المقداد ؛ وقال أبياتا يُرضي بها سعدا :
إذا أردتم الأشد الجَلْـدا |
|
أو ذا غناء فعليكم سعـدا |
سعد بن زيد لا يُهدّ هَدّا |
|
|
فلم يقبل منه سعد ولم يُغْن شيئا .
وقال حسَّان بن ثابت في يوم ذي قرد :
أظنَّ عـيينة إذ زارهـا |
|
بأن سوف يهدم فيها قصورا |
فأُكذبتَ ما كنت صدَّقتـه |
|
وقلتم سنغنم أمـرا كـبـيرا |
فعفت المدينة إذ زرتهـا |
|
وآنست للأسد فـيهـا زئيرا |
فولوا سراعا كشد النعـام |
|
ولم يكشفوا عن ملطٍّ حصيرا |
أمير علينا رسول المليك |
|
أحبب بذاك إلـينـا أمـيرا |
رسول نصدق ما جـاءه |
|
ويتلو كتابا مضيئا مـنـيرا |
وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد للفوارس :
أتحسب أولاد اللـقـيطة أنـنـا |
|
على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس |
وإنا أناس لا نرى القـتـل سـبة |
|
ولا ننثني عند الرماح المـداعـس |
وإنا لنقري الضيف من قمع الذرا |
|
ونضرب رأس الأبلخ المتـشـاوس |
نردّ كماة المعلمين إذا انتـخـوا |
|
بضرب يسلِّي نخوة المتـقـاعـس |
بكل فتى حامي الحقيقة مـاجـد |
|
كريم كسرحان الغضاة مـخـالـس |
يذودون عن أحسابهم وتـلادهـم |
|
ببيض تقد الهام تحت الـقـوانـس |
فسائل بني بدر إذا ما لقـيتـهـم |
|
بما فعل الإخوان يوم الـتـمـارس |
إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتـم |
|
ولا تكتموا أخباركم في المجـالـس |
وقولوا زللنا عن مخالب خـادر |
|
به وَحَر في الصدر ما لم يمـارس |
قال ابن هشام : أنشدني بيته : ( وإنا لنقري الضيف ) أبو زيد .
قال ابن إسحاق : وقال شداد بن عارض الجشمي ، في يوم ذي قرد : لعيينة بن حصن ، وكان عيينة بن حصن يكنى بأبي مالك :
فهلا كررت أبا مـالـك |
|
وخيلك مـدبـرة تـقـتـل |
ذكرت الإياب إلى عسجر |
|
وهيهات قد بعد المـقـفـل |
وطمنت نفسـك ذا مـيعة |
|
مِسحّ الفـضـاء إذا يرسـل |
إذا قبَّضتْه إليك الـشـمـا |
|
ل جاش كما اضطرم المرجل |
فلما عرفتـم عـبـاد الإل |
|
ه لـم ينـظـر الآخـر الأول |
عرفتم فوارس قد عـودوا |
|
طراد الكماة إذا أسـهـلـوا |
إذا طردوا الخيل تشقى بهم |
|
فضاحا وإن يُطردوا ينزلـوا |
فيعتصموا في سواء المُقا |
|
مِ بالبيض أخلصها الصيقـل |
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا ، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة ، في شعبان سنة ست .
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري ؛ ويقال : نميلة ابن عبدالله الليثي .
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق ، قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم ، حتى لقيهم على ماء لهم ، يقال له : المريسيع ، من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس واقتتلوا ، فهزم الله بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، ونفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم ، فأفاءهم عليه . استشهاد ابن صبابة خطأ وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر ، يقال له : هشام بن صبابة ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت ، وهو يرى أنه من العدو ، فقتله خطأ .
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له : جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين ؛ فغضب عبدالله بن أبي بن سلول ، وعنده رهط من قومه فيهم : زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال : أوقد فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .ثم أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمستكم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم . فسمع ذلك زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال : مُرْ به عباد بن بشر فليقتله ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ! لا ولكن أذن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس .
وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه ، فحلف بالله : ما قلت ما قال ، ولا تكلمت به - وكان في قومه شريفا عظيما - ، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله ، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حدبا على ابن أبي سلول ، ودفعا عنه .
قال ابن إسحاق : فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ، ثم قال : يا نبي الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ، ما كنت تروح في مثلها ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال : و أي صاحب يا رسول الله ؟ قال: عبدالله بن أبي ؛ قال : وما قال ؟ قال : زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال : فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت ، وهو والله الذليل وأنت العزيز ؛ ثم قال : يا رسول الله ، ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا .
