أمر الحديبية في آخر سنة ست ، وذكر بيعة الرضوان

أمر الحديبية في آخر سنة ست ، وذكر بيعة الرضوان ، والصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سهيل بن عمرو

خروج الرسول

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا ، وخرج في ذي القعدة معتمرا ، لا يريد حربا ‏.‏

من استعمله صلى الله عليه وسلم على المدينة

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي ‏.‏

استنفاره صلى الله عليه وسلم العرب

قال ابن إسحاق ‏:‏ واستنفر العربَ ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له ‏.‏ عدد من خرج للعمرة قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا ‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر ‏.‏ وكان جابر بن عبدالله ، فيما بلغني ، يقول ‏:‏ كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة ‏.‏

ما قاله عليه الصلاة و السلام عندما علم أن قريشا تريد منعه

قال الزهري ‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي - قال ابن هشام ‏:‏ ويقال بُسْر - فقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذه قريش ، قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموها إلى كُراع الغَميم ‏.‏ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا ويح قريش ‏!‏ لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة ‏.‏ ثم قال‏:‏ من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها ‏؟‏

تجنب الرسول لقاء قريش ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن رجلاً من أسلم قال ‏:‏ أنا يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل بين شعاب ، فلما خرجوا منه ، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ‏:‏ قولوا نستغفر الله ونتوب إليه ؛ فقالوا ذلك ، فقال ‏:‏ والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها ‏.‏ قال ابن شهاب ‏:‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال ‏:‏ اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش ، في طريق ‏(‏ تخرجه ‏)‏ على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة ؛ قال ‏:‏ فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا سلك ، في ثنية المرار بركت ناقته ‏.‏ فقالت الناس ‏:‏ خلأت الناقة ، قال ‏:‏ ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ‏.‏ لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ‏.‏ثم قال للناس ‏:‏ انزلوا قيل له ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ ما بالوادي ماء ننزل عليه ، فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب ‏.‏ فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن ‏.‏

الذي نزل بسهم الرسول في طلب الماء ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم ‏:‏ أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن وائلة بن سهم بن مازن بن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة ، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ أفصى بن حارثة ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد زعم لي بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول ‏:‏ أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالله أعلم أي ذلك كان ‏.‏

شعر لناجية يثبت أنه حامل سهم الرسول ‏ :‏

وقد أنشدت أسلم أبياتاً من شعر قالها ناجية ، قد ظننا أنه هو الذي نزل بالسهم ، فزعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها ، وناجية في القليب يميح على الناس ، فقالت ‏:‏

يأيها المائح دلوى دونكا

 

إني رأيت الناس يحمدونكا

يثنون خيراً ويمجدونكما

 

 

قال ابن هشام ‏:‏ويروى ‏:‏

إني رأيت الناس يمدحونكا

 

 

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال ناجية ، وهو في القليب يميح على الناس ‏:‏

قد علمت جارية يمانـية

 

أني أنا المائح واسمى ناجـية

وطعنة ذات رشاش واهية

 

طعنتها عند صدور العـادية

بديل ورجال خزاعة بين الرسول وقريش ‏ :‏

فقال الزهري في حديثه ‏:‏ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلموه وسألوه ‏:‏ ما الذي جاء به ‏؟‏ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حرباً ، وإنما جاء زائراً البيت ، ومعظماً لحرمته ، ثم قال لهم نحواً مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا ‏:‏ يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمداً لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائراً هذا البيت ، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا ‏:‏ وإن كان جاء ولا يريد قتالاً ، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً ، ولا تحدث بذلك عنا العرب ‏.‏ قال الزهري ‏:‏ وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة ‏.‏

 مكرز رسول قريش إلى الرسول ‏ :‏

قال ‏:‏ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف ، أخا بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال ‏:‏ هذا رجل غادر ؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً مما قال لبديل وأصحابه ؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

الحليس رسول من قريش إلى الرسول ‏ :‏
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إن هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رآى الهدي يسيل عله من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى ، فقال لهم ذلك ‏.‏ قال ‏:‏ فقالوا له ‏:‏ اجلس ، فإنما أنت أعرابي لا علم لك ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن الحليس غضب عند ذلك وقال ‏:‏ يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ‏.‏ أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له ‏!‏ والذي نفس الحليس بيده ، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد ‏.‏ قال ‏:‏ فقالوا له ‏:‏ مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به ‏.عروة بن مسعود رسول من قريش إلى الرسول ‏ :‏

قال الزهري في حديثه ‏:‏ ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي ؛ فقال ‏:‏ يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد - وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي ؛ قالوا ‏:‏ صدقت ما أنت عندنا بمتهم ‏.‏ فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ، ثم قال ‏:‏ يا محمد أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ‏.‏ قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً ‏.‏ وأيم الله ، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً ‏.‏ قال ‏:‏ وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ؛ فقال ‏:‏ امصص بظر اللات ، أنحن نتكشف عنه ‏؟‏ قال ‏:‏ من هذا يا محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ هذا ابن أبي قحافة ؛ قال ‏:‏ أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها ‏.‏ قال ‏:‏ ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه ‏.‏ قال ‏:‏ والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد ‏.‏ قال ‏:‏ فجعل يقرع يده إذ تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول ‏:‏ اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك ؛ قال ‏:‏ فيقول عروة ‏:‏ ويحك ‏!‏ ما أفظك وأغلظك ‏!‏ قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له عروة ‏:‏ من هذا يا محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ؛ قال ‏:‏ أي غدر ، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك ، من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف ‏:‏ بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية ، وأصلح ذلك الأمر ‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ قال الزهري ‏:‏ فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوٍ مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا ‏.‏ فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه ‏.‏ ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ‏.‏ فرجع إلى قريش، فقال ‏:‏ يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ‏.‏ وقيصر في ملكه ‏.‏ والنجاشي في ملكه ‏.‏ وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً ، فروا رأيكم ‏.‏

خراش رسول الرسول إلى قريش ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرادوا قتله ،فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

النفر القرشيون الذين أرسلتهم قريش للعدوان ثم عفا عنهم الرسول ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس ‏:‏ أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فأخذوا أخذاً ، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل ‏.‏

عثمان رسول محمد إلى قريش ‏ :‏
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال ‏:‏ يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان ‏.‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ، ومعظماً لحرمته ‏.‏  إشاعة مقتل عثمان ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ‏:‏ إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ؛ فقال ‏:‏ ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل ‏.‏

