علم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خير عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال ولما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه فمنها التشيعات للآراء والمذاهب فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح ومنها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب ومنها توهم الصدق وهو كثير وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها ومن الأسباب المقتضية له أيضا وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإن كل حادث من الحوادث
36
ذاتا كان أو فعلا لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض وكثيرا ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الإسكندرية وكيف اتخذ صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها وعمل تماثيلها من أجساد معدنية ونصبها حذاء البنيان ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها وتم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور ومن اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع الناس إلى غيره وفي ذلك إتلافه ولا ينتظرون به رجوعه من غروره ذلك طرفة عين ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها إنما هي قادرة على التشكل وما يذكر من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد به البشاعة والتهويل لا أنه حقيقة وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي وتسخن روحه بسرعة لقلته فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي ويهلك مكانه وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم عن الهواء البارد والمتدلين في الآبار والمطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها فإن المتدلي فيها يهلك لحينه وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر فإن الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هو حار بإفراط الماء الذي يعد له بارد والهواء الذي خرج إليه حار فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضا في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون ومنه يتخذون زيتهم وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت ومنها ما نقله البكري
37
في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة وتشتمل على عشرة آلاف باب والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن ولا معتصم وكما نقله المسعودي أيضا في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب وأنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآنية والخرثى وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة والبعد وأمثال ذلك كثيرة وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع وأما إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق
38
من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة عزيزة الفائدة اعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص ولبس من علم الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى راي أو صدهم عنه ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه وكأنه علم مستنبط النشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاة لأحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك وليس الظن بهم أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضي الله عنه بمحوها عند الفتح وأين علوم الكلدانيين و السريانيين وأهل بابل وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثر المترجمين وبذل الأموال فيها ولم نقف على شيء من علوم غيرهم وإذا كانت كل حقيقة متعلقة طبيعية يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه لكن الحكماء لعلهم إنما لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات وهذا إنما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت وإن كانت مسائلة في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة فلهذا هجروه والله أعلم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وهذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض
39
لأهل العلوم في براهين علومهم وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع وتبيان العبارات أخف ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع وأن القتل أيضا مفسد للنوع وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران فكان لها النظر فيما يعرض له وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثلة وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة لكنهم لم يستوفوه فمن كلام المؤبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيما وهو الملك ومن كلام أنوشروان في هذا المعنى بعينه الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل والعدل بإصلاح العمال وإصلاح العمال باستقامة الوزراء ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة المتداول بين الناس جزء صالح منه إلا أنه غير مستوف ولا معطى حقه من البراهين ومختلط بغيره وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان وجعلهما في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله العالم بستان سياجه الدولة الدولة سلطان تحيا به السنة السنة سياسة يسوسها الملك الملك نظام يعضده الجندالجند أعوان يكفلهم المال المال رزق تجمعه الرعية الرعية عبيد يكنفهم العدل العدل مألوف وبه قوام العالم العالم بستان ثم ترجع إلى أول الكلام فهذه ثمان
40
كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضها ببعض وارتدت أعجازها إلى صدورها واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها فخر بعثوره عليها وعظم من فوائدها وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك وأعطيته حقه من التصفح والتفهم عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات وتفصيل إجمالها مستوفى بينا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان وكذلك تجد في كلام ابن المقفع وما يستطرد في رسائله من ذكر السياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهناه إنما يجليها في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل وبلاغة الكلام وكذلك حوم القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك وبوبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله لكنه لم يصادف فيه الرمية ولا أصاب الشاكلة ولا استوفى المسائل ولا أوضح الأدلة إنما يبوب الباب للمسألة ثم يستكثر من الأحاديث والآثار وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة ولا يكشف عن التحقيق قناعا ولا يرفع البراهين الطبيعية حجابا إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ وكأنه حوم على الغرض ولم يصادفه ولا تحقق قصده ولا استوفى مسائله ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما وأعثرنا على علم جعلنا بين نكرة وجهينة خبره فإن كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع انظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق والله يهدي بنوره من يشاء ونحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع وجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتندفع بها الأوهام وترفع الشكوك ونقول لما كان الإنسان متميزا عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الذي تميز به عن الحيوانات وشرف بوصفه على المخلوقات ومنها الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر إذ لا يمكن وجوده دون ذلك من بين الحيوانات كلها إلا ما يقال عن النحل والجراد وهذه وإن كان لهما
41
مثل ذلك فبطريق إلهامي لا بفكر وروية ومنها السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه وهداه إلى التماسه وطلبه قال تعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما نبينه ومن هذا العمران ما يكون بدويا وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال ومنه ما يكون حضريا وهو الذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها وله في كل هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا له فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستة فصول الأول في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض والثاني في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية والثالث في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانية والرابع في العمران الحضري والبلدان والأمصار والخامس في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه والسادس في العلوم واكتسابها وتعلمها وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما نبين لك بعد وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار وأما تقديم المعاش فلأن المعاش ضروري طبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاجي والطبيعي أقدم من الكمالي وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما نبين لك بعد والله الموفق للصواب والمعين عليه