اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينهم وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزانهم عن النار ويدلونهم على طريق النجاة وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم قال ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني الله واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة وعلامة هذا الصنف
92
من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقي إليه قال وقد سئل عن الوحي أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ويدركه أثناء ذلك من الشدة والغط ما لا يعبر عنه ففي الحديث كان مما يعالج من التنزيل شدة وقالت عائشة كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه إن جبينه ليتفصد عرقا وقال تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ولأجل هذه الغاية في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون له رئي أو تابع من الجن وإنما ليس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال ومن يضلل فما له من هاد ومن علاماتهم أيضا أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيا عليه حتى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال إني أناجي من لا تناجون وأنظر لما أخبر النبي خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت إنه ملك وليس بشيطان ومعناه أنه لا يقرب النساء وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت إنه الملك يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر والشياطين وأمثال ذلك
93
ومن علاماتهم أيضا دعاؤهم إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف وقد استدلت خديجة على صدقه بذلك وكذلك أبو بكر ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه وفي الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال بم يأمركم فقال أبو سفيان بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال إن يكن ما تقول حقا فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين والعفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلا على صحة نبوته ولم يحتج إلى معجزة فدل على أن ذلك من علامات النبوة ومن علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوي حسب في قومهم وفي الصحيح ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه وفي رواية أخرى في ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين وفي مسألة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال كيف هو فيكم فقال أبو سفيان هو فينا ذو حسب فقال هرقل والرسل تبعث في أحساب قومها ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته ومن علاماتهم أيضا وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد وإنما تقع في غير محل قدرتهم وللناس في كيفية وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف فالمتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنها واقعة بقدرة الله لا بفعل النبي وإن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم وليس للنبي فيها عند سائر المتكلمين إلا التحدي بها بإذن الله وهو أن يستدل بها النبي قبل وقوعها على صدقه في مدعاه فإذا وقعت تنزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه صادق وتكون دلالتها حينئذ على الصدق قطعية فالمعجزة الدالة بمجموع الخارق والتحدي ولذلك كان التحدي جزءا منها وعبارة المتكلمين صفة نفسها وهو واحد لأنه معنى الذاتي عندهم والتحدي هو الفارق بينها وبين الكرامة
94
والسحر إذ لا حاجة فيهما إلى التصديق فلا وجود للتحدي إلا إن وجد اتفاقا وإن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة فإنما هي على الولاية وهي غير النبوة ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحاق وغيره وقوع الخوارق كرامة فرارا من الالتباس بالنبوة عند التحدي بالولاية وقد أريناك المغايرة بينهما وأنه يتحدى بغير ما يتحدى به النبي فلا لبس على أن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحا وربما حمل على إنكار لأن تقع خوارق الأنبياء لهم بناء على اختصاص كل من الفريقين بخوارقه وأما المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أن الخوارق ليست من أفعال العباد وأفعالهم معتادة فلا فرق وأما وقوعها على يد الكاذب تلبيسا فهو محال أما عند الأشعرية فلأن صفة نفس المعجزة التصديق والهداية فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدليل شبهة والهداية ضلالة والتصديق كذبا واستحالت الحقائق وانقلبت صفات النفس وما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكنا وأما عند المعتزلة فلأن وقوع الدليل شبهة والهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله وأما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي ولو كان في غير محل القدرة وبناء على مذهبهم في الإيجاب الذاتي ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف على الأسباب والشروط الحادثة مستندة أخيرا إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار وإن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين والنبي عندهم مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك والخارق عندهم يقع للنبي سواء كان للتحدي أم لم يكن وهو شاهد بصدقه من حيث دلالته على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعية كما هي عند المتكلمين ولا يكون التحدي جزءا من المعجزة ولم يصح فارقا لها عن السحر والكرامة وفارقها عندهم عن السحر أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه والساحر على الضد فأفعاله كلها شر وفي مقاصد الشر وفارقها عن الكرامة أن خوارق النبي مخصوصة كالصعود إلى السماء والنفوذ في الأجسام الكثيفة وإحياء الموتى وتكليم الملائكة والطيران
95
في الهواء وخوارق الولي دون ذلك كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل وأمثاله مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء ويأتي النبي بجميع خوارقه ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء وقد قرر ذلك المتصوفة فيما كتبوه في طريقتهم ولقنوه عمن أخبرهم وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه وهذا معنى قوله ما من نبي من الأنبياء إلا وأتي من الآيات ما مثله أمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي إلي فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس لوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن وهو التابع ولأمه ولنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة على ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شان العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب فنقول اعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني وأولا عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعدا من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلا بعضها ببعض وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدا وهابطا ويستحيل بعض الأوقات والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط وبها