بيعة الرضوان
مبايعة الرسول الناس على الحرب وتخلف الجد ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل ‏:‏ لا نبرح حتى نناجز القوم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة ‏.‏ فكانت بيعه الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون ‏:‏ بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، وكان جابر بن عبدالله يقول ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر ‏.‏ فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس ، أخو بني سلمة ، فكان جابر بن عبدالله يقول ‏:‏ والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته ‏.‏ قد ضبأ إليها ، يستتر بها من الناس ‏.‏ ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل ‏.‏

أول من بايع ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ‏:‏ أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له، عن ابن أبي مليكة عن ابن أبي عمر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى ‏.‏

أمر الهدنة

إرسال قريش سهيلاً إلى الرسول للصلح ‏:‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ قال الزهري ‏:‏ ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، أخا بني عامر بن لؤي ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا له ‏:‏ ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامة هذا ، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً ‏.‏ فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، قال ‏:‏ قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ‏.‏ فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح ‏.‏

عمر ينكر على الرسول الصلح ‏ ‏

فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال ‏:‏ يا أبا بكر ، أليس برسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، وألسنا بالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أوليسوا بالمشركين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ فعلام نعطي الدنية في ديننا ‏؟‏ قال أبو بكر ‏:‏ يا عمر الزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله ؛ قال عمر ‏:‏ وأنا أشهد أنه رسول الله ‏.‏ ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ يا رسول الله ألست برسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أولسنا بالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أوليسوا بالمشركين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ فعلام نعطي الدنية في ديننا ‏؟‏ قال ‏:‏ أنا عبدالله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني ‏!‏ قال ‏:‏ فكان عمر يقول ‏:‏ ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق ، من الذي صنعت يومئذ ‏!‏ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً ‏.‏

علي يكتب شروط الصلح ‏ ‏

قال ‏:‏ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال ‏:‏ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ؛ قال ‏:‏ فقال سهيل ‏:‏ لا أعرف هذا ، ولكن أكتب باسمك اللهم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اكتب باسمك اللهم ، فكتبها ‏.  ثم قال ‏:‏ اكتب ‏:‏ هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ؛ قال ‏:‏ فقال سهيل ‏:‏ لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ؛ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وإن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ‏.‏

دخول خزاعة في عهد محمد وبني بكر في عهد قريش ‏ :‏

فتواثبت خزاعة فقالوا ‏:‏ نحن في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا ‏:‏ نحن في عقد قريش وعهدهم ، وأنك ترجع عنا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل ، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب ، السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها ‏.‏ ما أهم الناس من الصلح ومجيء أبي جندل ‏:‏ فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمرٌ عظيم ، حتى كادوا يهلكون ‏.‏ فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ؛ ثم قال ‏:‏ يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ؛ قال ‏:‏ صدقت ، فجعل ينتره بتلبيبه ، ويجره ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ‏؟‏ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا أبا جندل ؛ اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم ‏.‏ قال ‏:‏ فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ، ويقول ‏:‏ اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ‏.‏ قال ‏:‏ ويدني قائم السيف منه ‏.‏ قال ‏:‏ يقول عمر ‏:‏ رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ؛ فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية ‏.‏

من شهدوا على الصلح ‏ :‏

فلما فرغ ‏(‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏)‏ من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين ‏:‏ أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبدالرحمن بن عوف ، وعبدالله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص ، وهو يومئذ مشرك ، وعلي بن أبي طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة ‏.‏

نحر الرسول وحلق فاقتدى به الناس ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل ، وكان يصلي في الحرم ، فلما فرغ من الصلح قدم إلى هدية فنحره ، ثم جلس فحلق رأسه ، وكان الذي حلقه ، فيما بلغني ، في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي ؛ فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون ‏.‏

دعوة الرسول للمحلقين ثم للمقصرين ‏ :‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال ‏:‏ حلق رجال يوم الحديبية ، وقصر آخرون ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يرحم الله المحلقين ، قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ يرحم الله المحلقين ؛ قالوا ‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ والمقصرين ؛ فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ‏؟‏ قال ‏:‏ لم يشكوا‏.‏ أهدِى الرسول جملاً فيه برة من فضة ‏ :‏

وقال عبدالله بن أبي نجيح ‏:‏ حدثني مجاهد ، عن ابن عباس ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل ، في رأسه برة من فضة ، يغيظ بذلك المشركين ‏.‏

نزول سورة الفتح ‏:‏

قال الزهري في حديثه ‏:‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه ذلك قافلاً ،حتى إذا كان بين مكة والمدينة ، نزلت سورة الفتح ‏:‏ ‏ {(‏ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ، ويهديك صراطاً مستقيماً ‏)} ‏ ‏.‏

ذكر البيعة ‏ :‏

ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه ، حتى انتهى من ذكر البيعة ، فقال جل ثناؤه ‏:‏ ‏ (‏ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ‏) ‏ ‏.‏

ذكر من تخلف ‏ :‏

ثم ذكر من تخلف عنه من الأعراب ، ثم قال حين استفزهم للخروج معه فأبطئوا عليه‏:‏ ‏ (‏ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا ‏) ‏ ‏.‏ ثم القصة عن خبرهم ، حتى انتهى إلى قوله ‏:‏ ‏ (‏ سيقولون المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم ، يريدون أن يبدلوا كلام الله ، قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ‏) ‏ ‏.‏ ثم القصة عن خبرهم وما عرض عليهم من جهاد القوم أولى البأس الشديد ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال ‏:‏ فارس ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم ، عن الزهري أنه قال ‏:‏ أولوا البأس الشديد حنيفة مع الكذاب ‏.‏ ثم قال تعالى ‏:‏ ‏ (‏ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحاً قريباً ‏.‏ ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيراً حكيماً ‏.‏ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه ، وكف أيدي الناس عنكم ، ولتكون آية للمؤمنين ويهيدكم صراطاً مستقيماً‏.‏ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ، وكان الله على كل شيء قديراً ‏) ‏ ‏.‏

ذكر كف الرسول عن القتال ‏ :‏

ثم ذكر محبسه وكفه إياه عن القتال ، بعد الظفر منه بهم ، يعني ‏:‏ النفر الذين أصاب منهم وكفهم عنه ، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏ (‏ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ، وكان الله بما تعملون بصيراً ‏) ‏ ‏.‏ ثم قال تعالى ‏:‏ ‏ (‏ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ‏) ‏ ‏.‏

تفسير ابن هشام لبعض الغريب ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏المعكوف المحبوس ، قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏:‏