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما ، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس ، من حديث عبدالله بن أبي .
ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، وسلك الحجاز حتى نزل عل ماء بالجحاز فويق النقيع؛ يقال له : بقعاء . فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوفوها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخافوها ، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار . فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت ، أحد بني قينقاع ، وكان عظيما من عظماء يهود ، وكهفا للمنافقين ، مات في ذلك اليوم .
ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على مثل أمره ، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ، ثم قال : هذا الذي أوفى الله بأذنه . وبلغ عبدالله بن عبدالله بن أبي الذي كان من أمر أبيه .
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب ، حين بلغه ذلك من شأنهم : كيف ترى يا عمر ؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله ، لأُرعدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ؛ قال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري .
قال ابن إسحاق : وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلما ، فيما يُظهر ، فقال : يا رسول الله ، جئتك مسلما ، وجئتك أطلب دية أخي ، قتل خطأ . فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة ؛ فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ، ثم خرج إلى مكة مرتدا ؛ فقال في شعر يقوله :
شفى النفس أن قد مات بالقاع مسندا |
|
تضـرج ثـوبـيه دمـاء الأخــادع |
وكانت هموم النفس من قبل قتلـه |
|
تُلمّ فتحميني وطـاء الـمـضـاجـع |
حللت به وتري وأدركت ثـؤرتـي |
|
وكنـت إلـى الأوثـان أول راجـع |
ثأرت به فهرا وحملت عـقـلـه |
|
سراة بني النـجـار أربـاب فـارع |
وقال مقيس بن صبابة أيضاً :
جلَّلته ضربة باءت لها وشل |
|
من ناقع الجوف يعلوه وينصرم |
فقلت والموت تغشاه أسرّته |
|
لا تأمنن بني بكر إذا ظلـمـوا |
قال ابن هشام : وكان شعار المسلمين يوم بني المصطلق : يا منصور ، أمِتْ أمت .
قال ابن إسحاق : وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس ، وقتل علي ابن أبي طالب منهم رجلين ، مالكا وابنه ، وقتل عبدالرحمن بن عوف رجلا من فرسانهم ، يقال له : أحمر ، أو أحيمر .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب منهم سبيا كثيرا ، فشا قسمه في المسلمين ؛ وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق ، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حلوة مُلاّحة ، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها ؛ قالت عائشة : فوالله ما هو إلا ان رأيتها على باب حجرتي فكرهتها ، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت ، فدخلت عليه ، فقالت : يا رسول الله ، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء ، ما لم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسي ، فجئتك أستعينك على كتابتي ؛ قال : فهل لك في خير من ذلك ؟ قالت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : أقضي عنك كتابتك و أتزوجك ؛ قالت : نعم يا رسول الله ؛ قال : قد فعلت . قالت : وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار ، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرسلوا ما بأيديهم ؛ قالت : فلقد أُعتق بتزوجيه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها .قال ابن هشام : ويقال : لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث ، وكان بذات الجيش ، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة ، وأمره بالاحتفاظ بها ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؛ فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته ؛ فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء ، فرغب في بعيرين منها ، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق ، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد ، أصبتم ابنتي ، وهذا فداؤها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق ، في شعب كذا وكذا ؟ فقال الحارث : أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله ، فوالله ما اطلع على ذلك إلا الله ، فأسلم الحارث ، وأسلم معه ابنان له ، وناس من قومه ، وأرسل إلى البعيرين ، فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودُفعت إليه ابنته جويرية ، فأسلمت ، وحسن إسلامها ؛ فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وأصدقها أربعمائة درهم .
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوه ما قِبَلهم من صدقتهم ، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم ، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يغزوهم ، فبينا هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قِبَلنا من الصدقة ، فانشمر راجعا ، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقتله ، ووالله ما جئنا لذلك ؛ فأنزل الله تعالى فيه وفيهم : {( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين . واعلموا أن فيكم رسول الله لو يُطيعكم في كثير من الأمر لعنتم )} . .. إلى آخر الآية . وقد أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك ، كما حدثني من لا أتهم عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها، حتى إذا كان قريبا من المدينة ، وكانت معه عائشة في سفره ذلك ، قال فيها أهل الإفك ما قالوا .