96
يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها ثم انطر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول الرفق الذي بعده واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده وهذا غاية شهودنا ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثارا متنوعة ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثرا مباينا للأجسام فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في وجودها ولذلك هو النفس المدركة والمحركة ولا بد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة ويتصل بها أيضا ويكون ذاته إدراكا صرفا وتعقلا محضا وهو عالم الملائكة فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللمحات وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد ويكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه فلها في الاتصال جهتا العلو والسفل وهي متصلة بالبدن من أسفل منها وتكتسب به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان وهذا على ما قدمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته وقواه بعضها ببعض ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومفترقة آلآت للنفس ولقواها أما الفاعلية فالبطش باليد والمشي بالرجل والكلام باللسان والحركة الكلية
97
بالبدن متدافعا وأما المدركة وإن كانت قوى الإدراك مرتبة ومرتقية إلى القوة العليا منها ومن المفكرة التي يعبر عنها بالناطقية فقوى الحس الظاهرة بآلاته من السمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن وأوله الحس المشترك وهو قوة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال وهي قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ مقدمة للأولى ومؤخرة للثانية ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة والحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد وصداقة عمرو ورحمة الأب وافتراس الذئب والحافظة لإبداع المدركات كلها متخيلة وهي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من الدماغ أوله للأولى ومؤخره للأخرى ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر وآلته البطن الأوسط من الدماغ وهي القوة التي يقع بها حركة الرؤية والتوجه نحو التعقل فتحرك النفس بها دائما لما ركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة والاستعداد الذي للبشرية وتخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهة بالملأ الأعلى الروحاني وتصير في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية فهي متحركة دائما ومتوجهة نحو ذلك وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل الله فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك والنفوس البشرية على ثلاثة أصناف صنف عاجز بالطبع عن الوصول فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة وترتيب خاص يستفيدون به العلوم التصويرية والتصديقية التي للفكر في البدن وكلها خيالي منحصر نطاقه إذ هو من جهة مبداه ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها وإن فسد ما بعدها وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري الجسماني وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم وصنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد
98
لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدارك الأول البشري ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية وهي وجدان كلها نطاق لها من مبداها ولا من منتهاها وهذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم الدينية والمعارف الربانية وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ وصنف مفطورعلىالانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكا بالفعل ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحةوهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جعل الله لهم الإنسلاخ من البشرية في تلك اللمحة وهي حالة الوحي فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صورهم فيها ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاؤوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة فلذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه عاجوا به على المدارك البشرية منزلا في قواها لحكمة التبليغ للعباد فتارة يسمع أحدهم دويا كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه وتارة يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلا فيكلمه ويعي ما يقوله والتلقي من الملك والرجوع إلى المدارك البشرية وفهمه ما ألقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلها تقع جميعا فيظهر كأنها سريعة ولذلك سميت وحيا لأن الوحي في اللغة الإسراع وأعلم أن الأولى وهي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حققوه والثانية وهي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين ولذلك كانت أكمل من الأولى وهذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي الوحي لما سأله الحارث بن هشام وقال كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى الفعل
99
فيعسر بعض العسر ولذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع وصعب ما سواه وعندما يتكرر الوحي ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعند ما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على جميعها وخصوصا الأوضح منها وهو إدراك البصر وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع ومثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة وشدة قد اشار إليها القرآن قال تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وقالت عائشة كان مما يعاني من التنزيل شدة وقالت كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف وسبب ذلك أن الوحي كما قررنا مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر وهذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في قوله فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء وكذا ثانية وثالثة كما في الحديث وقد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئا فشيئا إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله ولذلك كان تنزل نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة وانظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك وأنها نزلت كلها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقته بعد أن كان بمكةينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت وينزل الباقي في حين آخر وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين وهي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن والذاريات والمدثر والضحى والفلق وأمثالها واعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي والمدني من السور والآيات والله المرشد إلى الصواب هذا محصل أمر النبوة وأما الكهانة فهي أيضا
100