وكأن السموط عكفه السلك

 

بعطفي جـيداء أم غـزال ‏.‏

وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏ (‏ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ‏) ‏ ، والمعرة ‏:‏ الغرم ، أي ‏:‏ أن تصيبوا منهم ‏(‏ معرة ‏)‏ بغير علم فتخرجوا ديته ، فأما إثم فلم يخشه عليهم ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏بلغني عن مجاهد أنه قال ‏:‏ نزلت هذه الآية في الوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل ، وأشباههم‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم قال تبارك وتعالى ‏:‏ ‏ (‏ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية ‏) ‏ يعني ‏:‏ سهيل بن عمرو حين حمي أن تكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأن محمداً رسول الله، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏ (‏ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى ‏) ‏ ، وكانوا أحق بها وأهلها ‏:‏ أي التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ‏.‏  ثم قال تعالى ‏:‏ ‏ (‏ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا ‏) ‏ ‏.‏ أي ‏:‏ لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رأى ، أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف ؛ يقول ‏:‏ محلقين رءوسكم ، ومقصرين معه لا تخافون ، فعلم من ذلك ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً ، صلح الحديبية ‏.‏ يقول الزهري ‏:‏ فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ؛ فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وآمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه ، ولقد دخل تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة ، في قول جابر بن عبدالله ، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف ‏.‏

ما جرى عليه أمر قوم من المستضعفين بعد الصلح
مجيء أبي بصير إلى المدينة وطلب قريش له ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وكان ممن حبس بمكة ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر والأخنس ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، فانطلق إلى قومك ؛ قال ‏:‏ يا رسول الله ، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني ‏؟‏ قال ‏:‏ يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً‏.‏

قتل أبي بصير للعامري ومقالة الرسول في ذلك ‏ :‏

فانطلق معهما ، حتى إذا كان بذي الحليفة ، جلس إلى جدار ، وجلس معه صاحباه ، فقال أبو بصير ‏:‏ أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ‏؟‏ فقال ‏:‏ نعم أنظر إليه ‏؟‏ قال ‏:‏ انظر إن شئت ‏.‏ قال ‏:‏ فاستله أبو بصير ، ثم علاه به حتى قتله ‏.‏ وخرج المولى سريعاً حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم طالعاً قال ‏:‏ إن هذا الرجل قد رأى فزعاً ؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ ما لك ‏؟‏ قال ‏:‏ قتل صاحبكم صاحبي فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً بالسيف ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، وفت ذمتك ، وأدى الله عنك ، أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه ، أو يعبث بي ‏.‏ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال ‏!‏

اجتماع المحتبسين إلى أبي بصيرة وإيذاؤهم قريشاً وإيواء الرسول لهم ‏ :‏

ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص ، من ناحية ذي المروة ، على ساحل البحر ، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام ، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير ‏:‏ ‏"‏ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال ‏!‏ ‏"‏ ، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص ، فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلاً ، وكانوا قد ضيقوا على قريش ، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، لا تمر بهم عير إلا اقتطعوها ، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل بأرحامها إلا آواهم فلا حاجة لهم فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل بأرحامها إلا آواهم ، فلا حاجة لهم بهم ، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدموا عليه المدينة ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏أبو بصير ثقفي ‏.‏

أراد سهيل ودي أبي بصير وشعر موهب في ذلك ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري ، أسند ظهره إلى الكعبة ، ثم قال ‏:‏ والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يودي هذا الرجل ؛ فقال أبو سفيان بن حرب ‏:‏ والله إن هذا لهو السفه ، والله لا يودي ‏(‏ ثلاثاً ‏)‏ ‏.‏ فقال في ذلك موهب بن رياح أبو أنيس ، حليف بني زهرة ‏:‏ - قال ابن هشام ‏:‏أبو أنيس أشعري -

أتاني عن سهيل ذرء قـول

 

فأيقظني وما بـي مـن رقـاد

فإن تكن العتاب تريد منـي

 

فعِاتبني فما بك مـن بـعـادي

أتوعدني وعبد مناف حولـي

 

بمخزوم ألهفـا مـن تـعـادي

فإن تغمز قناتي لا تجدنـي

 

ضعيف العود في الكرب الشداد

أسامي الأكرمين أبا بقومـي

 

إذا وطئ الضعيف بهـم أرادي

هم منعوا الظواهر غير شك

 

إلى حيث البواطن فالـعـوادي

بكل طمرة وبـكـل نـهـد

 

سواهم قد طوين من الـطـراد

لهم بالخيف قد علمت معـد

 

رواق المجد رفع بالـعـمـاد

شعرابن الزبعرى في الرد على موهب ‏:‏ فأجابه عبدالله بن الزبعرى فقال ‏:‏

وأمسى موهب كحمار سوء

 

أجاز ببـلـدة فـيهـا ينـادي

فإن العبد مثلـك لا ينـاوي

 

سهيلاً ضل سعيك من تعـادي

فاقصر يا ابن قين السوء عنه

 

وعد عن المقالة فـي الـبـلاد

ولا تذكر عتـاب أبـي يزيد

 

فهيهات البحور من الـثـمـاد

أمر المهاجرات بعد الهدنة

هجرة أم كلثوم إلى رسول وإباؤه ردها ‏ ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدة ، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة ، حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية ، فلم يفعل ، أبى الله ذلك ‏.‏ سؤال ابن هنيدة لعروة عن آية المهاجرات ورده عليه ‏:‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني الزهري ، عن عروة ابن الزبير ، قال ‏:‏ دخلت عليه يكتب كتابا إلى ابن أبي هنيدة ، صاحب الوليد بن عبدالملك ، وكتب إليه يسأله عن قول الله تعالى ‏:‏ ‏ {(‏ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ، ولا تمسكوا بعصم الكوافر ‏)} ‏ ‏.‏

تفسير ابن هشام لبعض الغريب ‏ ‏

قال ابن هشام ‏:‏واحدة العصم ‏:‏ عصمة ، وهي الحبل والسبب ‏.‏ قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏:‏

إلى المرء قيس نطيل السرى

 