قال ابن إسحاق : حدثنا الزهري ، عن علقمة بن وقاص ، وعن سعيد بن جبير ، وعن عروة بن الزبير، وعن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، قال : كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، وبعض القوم كان أوعى له من بعض ، وقد جمعت لك الذي حدثني القوم . من كان يسافر معه صلى الله عليه و سلم من نسائه قال محمد بن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عن عائشة، وعبدالله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبدالرحمن ، عن عائشة ، عن نفسها ، حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا ، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه ، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها ما سمع ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ؛ فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه ، كما كان يصنع ، فخرج سهمي عليهن معه ، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قالت : وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العُلَق لم يهجهن اللحم فيثقلن ، وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون لي ويحملونني ، فيأخذون بأسفل الهودج ، فيرفعونه ، فيضعونه على ظهر البعير ، فيشدونه بحباله ، ثم يأخذون برأس البعير ، فينطلقون به .قالت : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك ، وجه قافلا ، حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل ، فارتحل الناس ، وخرجت لبعض حاجتي ، وفي عنقي عقد لي، فيه جزع ظفار ، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري ، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي، فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلافي ، الذين كان يرحلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أني فيه ، كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدوه على البعير ، ولم يشكوا أني فيه ، ثم أخذوا برأس البعير ، فانطلقوا به ؛ فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس .
قالت : فتلففت بجلبابي ، ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتُقدت لرُجع إلي . قالت : فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطَّل السلمي ، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم بيت مع الناس ، فرأى سوادي ، فأقبل حتى وقف علي ، وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأنا متلففة في ثيابي ؛ قال : ما خلَّفك يرحمك الله ؟ قالت : فما كلمته ، ثم قرب البعير ، فقال : اركبي ، واستأخر عني . قالت : فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا ، يطلب الناس ، فوالله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ، ونزل الناس ، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي ، فقال أهل الإفك ما قالوا ، فارتعج العسكر ، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك .
ثم قدمنا المدينة ، فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ، ولا يبلغني من ذلك شيء ، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أبوي لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا ، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي ، كنت إذا اشتكيت رحمني ، ولطف بي ، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني - قال ابن هشام : وهي أم رومان ، واسمها زينب بنت عبد دهمان ، أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة - قال : كيف تِيكم ، لا يزيد على ذلك .
قالت : وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : أيها الناس ، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ، ويقولون عليهم غير الحق ، والله ما علمت منهم إلا خيرا ، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا ، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي.
قالت : وكان كُبرْ ذلك عند عبدالله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش ، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن من نسائه امرأة تناصيني في المنزلة عنده غيرها ؛ فأما زينب فعصمها الله تعالى بدينها فلم تقل إلا خيرا ، وأما حمنة بنت جحش ، فأشاعت من ذلك ما أشاعت ، تُضادُّني لأختها ، فشقيت بذلك .
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة ، قال أسيد بن حضير : يا رسول الله ، إن يكونوا من الأوس نكفكهم ، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج ، فمرنا بأمرك ، فوالله إنهم لأهل أن تُضرب أعناقهم ؛ قالت : فقام سعد بن عبادة ، وكان قبل ذلك يُرى رجلا صالحا ؛ فقال : كذبت لعمر الله ، لا نضرب أعناقهم ، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا ، فقال أسيد : كذبت لعمر الله ، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين ؛ قالت : وتساور الناس ، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر . ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل علي .
قالت : فدعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، و أسامة بن زيد ، فاستشارهما ؛ فأما أسامة فأثنى علي خيرا وقاله ؛ ثم قال : يا رسول الله ، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا ، وهذا الكذب والباطل ؛ وأما علي فإنه قال : يا رسول الله ، إن النساء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فإنها ستصدقك . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بُريرة ليسألها ؛ قالت : فقام إليها علي بن أبي طالب ، فضربها ضربا شديدا ، ويقول : اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قالت : فتقول والله ما أعلم إلا خيرا ، وما كنت أعيب على عائشة شيئا ، إلا أني كنت أعجن عجيني ، فآمرها أن تحفظه ، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله . قالت : ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندي أبواي ، وعندي امرأة من الأنصار ، وأنا أبكي ، وهي تبكي معي ، فجلس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : يا عائشة ، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس ، فاتقي الله ، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ؛ قالت : فوالله ما هو إلا أن قال لي ذلك ، فقلص دمعي ، حتى ما أحس منه شيئا ، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يتكلما ، قالت : وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي ، وأصغر شأنا من أن ينزل الله فيّ قرآنا يُقرأ به في المساجد ، ويُصلى به ، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه شيئا يكذب به الله عني ، لما يعلم من براءتي ، أو يخُبر خبرا ؛ فأما قرآن ينزل في ، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك .
قالت : فلما لم أر أبوي يتكلمان ، قالت : قلت لهما : ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: فقالا : والله ما ندري بماذا نجيبه ؛ قالت : ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام ؛ قالت : فلما أن استعجما علي ، استعبرت فبكيت ؛ ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا . والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس ، والله يعلم أني منه بريئة ، لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني . قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره ؛ فقلت : ولكن سأقول كما قال أبو يوسف : {( فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون )} . قالت : فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشَّاه من الله ما كان يتغشاه ، فسُجِّي بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه ، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت ، فوالله ما فزعت ولا باليت ، قد عرفت أني بريئة ، وأن الله عز وجل غير ظالمي ؛ وأما أبواي ، فوالذي نفس عائشة بيده ، ما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما ، فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس . قالت : ثم سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه ، ويقول : أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك ؛ قالت : قلت : بحمد الله . ثم خرج إلى الناس ، فخطبهم ، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك ، ثم أمر بمسطح بن أثاثة ، وحسَّان بن ثابت ، وحمنة بنت حجش ، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضُربوا حدَّهم.
قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار : أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ، ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى ، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة ؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله ؛ قال : فعائشة والله خير منك .
قالت : فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال من أهل الإفك ، فقال تعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ، لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ، لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) ، وذلك حسَّان بن ثابت وأصحابه الذين قالوا ما قالوا . قال ابن هشام : ويقال : وذلك عبدالله بن أبي وأصحابه . قال ابن هشام : والذي تولى كبره عبدالله بن أبي ، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في هذا الحديث قبل هذا . ثم قال تعالى : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) : أي فقالوا كما قال أبو أيوب وصاحبته ، ثم قال : ( إذ تلقَّونه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ، وتحسبونه هينا ، وهو عند الله عظيم ) .
فلما نزل هذا في عائشة ، وفيمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ، وأدخل علينا؛ قالت: فأنزل الله في ذلك ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، وليعفوا وليصفحوا ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، والله غفور رحيم ) .
قال ابن هشام : يقال : كِبرْه وكُبرْه في الرواية ، وأما في القرآن فكِبره بالكسر . قال ابن هشام : ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم ) ولا يألُ أولوا الفضل منكم . قال امرؤ القيس بن حجر الكندي :
ألا رب خصم فيك ألوى رددتُه |
|
نصيح على تَعْذاله غير مـؤتـل |
وهذا البيت في قصيدة له ؛ ويقال : ولا يأتلِ أولوا الفضل : ولا يحلف أولوا الفضل ، وهو قول الحسن بن أبي الحسن البصري ، فيما بلغنا عنه . وفي كتاب الله تعالى : ( للذين يؤلون من نسائهم ) وهو من الألية ، والألية : اليمين . قال حسَّان بن ثابت :
آليت ما في جميع الناس مجتهدا |
|
منـي ألـيَّة بـر غـير إفـنـاد |
وهذا البيت في أبيات له ، سأذكرها إن شاء الله في موضعها . فمعنى : أن يؤتوا في هذا المذهب : أن لا يؤتوا ، وفي كتاب الله عز وجل : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) يريد : أن لا تضلوا ؛ ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض ) يريد أن لا تقع على الأرض ، وقال ابن مفرغ الحميري :
لا ذعرتُ السوام في وضح الصب |
|
ح مـغــيرا ولا دُعـــيت يزيدا |
يوم أُعطى مخافة الموت ضيمـا |
|
والمنـايا يرصُـدْنـنـي أن أحـيدا |
يريد : أن لا أحيد ؛ وهذان البيتان في أبيات له . قال ابن إسحاق : قالت : فقال أبو بكر : بلى والله ، إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا.