من خواص النفس الإنسانية وذلك أنه قد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعدادا للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها وأنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية فالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد موجودا في الطبيعة البشرية فيعطى التقسيم العقلي وإن هنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه وشتان ما بينهما فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفا آخر من البشر مفطورا على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذا تاما في نوم أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه فربما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعا ولا يكون موثوقا به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصا على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويها على السائلين وأصحاب هذا السجع هم
101
المخصوصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر أصنافهم وقد قال في مثله هذا من سجع الكهان فجعل السجع مختصا بهم بمقتضى الإضافة وقد قال لابن صياد حين سأله كاشفا عن حاله بالأخبار كيف يأتيك هذا الأمر قال يأتيني صادقا وكاذبا فقال خلط عليك الأمر يعني أن النبوة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملأ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي والكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه والتبست بالإدراك الذي توجه إليه فصار مختلطا بها وطرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبوة وإنما قلنا إن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخف من سائر المغيبات من المرئيات والمسموعات وتدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتصال والإدراك والبعد فيه عن العجز بعض الشيء وقد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبوة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة وأن ذلك كان لمنعهم من خير السماء كما وقع في القرآن والكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين فبطلت الكهانة من يومئذ ولا يقوم من ذلك دليل لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضا كما قررنا وأيضا فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك وأيضا فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه وهذا هو الظاهر لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور ويذهب وقد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبوة ثم تنقطع وهكذا كل نبوة وقعت لأن وجود النبوة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه وفي تمام ذلك الوضع تمام تلك النبوة التي دل عليها ونقص ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة وهو معنى الكاهن على ما قررناه فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص ويقتضي وجود الكاهن إما واحد أو متعددا فإذا تم ذلك الوضع ثم وجود النبي بكماله وانقضت الأوجاع
102
الدالة على مثل تلك الطبيعة فلا يوجد منها شيء بعد وهذا بناء على أن بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره وهو غير مسلم فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخالصة ولو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئا لا إنه يقتضي ذلك الأثر ناقصا كما قالوه ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة كما لكل إنسان من أمر اليوم ومعقوبية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبوة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ وكذا وقع لابن صياد ولمسيلمة وغيرهم فإذا غلب الإيمان وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان وأما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناصقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية والمدارك البدنية وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما لتشوف إليه من الأمور المستقبلة وتعود به إلى مداركها فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلصه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير وقد يكون الاقتباس قويا يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوم مستكملة بالبدن ومداركه حتى تصير ذاتها تعقلا محضا ويكمل وجودهما بالفعل فتكون حينئذ ذاتا روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية إلا أن نوعها في الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن ومنه خاص كالذي للأولياء ومنه عام للبشر على العموم وهو أمر الرؤيا وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكررا في حالات الوحي وهو عندما
103
يعرج على المدارك البدنية ويقع فيها ما يقع من الإدراك شبيها بحال النوم شبها بينا وإن كان حال النوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وفي رواية ثلاثة وأربعين وفي رواية سبعين وليس العدد في جميعها مقصودا بالذات وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه وهو للتكثير عند العرب وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستة وأربعين من أن الوحي كان في مبداه بالرؤيا ستة أشهر وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين فكلام بعيد من التحقيق لأنه إنما وقع ذلك للنبي ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة ولا يعطى حقيقتها من حقيقة النبوة وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولا علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات اللهم عليهم إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاما في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب ولذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات يا رسول الله قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني وهو بخار لطيف مركزه بالتجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة وسائر الأفعال البدنية ويرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده وتتم أفعال القوى التي في بطونه فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري وهي متعلقة به لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية
104
صار محلا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين إدراك بالظاهر وهو الحواس الخمس وإدارك بالباطن وهو القوى الدماغية وأن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية التي هي مستعدة له بالفطرة ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية كانت معرضة للوسن والفشل بما يدركها من التعب والكلال وتغشى الروح بكثرة التصرف فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من أن الحواس الظاهرة كلها ورجوعه إلى الحس الباطن ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن وتذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيعة مركبها وهو الروح الحيواني إلى الباطن ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ورجع إلى القوى الباطنة وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة تمثل منها بالتركيب والتحليل صور خيالية وأكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية مع منازعتها القوى الباطنية فتدرك بإدراكها الروحاني لأنها مفطورة عليه وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام وفي الصحيح أن النبي قال الرؤيا ثلاث رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه فالجلي من الله والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك وأضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل والشيطان ينبوع الباطل هذه حقيقة الرؤيا وما يسببها ويشيعها من النوم وهي خواص للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كل واحد من الإنساني رأى في نومه ما صدر