ونأخذ من كل حي عـصـم ‏.‏

وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ ‏ (‏ واسألوا ما أنفقتم ، وليسألوا ما أنفقوا ، ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ‏) ‏ ‏.‏ عود إلى جواب عروة ‏:‏ قال ‏:‏ فكتب إليه عروة بن الزبير ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن وليه ؛ فلما هاجر النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام ، أبى الله أن يرددن إلى المشركين إذا هن امتحن بمحنة الإسلام ، فعرفوا أنهن إنما جئن رغبة في الإسلام ، وأمر برد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم ، إن هم ردوا على المسلمين صداق من حبسوا عنهم من نسائهم ، ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ‏.‏ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ورد الرجال ، وسأل الذي أمره الله به أن يسأل من صدقات نساء من حبسوا منهن ، وأن يردوا عليهم مثل الذي يردون عليهم ، إن هم فعلوا ‏.‏ ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم لرد رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء كما رد الرجال ، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ، ولم يردد لهن صداقاً ، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ‏.‏  سؤال ابن إسحاق الزهري عن آية المهاجرات ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وسألت الزهري عن هذه الآية ، وقول الله عز وجل فيها ‏:‏ ‏ (‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتهم ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏)‏.‏ فقال ‏:‏ يقول ‏:‏ إن فات أحداً منكم أهله إلى الكفار ، ولم تأتكم امرأة تأخذون بها مثل يأخذون منكم ، فعوضوهم من فيء إن أصبتموه ؛ فلما نزلت هذه الآية ‏:‏ ‏ (‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات‏) ‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قول الله عز وجل ‏:‏ ‏ (ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏) ‏ ‏.‏ كان ممن طلق عمر بن الخطاب ، طلق امرأته قريبه بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة ، وأم كلثوم بنت جرول أم عبيد الله بن عمر الخزاعية ، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم ، رجلاً من قومه وهما على شركهما ‏.‏ بشرى فتح مكة وتعجل بعض المسلمين ‏ :‏ قال ابن هشام‏:‏ حدثنا أبو عبيدة ‏:‏ أن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما قدم المدينة ‏:‏ ألم تقل يا رسول الله إنك تدخل مكة آمنا ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، أفقلت لكم من عامي هذا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ لا ، قال ‏:‏ فهو كما قال لي جبريل عليه السلام ‏.‏

ذكر المسير إلى خيبر في المحرم سنة سبع
الخروج إلى خيبر ‏ :‏

قال محمد بن إسحاق ‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ، ذا الحجة وبعض المحرم ، وولي تلك الحجة المشركون ، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر ‏.‏

استعمال نميلة على المدينة ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي ، ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكانت بيضاء ‏.‏

ارتجاز ابن الأكوع ودعاء الرسول له واستشهاده ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي أن أباه حدثه ‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع‏:‏ وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع ، وكان اسم الأكوع سنان ‏:‏ انزل يا ابن الأكوع ، فخذ لنا من هناتك، قال‏:‏ فنزل يرتجر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏

والله لولا الله ما اهتدينا

 

ولا تصدقنا ولا صلـينـا

إنا إذا قوم بغوا علينـا

 

وإن أرادوا فتنة أبـينـا

فأنزلن سكينة علـينـا

 

وثبت الأقدام إن لاقـينـا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يرحمك الله ؛ فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ وجبت والله يا رسول الله ، لو أمتعتنا به ‏!‏ فقتل يوم خيبر شهيداً ، وكان قتله ، فيما بلغني أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل ، فكلمه كلماً شديداً ، فمات منه ؛ فكان المسلمون قد شكوا فيه ، وقالوا ‏:‏ إنما قتله سلاحه حتى سأل ابن أخيه سلمة بن عمرو بن الأكوع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وأخبره بقول الناس ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إنه لشهيد وصلى عليه فصلى عليه المسلمون ‏.‏

دعاء الرسول لما أشرف على خيبر ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني من لا أتهم ، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي ، عن أبيه ، عن أبي معتب بن عمرو ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه ، وأنا فيهم ‏:‏ قفوا ، ثم قال ‏:‏ ‏"‏ اللهم رب السماوات وما أظللن ، ورب الأرضين وما أقللن ، ورب الشياطين وما أظللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شر أهلها وشر ما فيها ، أقدموا بسم الله ‏"‏ ‏.‏ قال ‏:‏ وكان يقولها عليه السلام لكل قرية دخلها ‏.‏

فرار أهل خيبر لما رأوا الرسول ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن أنس بن مالك ، قال ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذاناً أمسك ، وإن لم يسمع أذاناً أغار ‏.‏فنزلنا خيبر ليلاً ، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أصبح لم يسمع أذاناً، فركب وركبنا معه ، فركبت خلف أبي طلحة ، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستقبلنا عمال خيبر غادين ، قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم والجيش ، قالوا ‏:‏ محمد والخميس معه ‏!‏ فأدبروا هراباً ، فقال رسول الله صلى الله ليه وسلم ‏:‏ الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏حدثنا هارون عن حميد ، عن أنس بمثله ‏.‏

منازل الرسول في طريقة إلى خيبر ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر ، فبنى له فيها مسجد ، ثم على الصهباء ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه ، حتى نزل بواد يقال له الرجيع ، فنزل بينهم بين غطفان ، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

غطفان ومحاولتهم معونة خيبر ثم انخذا لهم ‏ :‏

فبلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر جمعوا له ، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه ، حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أمولاهم وأهليهم حساً ، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم ، فرجعوا على أعقابهم ، فأقاموا في أهليهم وأموالهم ، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ‏.‏

افتتاح رسول الله الحصون ‏ :‏

وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال يأخذها مالاً مالا ، ويفتتحها حصناً حصنا ، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن مسلمة ، ألقيت عليه منه رحا فقتلته ، ثم القموص ، حصن بني أبي الحقيق ‏.‏ وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا ، منهن صفية بنت حيي بن أخطب ، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وبنتي عم لها ؛ فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه ‏.‏ وكان دحية بن خليفة الكلبي قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية ، فلما أصفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها ، وفشت السبايا من خيبر في المسلمين ‏.‏

نهى الرسول يوم خيبر عن أشياء ‏ :‏

وأكل المسلمون لحوم الحمر الأهلية من حمرها ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهى الناس عن أمور سماها لهم ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن عمرو بن ضمرة الفزاري عن عبدالله بن أبي سليط ، عن أبيه ، قال ‏:‏ أتانا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية ، والقدور تفور بها ، فكفأناها على وجوهها ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن مكحول ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع ‏:‏ إتيان الحبالى من السبايا ، وعن أكل الحمار الأهلي ، وعن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن بيع المغانم حتى تقسم ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني سلام بن كركرة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري ، ولم يشهد جابر خيير ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر ، أذن لهم في أكل لحوم الخيل ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي مرزوق مولى تجيب ، عن حنش الصنعاني ، قال ‏:‏ غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب ، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها ‏:‏ جربة ، فقام فينا خطيباً ، فقال ‏:‏ يا أيها الناس ، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فينا يوم خيبر ، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماؤه زرع غيره ، يعني ‏:‏ إتيان الحبالى من السبايا ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنماً حتى يقسم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ‏.‏قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يزيد بن عبدالله بن قسيط ، أنه حدث عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين وتبر الفضة بالورق العين ؛ وقال ‏:‏ ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين ، وتبر الفضة بالذهب العين ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والأموال ‏.‏