قال ابن إسحاق : ثم إن صفوان بن المعطَّل اعترض حسَّان بن ثابت بالسيف ، حين بلغه ما كان يقول فيه ، وقد كان حسَّان قال شعرا مع ذلك يعرّض بابن المعطل فيه ، وبمن أسلم من العرب من مضر ، فقال :
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا |
|
وابن الفُريعة أمسى بـيضة الـبـلـد |
قد ثكلت أمه من كنت صـاحـبـه |
|
أو كان منتشبا فـي بُـرْثـن الأسـد |
ما لقتيلي الـذي أغـدو فـآخـذه |
|
من دية فـيه يُعـطـاهـا ولا قـود |
ما البحر حين تهب الريح شـامـية |
|
فيغطَئِلُّ ويرمي العِـبـر بـالـزبـد |
يوما بأغلب مني حين تبصـرنـي |
|
مِلْغَيْظ أفري كفري العارض الـبـرد |
أما قريش فإني لن أسـالـمـهـم |
|
حتى يُنيبوا من الـغـيَّات لـلـرشـد |
ويتركوا اللات والعزى بمـعـزلة |
|
ويسجدوا كلهم للـواحـد الـصـمـد |
ويشهدوا أن ما قال الرسول لـهـم |
|
حق ويوفوا بعهـد الـلـه والـوُكُـدِ |
فاعترضه صفوان بن المعطل ، فضربه بالسيف ، ثم قال - كما حدثني يعقوب بن عتبة - :
تلقَّ ذُباب السيف عني فإنني |
|
غلام إذا هُوجيت لست بشاعر |
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي : أن ثابت بن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل ، حين ضرب حسَّان ، فجمع يديه إلى عنقه بحبل ، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج ؛ فلقيه عبدالله بن رواحة ، فقال : ما هذا ؟ قال : أما أعجبك ضرب حسَّان بالسيف! والله ما أراه إلا قد قتله ؛ قال له عبدالله بن رواحة : هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت ؟ قال : لا والله ؛ قال : لقد اجترأت ، أطلق الرجل ، فأطلقه ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا ذلك له ، فدعا حسَّان وصفوان بن المعطل ؛ فقال ابن المعطل : يا رسول الله ، آذاني وهجاني ، فاحتملني الغضب ، فضربته ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسَّان : أحسن يا حسَّان ، أَتشوَّهتَ على قومي أن هداهم الله للإسلام ، ثم قال : أحسن يا حسَّان في الذي أصابك ؛ قال : هي لك يا رسول الله . قال ابن هشام : ويقال : أبعد أن هداكم الله للإسلام . قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن إبراهيم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عوضا منها بيرحاء ، وهي قصر بني حُديلة اليوم بالمدينة ، وكانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسَّان في ضربته ، وأعطاه سيرين ، أمة قبطية ، فولدت له عبدالرحمن ابن حسَّان ، قالت : وكانت عائشة تقول : لقد سئل عن ابن المعطل ، فوجدوه رجلا حصورا ، ما يأتي النساء ، ثم قتل بعد ذلك شهيدا . قال حسَّان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة رضي الله عنها :
حصان رزان ما تُـزَنّ بـريبة |
|
وتصبح غَرْثَى من لحوم الغوافـل |
عقيلة حي من لؤي بن غالـب |
|
كرام المساعي مجدهم غـير زائل |
مهذبة قد طيب الله خِـيمـهـا |
|
وطهَّرها من كل سـوء وبـاطـل |
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم |
|
فلا رفعت سوطي إلي أنامـلـي |
وكيف وودي ما حييت ونصرتي |
|
لآل رسول الله زين المـحـافـل |
له رتب عال على الناس كلهـم |
|
تقاصر عنه سورة المـتـطـاول |
فإن الذي قد قيل لـيس بـلائط |
|
ولكنه قول امرىء بـي مـاحـل |
قال ابن هشام : بيته : ( عقيلة حي ) والذي بعده ، وبيته : ( له رتب عال ) عن أبي زيد الأنصاري . قال ابن هشام : وحدثني أبو عبيدة : أن امرأة مدحت بنت حسَّان بن ثابت عند عائشة ، فقالت :
حصان رزان ما تزن بريبة |
|
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
قال ابن إسحاق : وقال قائل من المسلمين في ضرب حسَّان وأصحابه في فريتهم على عائشة - قال ابن هشام : في ضرب حسَّان وصاحبيه - :
لقد ذاق حسَّان الذي كان أهلـه |
|
وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسـطـح |
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهـم |
|
وسخطة ذي العرش الكريم فأُترحوا |
وآذوا رسول الله فيها فجُلِّـلـوا |
|
مخازي تبقى عُمِّموها وفُضِّـحـوا |
وصُبَّت عليهم محُصدات كأنهـا |
|
شآبيب قطر من ذرا المزن تسفـح |