105
له في يقظته مرارا غير واحدة وحصل له على القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم ولا بد وإذا جاز ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غيره من الأحوال لأن الذات المدركة واحدة وخواصها عامة في كل حال والله الهادي إلى الحق بمنه وفضله فصل ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالبا إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه وإنما تكون النفس متشوفة لذلك الشيء فيقع لها بتلك اللمحة في النوم لأنها تقصد إلى ذلك فتراه وقد وقع في كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرياضيات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه ويسمونها الحالومية وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام وهو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر وصحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية وهي تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس ويذكر حاجته فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم وحكي إن رجلا فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره فتمثل له شخص يقول له أنا طباعك التام فسأله وأخبره عما كان يتشوف إليه وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة واطلعت بها على أمور كنت أتشوف عليها من أحوالي وليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها وإنما هذه الحالومات تحدث استعدادا في النفس لوقوع الرؤيا فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعد له وللشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب ولا يكون دليلا على إيقاع المستعد له فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء فاعلم ذلك وتدبره فيما تجد من أمثاله والله الحكيم الخبير فصل ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم ولا من غيرها إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزجر في الطير والسباع وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحدا جحدها ولا إنكارها وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم
106
كلمات من الغيب فيخبرون بها وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب وكذلك أهل الرياضيات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة ونحن الآن نتكلم عن هذه الإدراكات كلها ونبتدىء منها بالكهانة ثم نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها ونقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الإنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها وذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة إلى الفعل بالبدن وأحواله وهذا أمر مدرك لكل أحد وكل ما بالقوة فله مادة وصورة وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك والتعقل فهي توجد أولا بالقوة مستعدة للإدراك وقبول الصور الكلية والجزئية ثم يتم نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها وما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور مرة بعد أخرى حتى يحصل لها الإدراك والتعقل بالفعل فتتم ذاتها وتبقى النفس كالهيولى والصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة ولذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف ولا بغيرهما وذلك أن صورتها التي هي عين ذاتها وهي الإدراك والتعقل لم تتم بعد بل لم يتم لها انتزاع الكليات ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وبشواغلها لأن الحواس أبدا جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أولا من الإدراك الجسماني وربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطرق أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية فتلتفت حيئنذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود كما قررنا قبل وتلك الذوات روحانية وهي إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مر فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علوما وربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفه في القوالب المعتادة ثم يراجع الحس بما أدركت إما مجردا أو في
107
قوالبه فتخبر به هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها وأهل الطرق بالحصى والنوى فكلهم من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها في نوع واحد منها وأشرفها البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنه غمام يتمثل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليهم فالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال وإنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك وهو نفساني ليس من إدراك البصر بل يتشكل به المدرك النفساني للحس كما هو معروف ومثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وللناظرين في الماء والطساس وأمثال ذلك وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبر كما أدرك ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين والعالم أبو الغرائب وأما الزجر وهو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعينا بما رآه أو سمعه فيؤديه ذلك إلى إدراك ما كما تفعله القوة المتخيلة في النوم وعند ركود الحواس تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته وتجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرؤيا وأما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد أمزجتهم غالبا وضعف الروح الحيواني فيها فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواس ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه وربما زاحمها على
108
التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن حسه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال وربما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنه لا يحصل لهم الاتصال وإن فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك وأما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتصال فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه ويأخذون فيه بالظن والتخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادىء ذلك الاتصال والإدراك ويدعون بذلك معرفة الغيب وليس منه على الحقيقة هذا تحصيل هذه الأمور وقد تكلم عليها المسعودي في مروج الذهب فما صادف تحقيقا ولا إصابة ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيدا عن الرسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله وهذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك واشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار وسطيح بن مازن بن غسان وكان يدرج كما يدرج الثوب ولا عظم فيه إلا الجمجمة ومن مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعة بن مضر وما أخبراه به ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النبوة المحمدية في قريش ورؤيا المؤبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس وهذه كلها مشهورة وكذلك العرافون كان في العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم قال فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك إن داويتني لطبيب وقال الآخر جعلت لعراف اليمامة حكمة وعراف نجد إن هما شفياني فقالا شفاك الله والله ما لنا بما حملت منك الضلوع يدان
109
وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة وعراف نجد الأبلق الأسدي ومن هذه المدارك الغيبية ما يصدر لبعض الناس عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد ولا يقع ذلك إلا في مبادىء النوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختبار في الكلام فيتكلم كأنه مجبول على النطق وغايته أن يسمعه ويفهمه وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنهم قتلوا من سجونهم أشخاصا ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عوقب أمورهم في أنفسهم فاعلموهم بما يستشبع وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أن آدميا إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعين يوما يغذى بالتين والجور حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق وشؤون رأسه فيخرج من ذلك الدهن فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة وهذا فعل من مناكير أفعال السحرة ولكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني ومن الناس من يحاول حصول هذه المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتا صناعيا بإماتة جميع القوى البدنية ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع ومن المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابة واطلعت النفس على المغيبات ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا خصوصا بلاد الهند ويسمون هنالك الحوكية ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة والأخبار عنهم في ذلك غريبة وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله وإذا عريت عن الذكر كانت شيطانية وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أول
110
الأمر لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب وأخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك قال بعضهم من أثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصود لهم وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنما يريد الله لذاته لا لغيره وحصول ذلك لهم معروف ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفا وما يقع لهم من التصرف كرامة وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني وأبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فرارا من التباس المعجزة بغيرها والمعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال إن فيكم محدثين وإن منهم عمر وقد وقع الصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه يا سارية الجبل وهو سارية بن زنيم كان قائدا على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات وتورط مع المشتركين في معترك وهم بالانهزام وكان بقربه جبل يتحيز إليه فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه يا سارية الجبل وسمعه سارية وهو بمكانه ورأى شخصه هنالك والقصة معروفة ووقع مثله أيضا لأبي بكر في وصيته عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة فقال في سياق كلامه وإنما هما أخواك وأختاك فقالت إنما هي أسماء فمن الأخرى فقال إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية فكانت جارية وقع في الموطأ في باب ما لا يجوز من النحل ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصالحين وأهل الاقتداء إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي حتى إنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها والله يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحق ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين وعلم ذلك من
111
أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين ويقع لهم من الأخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب وربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم والولاية لا تحصل إلا بالعبادة وهو غلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها وإذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين وإنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف وهي صفة خاصة للنفس وهي علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله وكأنه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش ولا استحالة في ذلك ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم ولك في تمييزهم علامات منها أن هؤلاء البهاليل لا تجد لهم وجهة أصلا ومنها أنهم يخلقون على البله من أول نشأتهم والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعيةفإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوابالخيبة ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم والمجانين لا تصرف لهم وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه والله المرشد للصواب وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك وآثارها في العناصر وما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتناظر ويتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء وهؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء وإنما هي ظنون حدسية وتخمينات مبنية على التأثير النجومية وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس ونحن نبين بطلان ذلك في محلة
112