شأن بني سهم الأسلميين

فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدثه بعض أسلم ‏:‏ أن بني سهم من أسلم ‏:‏ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ‏:‏ والله يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء ؛ فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يعطيهم إياه ‏.‏ فقال ‏:‏ اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة ، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه ، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء ، وأكثرها طعاماً وودكاً ، فغدا الناس ، ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاماً وودكاً منه ‏.‏

مقتل مرحب اليهودي ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح ، وحاز من الأموال ما حاز ، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم ، وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحاً ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏وكان شعار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ‏:‏ يا منصور أمت أمت ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن سهل بن عبدالرحمن بن سهل ، أخو بني حارثة ، عن جابر بن عبدالله ، قال ‏:‏ خرج مرحب اليهودي من حصنهم ، قد جمع سلاحه ، يرتجز وهو يقول ‏:‏

قد علمت خيبر أني مرحب

 

شاكي السلاح بطل مجـرب

أطعن أحياناً وحيناً أضرب

 

إذا الليوث أقبلـت تـحـرب

إن حماى للحمى لا يقرب

 

 

وهو يقول ‏:‏ من يبارز ‏؟‏ فأجابه كعب بن مالك ، فقال ‏:‏

قد علمت خيبر أني كـعـب

 

مفرج الغمي جـرئ صـلـب

وإذ شبت الحرب تلتها الحرب

 

معي حسام كالعقيق عـضـب

نطؤكم حتى يذل الصـعـب

 

نعط الجزاء أو يفيء النـهـب

بكف ماض ليس فيه عتـب

 

 

قال ابن هشام ‏:‏ أنشدني أبو زيد الأنصاري ‏:‏

قد علمت خيبر أنـي كـعـب

 

وأنني متـى تـشـب الـحـرب

ماض على الهول جريء صلب

 

معي حسام كالعـقـيق غـضـب

بكف ماض ليس فـيه عـتـب

 

ندككم حـتـى يذل الـصـعـب

قال ابن هشام ‏:‏ومرحب من حمير ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن سهل ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لهذا ‏؟‏ قال محمد بن مسلمة ‏:‏ أنا له يا رسول الله ، أنا والله الموتور الثائر ، قتل أخي بالأمس ؛ فقال ‏:‏ فقم إليه ، اللهم أعنه عليه ‏.‏ قال ‏:‏ فلما دنا أحدهما من صاحبه ، دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر ، فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه ، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها ، حتى برز كل واحد منها لصاحبه ، وصارت بينهما كالرجل القائم ، ما فيها فنن ، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة ، فضربه ، فاتقاه بالدرقة ، فوقع سيفه فيها ، فعضت به فأمسكته ، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله ‏.‏

مقتل ياسر أخو مرحب ‏ :‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر ، وهو يقول ‏:‏ من يبارز ‏؟‏ فزعم هشام بن عروة أن الزبير بن العوام خرج إلى ياسر ، فقالت أمه صفية بنت عبدالمطلب ‏:‏ يقتل ابني يا رسول الله ‏!‏ قال ‏:‏ بل ابنك يقتله إن شاء الله ‏.‏ فخرج الزبير فالتقيا ، فقتله الزبير ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني هشام بن عروة ‏:‏ أن الزبير كان إذا قيل له ‏:‏ والله إن كان سيفك يومئذ لصارماً عضباً ، قال ‏:‏ والله ما كان صارماً ، ولكني أكرهته ‏.‏شأن علي يوم خيبر ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي ، عن أبيه سفيان ، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع ، قال ‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه برايته ، وكانت بيضاء ، فيما قال ابن هشام ‏:‏ إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل ، فرجع ولم يك فتح ، وقد جهد ؛ ثم بعث الغد عمر بن الخطاب ، فقاتل ، ثم رجع ولم يك فتح ، وقد جهد ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، ليس بفرار ‏.‏ قال ‏:‏ يقول سلمة ‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضوان الله عليه ، وهو أرمد ، فتفل في عينه ، ثم قال ‏:‏ خذ هذه الراية ، فامض بها حتى يفتح الله عليك ‏.‏ قال ‏:‏ يقول سلمة ‏:‏ فخرج والله بها يأنح ، يهرول هرولة ، وإنا لخلفه نتبع أثره ، حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن ، فقال ‏:‏ من أنت ‏؟‏ قال‏:‏ أنا علي بن أبي طالب ‏.‏ قال ‏:‏ يقول اليهودي ‏:‏ علوتم وما أنزل على موسى ، أو كما قال ‏.‏ قال ‏:‏ فما رجع حتى فتح الله على يديه ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني عبدالله بن الحسن ، عن بعض أهله ، عن أبي رافع ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ خرجنا مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته ؛ فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه رجل من يهود ، فطاح ترسه من يده ، فتناول على عليه السلام بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي ، أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه ‏.‏

حديث أبي اليسر كعب بن عمرو ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي ، عن بعض رجال بني سلمة عن أبي اليسر كعب بن عمرو ، قال ‏:‏ والله إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية ، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ، ونحن محاصروهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من رجل يطعمنا من هذا الغنم ‏؟‏ قال أبو اليسر ‏:‏ فقلت ‏:‏ أنا يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ فافعل ؛ قال ‏:‏ فخرجت أشتد مثل الظليم ، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال ‏:‏ اللهم أمتعنا به ‏.‏ قال ‏:‏ فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن ، فأخذت شاتين من أخراها ، فاحتضنتهما تحت يدي ، ثم أقبلت بهما أشتد ، كأنه ليس معي شيء ، حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فذبحوهما فأكلوهما ‏.‏ فكان أبو اليسر من أخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلاكاً ‏.‏ فكان إذا حدث هذا الحديث بكى ، ثم قال ‏:‏ أمتعوا بي ، لعمري ، حتى كنت من أخرهم هلكاً ‏.‏

أمر صفية أم المؤمنين ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص ، حصن بني أبي الحقيق ، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب ، وبأخرى معها ، فمر بهما على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت ، وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ‏.‏ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ اعزبوا عني هذه الشيطانة ، وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه ؛ فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال ، فيما بلغني ، حين رأى بتلك اليهودية ما رأى ، أنزعت منك الرحمة يا بلا ، حين تمر بامرأتين علي قتلى رجالهما ‏؟‏ وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق ، أن قمراً وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها ، فقال ‏:‏ ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمداً ، فلطم وجهها لطمة خضر عينها منها ‏.‏ فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه ، فسألها ما هو ‏؟‏ فأخبرته هذا الخبر ‏.‏

بقية أمر خيبرعقوبة كنانة بن الربيع ‏ ‏

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير ، فسأله عنه ، فجحد أن يكون يعرف مكانه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من يهود ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة ‏:‏ أرأيت إن وجدناه عندك ، أأقتلك ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله عما بقي ، فأبى أن يؤديه ‏.‏ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام ، فقال ‏:‏ عذبه حتى تستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزندٍ في صدره ، حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة ، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة ‏.‏

مصالحة الرسول أهل خيبر ‏ ‏

وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم ، حتى إذا أيقنوا بالهلكة ، سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ، ففعل ‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها ‏:‏ الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم ، إلا ما كان من ذينك الحصنين ‏.‏ فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم ، وأن يحقن دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل ‏.‏ وكان فيمن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود ، أخو بني حارثة ، فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في الأموال على النصف ، وقالوا ‏:‏ نحن أعلم بها منكم ، وأعمر لها ‏.‏ فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف ، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم ؛ فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين ، وكانت فدك خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب ‏.‏

أمر الشاة المسمومة ‏ ‏

فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقيل لها ‏:‏ الذراع ؛ فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ؛ فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تناول الذراع ، فلاك منها مضغة ، فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأما بشر فأساغها ‏.‏ وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ، ثم قال ‏:‏ إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ، فاعترفت ؛ فقال ‏:‏ ما حملك على ذلك ‏؟‏ قالت ‏:‏ بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت ‏:‏ إن كان ملكاً استرحت منه ، وإن كان نبياً فسيخبر ، قال ‏:‏ فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ومات بشر من أكلته التي أكل ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى ، قال ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه ، ودخلت أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده ‏:‏ يا أم بشر ، إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر ‏.‏ قال ‏:‏ فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة ‏.‏

رجوع الرسول إلى المدينة ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادي القرى ، فحاصر أهله ليالي ، ثم انصرف راجعا إلى المدينة ‏.‏ مقتل غلام رفاعة الذي أهداه للرسول ‏ :‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني ثور بن يزيد ، عن سالم ، مولى عبدالله بن مطيع ، عن أبي هريرة ، قال ‏:‏ فلما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادي القرى نزلنا بها أصيلا مع مغرب الشمس ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام له ، أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي ، ثم الضبيني ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ جذام ، أخو لخم ‏.‏قال ‏:‏ فوالله إنه ليضع رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه سهم غرب فأصابه فقتله ؛ فقلنا ‏:‏ هنيئاً له الجنة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ كلا ، والذي نفس محمد بيده ، إن شملته الآن لتحترق عليه في النار ، كان غلها من فيء المسلمين يوم خيبر ‏.‏ قال ‏:‏ فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أصبت شراكين لنعلين لي ؛ قال ‏:‏ فقال ‏:‏ يقد لك مثلهما من النار ‏.‏

ابن مغفل وجراب شحم أصابه ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم ، عن عبدالله بن مغفل المزني ، قال ‏:‏ أصبت من فئ خيبر جراب شحم ، فاحتملته على عاتقي إلى رحلي وأصحابي ‏.‏ قال ‏:‏ فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها ، فأخذ بناحيته وقال ‏:‏ هلم هذا تقسمه بين المسلمين ؛ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ لا والله لا أعطيكه ؛ قال ‏:‏ فجعل يجاذبني الجراب ‏.‏ قال ‏:‏ فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك ‏.‏ قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً ، ثم قال لصاحب المغانم ‏:‏ لا أبا لك ، خل بينه وبينه ‏.‏ قال ‏:‏ فأرسله ، فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه ‏.‏

بناء الرسول بصفية وحراسة أبي أيوب للقبة ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية ، بخيبر أو ببعض الطريق ، وكانت التي جملتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان ، أم أنس أبن مالك ‏.‏ فبات بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له ، وبات أبو أيوب خالد بن زيد ، أخو بني النجار متوشحاً سيفه ، يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويطيف بالقبة ، حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رأى مكانه قال ‏:‏ ما لك يا أبا أيوب ‏؟‏ قال ‏:‏ يا رسول الله ، خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فخفتها عليك ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني ‏.‏

تطوع بلال للحراسة وغلبة النوم عليه ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال ‏:‏ لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ، فكان ببعض الطريق ، قال ‏:‏ من آخر الليل ‏:‏ من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام‏؟‏ قال بلال ‏:‏ أنا يا رسول الله أحفظه عليك ‏.‏ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل الناس فناموا ، وقام بلال يصلي ، فصلى ما شاء الله عز وجل أن يصلي ‏.‏ ثم استند إلى بعيره ، واستقبل الفجر يرمقه ، فغلبته عينه ، فنام فلم يوقظهم إلا مس الشمس ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أصحابه هب ، فقال ‏:‏ ماذا صنعت بنا يا بلال ‏؟‏ قال ‏:‏ يا رسول الله ، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ؛ قال ‏:‏ صدقت ؛ ثم اقتاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيره غير كثير ، ثم أناخ فتوضأ ، وتوضأ الناس ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ؛ فلما سلم أقبل على الناس فقال ‏:‏ إذ نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول ‏:‏ ‏ {(‏ أقم الصلاة لذكري ‏)} ‏

شعر لابن القيم في فتح خيبر ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني ، قد أعطى ابن لقيم العبسي ، حين افتتح خيبر ، ما بها من دجاجة أو داجن وكان فتح خيبر في صفر ، فقال ابن لقيم العبسي في خيبر ‏:‏

رميت نطاة من الرسول بفـيلـق

 

شهبـاء ذات مـنـاكـب وفـقـار

واستيقنت بالـذل لـمـا شـيعـت

 

ورجال أسلم وسـطـهـا وغـفـار

صبحت بني عمرو بن زرعة غدوة

 

والشق أظـلـم أهـلـه بـنـهـار

جرت بأبطحها الذيول فـلـم تـدع

 

إلا الدجاج تصـيح فـي الأسـحـار

ولكل حصن شاغل من خـيلـهـم

 

من عبد أشهل أو بـنـي الـنـجـار

ومهاجرين قد اعلموا سـيمـاهـم

 

فوق المغـافـر لـم ينـوا لـفـرار

ولقد علمت ليغلـبـن مـحـمـد

 

ولـيثـوين بـهـا إلـى أصـفـار

فرت يهود يوم ذلك في الـوغـى

 

تحت العجـاج غـمـائم الأبـصـار

تفسير ابن هشام لبعض الغريب ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏فرت ‏:‏ كشفت ، كما تفر الدابة بالكشف عن أسنانها ؛ يريد كشفت عن جفون العيون غمائم الأبصار ، يريد الأنصار ‏.‏

شهود النساء خيبر وحديث المرأة الغفارية ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من نساء المسلمين ، فرضخ لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء ، ولم يضرب لهن بسهم ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني سليمان بن سحيم ، عن أمية بن أبي الصلت ، عن امرأة من بني غفار ، قد سماها لي ، قالت ‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار ، فقلن ‏:‏ يا رسول الله ، قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا ، وهو يسير إلى خيبر ، فنداوي الجرحى ، ونعين المسلمين بما استطعنا ؛ فقال ‏:‏ على بركة الله ‏.‏ قالت ‏:‏ فخرجنا معه ، وكنت جارية حدثه ، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح وأناخ ، ونزلت عن حقيبة رحله ، وإذا بها دم مني ، وكانت أول حيضة حضتها ‏.‏ قالت ‏:‏ فتقبضت إلى الناقة واستحييت ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم ، قال ‏:‏ ما لك ‏؟‏ لعلك نفست ؛ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ نعم ؛ قال ‏:‏ فأصلحي من نفسك ، ثم خذي إناء من ماء ، فاطرحي فيه ملحاً ثم اغسلي به ما أصاب الحقيبة من الدم ، ثم عودي لمركبك ‏.‏ قالت ‏:‏ فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، رضخ لنا من الفيء ، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها ، وعلقها بيده في عنقي ، فوالله لا تفارقني أبداً ‏.‏ قالت ‏:‏ فكانت في عنقها حتى ماتت ، ثم أوصت أن تدفن معها ‏.‏ قالت ‏:‏ وكانت لا تطهر من حيضة إلا جعلت في طهورها ملحاً ، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت ‏.‏

شهداء خيبر من بني أمية ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وهذه تسمية من استشهد بخيبر من المسلمين ، من قريش ، ثم من بني أمية بن عبد شمس ، ثم من حلفائهم ربيعة بن أكثم بن سخبرة بن عمرو بن بكير بن عامر بن غنم بن دودان بن أسد ، وثقيف بن عمرو ، ورفاعة بن مسروح ‏.‏

من بني أسد ‏ :‏

ومن بني أسد بن عبدالعزى ‏:‏ عبدالله الهبيب ، ويقال ‏:‏ ابن الهبيب ، فيما قال ابن هشام ، ابن أهيب بن سحيم بن غيره ، من بني سعد ابن ليث ، حليف لبني أسد ، وابن أختهم ‏.‏

من الأنصار ‏ :‏

ومن الأنصار ثم من بني سلمة ‏:‏ بشر بن البراء بن معرور ، مات من الشاة التي سم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ وفضيل بن النعمان ‏.‏ رجلان ‏.‏

من زريق ‏ :‏

ومن بني زريق ‏:‏ مسعود بن سعد بن قيس بن خلده بن عامر بن زريق ‏.‏

من الأوس ‏:‏

ومن الأوس ثم من بني عبدالأشهل ‏:‏ محمود بن مسملة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث ، حليف لهم من بني حارثة ‏.‏

من بني عمرو ‏ :‏

ومن بني عمرو بن عوف ‏:‏ أبو ضياح بن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن عوف ؛ والحارث بن حاطب ؛ وعروة بن مرة بن سراقة ؛ وأوس بن القائد ؛ وأنيف بن حبيب ؛ وثابت بن أثلة ؛ وطلحة ‏.‏

من غفار ‏ :‏

ومن بني غفار ‏:‏ عمارة بن عقبة ، رمي بسهم ‏.‏

من أسلم ‏ :‏

ومن أسلم ‏:‏ عامر بن الأكوع ؛ والأسود الراعي ، وكان اسمه أسلم ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ الأسود الراعي من أهل خيبر ‏.‏

من بني زهرة ‏ :‏

ومن استشهد بخيبر فيما ذكر ابن شهاب الزهري ، من بني زهرة ‏:‏ مسعود بن ربيعة ، حليف لهم من القارة ‏.‏

من الأنصار ‏ :‏

ومن الأنصار بني عمرو بن عوف ‏:‏ أوس بن قتادة ‏.‏

أمر الأسود الراعي في حديث خيبر
إسلامه واستشهاده ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان من حديث الأسود الراعي ، فيما بلغني أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ، ومعه غنم له ، كان فيها أجيراً لرجل من يهود ‏.‏فقال ‏:‏ يا رسول الله، أعرض علي الإسلام فعرضه عليه ، فأسلم - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحداً أن يدعوه إلى الإسلام ، ويعرضه عليه - فلما أسلم قال ‏:‏ يا رسول الله ، إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي ، فكيف أصنع بها ‏؟‏ قال ‏:‏ اضرب في وجوهها فإنها سترجع إلى ربها - أو كما قال - فقال الأسود ، فأخذ حفنة من الحصى ، فرمى بها في وجوهها ، وقال ‏:‏ ارجعي إلى صاحبك ، فوالله لا أصحبك أبداً ، فخرجت مجتمعة ، كأن سائقاً يسوقها ، حتى دخلت الحصن ، ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين ، فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ‏.‏ فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضع خلفه ، وسجي بشملة كانت عليه ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه نفر من أصحابه ، ثم أعرض عنه ، فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، لم أعرضت عنه ‏؟‏ قال ‏:‏ إن معه الآن زوجتيه من الحور العين ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وأخبرني عبدالله بن أبي نجيح أنه ذكر له ‏:‏ أن الشهيد إذا ما أصيب تدلت له زوجتاه من الحور العين ، عليه تنفضان التراب عن وجهه ، وتقولان ‏:‏ ترب الله وجه من تربك، وقتل من قتلك ‏.‏

أمر الحجاج بن علاط السلمي
حيلته في جمع ماله من مكة ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما فتحت خيبر ، كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده ، له منها معرض بن الحجاج ومال متفرق في تجار أهل مكة ، فأذن لي يا رسول الله ؛ فأذن له ، قال ‏:‏ إنه لا بد لي يا رسول الله من أن أقول ؛ قال ‏:‏ قل ‏.‏ قال الحجاج ‏:‏ فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثينة البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار ، ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بلغهم نه قد سار إلى خيبر ، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ، ريفا ومنعة ورجالاً ، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الركبان ، فلما رأوني قالوا ‏:‏ الحجاج بن علاط - قال ‏:‏ ولم يكونوا علموا بإسلامي عنده والله الخبر - أخبرنا يا أبا محمد ، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر ، وهي بلد يهود وريف الحجاز ‏.‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم ؛ قال ‏:‏ فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون ‏:‏ إيه يا حجاج ؛ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط ، وأسرمحمد أسراً ، وقالوا ‏:‏ لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة ، فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم ‏.‏ قال ‏:‏ فقاموا وصاحوا بمكة ، وقالوا ‏:‏ قد جاءكم الخبر ، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم ، فيقتل بين أظهركم ‏.‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي ، فإني أريد أن أقدم خيبر ، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ من فيء محمد ‏.‏

العباس يستوثق من خبر الحجاج ويفاجئ قريشاً ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ قال ‏:‏ فقاموا فجمعوا لي مالي كأحث جمع سمعت به ‏.‏ قال ‏:‏ وجئت صاحبتي فقلت ‏:‏ مالي ، وقد كان لي عندها مال موضوع ، لعلي ألحق بخيبر ، فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار ‏.‏ قال ‏:‏ فلما سمع العباس بن عبدالمطلب الخبر ، وجاءه عني ، أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار ، فقال ‏:‏ يا حجاج ، ما هذا الخبر الذي جئت به ‏؟‏ قال ‏:‏ فقلت ‏:‏ وهل عندك حفظ لما وضعت عندك ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم قال ‏:‏ قلت ‏:‏ فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء ، فأني في جمع مالي كما ترى ، فانصرف عني حتى أفرغ ‏.‏ قال ‏:‏ حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة ، وأجمعت الخروج ، لقيت العباس ، فقلت ‏:‏ احفظ علي حديثي يا أبا الفضل ، فإني أخشى الطلب ثلاثاً ، ثم قل ما شئت ، قال ‏:‏ افعل ‏.‏  قلت ‏:‏ فإني والله لقد تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم ، يعني ‏:‏ صفية بنت حيي ، ولقد افتتح خيبر ، وانتثل ما فيها ، وصارت له ولأصحابه ؛ فقال ‏:‏ ما تقول يا حجاج ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ إي والله ، فاكتم عني ، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي ، فرقا من أن أغلب عليه ، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك ، فهو والله على ما تحب قال ‏:‏ حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له ، وتخلق ، وأخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى الكعبة ، فطاف بها ، فلما رأوه قالوا ‏:‏ يا أبا الفضل ، هذا والله التجلد الحر المصيبة ؛ قال ‏:‏ كلا والله الذي حلفتم به ، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروساً على بنت ملكهم ، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه ؛ قالوا ‏:‏ من جاءك بهذا الخبر ‏؟‏ قال ‏:‏ الذي جاءكم بما جاءكم به ، ولقد دخل عليكم مسلماً ، فأخذ ماله ، فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه ، فيكون معه؛ قالوا ‏:‏ يا لعباد الله ‏!‏ انفلت عدو الله ، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن ؛ قال ‏:‏ ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك ‏.‏

شعر حسان في يوم خيبر ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان مما قيل من الشعر في يوم خيبر قول حسان بن ثابت ‏:‏

بئسما قاتلت خيابـر عـمـا

 

جمعوا من مـزارع ونـخـيل

كرهوا الموت فاستبيح حماهم

 

وأقروا فعل الـلـئيم الـذلـيل

أمن الموت يهبوا فإن الموت

 

موت الهـزال غـير جـمـيل

شعر حسان في عذر أيمن لتخلفه عن خيبر ‏ :‏

وقال حسان بن ثابت أيضاً ، وهو يعذر أيمن ابن أم أيمن بن عبيد ، كان قد تخلف عن خيبر ، وهو من بني عوف بن الخزرج ، وكانت أمه أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي أم أسامة بن زيد ، فكان أخا أسامة لأمه ‏:‏

على حين أن قالت لأيمـن أمـه

 

جبنت ولم تشهد فـوارس خـيبـر

وأيمن لم يجبن ولكـن مـهـره

 

أضر به شرب المديد المـخـمـر

ولولا الذي قد كان من شان مهره

 

لقاتل فيهم فارسـا غـير أعـسـر

ولكنه قد صده فـعـل مـهـره

 

وما كان منه عـنـده غـير أيسـر

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو زيد هذه الأبيات لكعب بن مالك ، وأنشدني ‏:‏

ولكنه قد صده شأن مهره وما

 

وما كان لولا ذاكم بمـقـصـر

شعر ناجية في يوم خيبر

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال ناجية بن جندب الأسلمي ‏:‏

يا لعباد الله فيم يرغب

 

ما هو إلا مأكل ومشرب

وجنة فيها نعيم معجب

 

 

وقال ناجية بن جندب الأسلمي أيضاً ‏:‏

أنا لمن أنكرني ابن جندب

 

يا رب قرن في مكري أنكب

طاح بمغدي أنسر وثعلب

 

 

قال ابن هشام ‏:‏ وأنشدني بعض الرواة للشعر قوله ‏:‏ في مكرى ، وطاح بمغدي ‏.‏

شعر كعب بن مالك في يوم خيبر ‏:‏

وقال كعب بن مالك في يوم خيبر ، فيما ذكر ابن هشام ، عن أبي زيد الأنصاري ‏:‏

ونحن وردنا خيبرا وفـروضـه

 

بكل فتى عاري الأشـاجـع مـذود

جواد لدى الغايات لاواهن القوى

 

جريء على الأعداء في كل مشهد

عظيم رماد القدر في كل شتـوة

 

ضروب بنصل المشرفي المهـنـد

يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة

 

من الله يرجوها وفوزاً بـأحـمـد

يذود ويحمي عن ذمار محـمـد

 

ويدفع عنه بـالـلـسـان وبـالـيد

وينصره من كـل أمـر يريبـه

 

يجود بنفس دون نفـس مـحـمـد

يصدق بالأنباء بالغيب مخلـصـا

 

يريد بذاك الفوز والعـز فـي غـد