إن شاء الله وهو لو ثبت فغايته حدس وتخمين وليس مما ذكرناه في شيء ومن هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم ومحصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالا ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجية والفردية واستوائها فيهما فكانت ستة عشر شكلا لأنها إن كانت أزواجا كلها أو أفرادا كلها فشكلان وإن كان الفرد فيهما في مرتبة واحدة فقط فأربعة أشكال وإن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال جاءت ستة عشر شكلا ميزوها كلها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس شأن الكواكب وجعلوا لها ستة عشر بيتا طبيعية بزعمهم وكأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك والأوتاد الأربعة وجعلوا لكل شكل منها بيتا وخطوطا ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به واستنبطوا من ذلك فنا حاذوا به فن النجامة ونوع فضائه إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما يزعم بطليموس وهذه إنما مستندها أوضاع تحكيمية وأهواه اتفاقية ولا دليل يقوم على شيء منها ويزعمون أن أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم وربما نسبوها إلى دانيال أو إلى أدريس صلوات الله عليهما شأن الصنائع كلها وربما يدعون مشروعيتها ويحتجون بقوله كان نبي يخط فمن وافق خطه فذاك وليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك الخط ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطه ذلك النبي فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط وأما إذا أخذ ذلك من الخط مجردا من غير موافقة وحي فلا وهذا معنى الحديث والله أعلم فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطورا على عدد المراتب الأربع ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطرا ثم يطرحون النقط أزواجا ويضعون ما بقي من كل سطر زوجا كان أو فردا في مرتبته على الترتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ثم يولدون منها
113
أربعة أشكال أخرى من جانب العرض باعتبار كل مرتبة وما قابلها من الشكل الذي بإزائه وما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثم يولدون من كل شكلين شكلا تحتهما باعتبار ما يجتمع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضا من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها من الشكلين شكلا كذلك تحتهما ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلا يكون آخر الستة عشر ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة والنحوسة بالذات والنظر والحلول والامتزاج والدلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكما غريبا وكثرت هذه الصناعة في العمران ووضعت فيها التآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدمين والمتأخرين وهي كما رأيت تحكم وهوى والتحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة ولا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع من عالم الحس إلى عالم الروح ولذلك يسمي المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب فالخط وغيره من هذه إن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية وقصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها إشغال الحس لترجع النفس إلى عالم الروحانيات لحظة ما فهو من باب الطرق بالحصى والنظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشفافة كما ذكرناه وإن لم يكن كذلك وإنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة وأنها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل والله يهدي من يشاء والعلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذه الإدراك الغيبي أنهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب والتمطط ومبادىء الغيبة عن الحس ويختلف ذلك بالقوة والضعف على اختلاف وجودها فيهم فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنما هو ساع في تنفيق كذبه ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس الروحانية ولا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما
114
زعمه بطليموس ولا من الظن والتخمين الذي يحاول عليه العرافون وإنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة ولست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون وولع به الخواص فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم وهو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك وهو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى الألف آحادا وعشرات ومئين وألوفا فإذا حسبت الاسم وتحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة تسعة واحفظ بقية هذا وبقية هذا ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين فإن كان العددان مختلفين في الكمية وكانا معا زوجين أو فردين معا فصاحب الأقل منهما هو الغالب وإن كان أحدهما زوجا والآخر فردا فصاحب الأكثر هو الغالب وإن كانا متساويين في الكمية وهما معا زوجان فالمطلوب هو الغالب وإن كانا معا فردين فالطالب هو الغالب ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس وهما أرى الزوج والأفراد يسمو أقلها وأكثرها عند التحالف غالب ويغلب مطلوب إذا الزوج يستوي وعند استواء الفرد يغلب طالب ثم وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحا بتسعة قانونا معروفا عندهم في طرح تسعة وذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع وهي أ الدالة على الواحد و ي الدالة على العشرة وهي واحد في مرتبة العشرات و ق الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين و ش الدالة على الألف لأنها واحد في مرتبة الآلاف وليس بعد الألف عدد يدل عليه بالحروف لأن الشين هي آخر حروف أبجد ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية وهي أيقش ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث وأسقطوا مرتبة الآلاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف وهي ب الدالة على اثنين في الآحاد و ك الدالة على اثنين في العشرات وهي عشرون و ر الدالة على اثنين في المئين
115
وهي مائتان وصيروها كلمة واحدة ثلاثية على نسق المراتب وهي بكر ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة فنشأت عنها كلمة جلس وكذلك إلى آخر حروف أبجد وصارت تسع كلمات نهاية عدد الآحاد وهي أيقش بكر جلس دمت هنث وصخ زعد حفظ طضغ مرتبة على توالي الأعداد ولكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته فالواحد لكلمة أيقش والاثنان لكلمة بكر والثلاثة لكلمة جلس وكذلك إلى التاسعة التي هي طضغ فتكون لها التسعة فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات وأخذوا عددها مكانه ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلا من حروف الاسم فإن كانت زائدة على التسعة أخذوا ما فضل عنها وإلا أخذوه كما هو ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدمناه والسر في هذا بين وذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلها اثنان وكذلك الثلاثة والثلاثون والثلاثمائة والثلاثة الآلاف كلها ثلاثة ثلاثة فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير وجعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الآحاد والعشرات والمئين والألوف وصار عدد الكلمة الموضوع عليها نائيا عن كل حرف فيها سواء دل على الآحاد أو العشرات أو المئين فيؤخذ عدد كل كلمة عوضا من الحروف التي فيها وتجمع كلها إلى آخرها كما قلناه هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم وكان بعض من لقيناه من شيوخنا نرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها ويفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه بالأخرى سواء وهي هذه أرب يسقك جزلط مدوص هف تحذن عش خع تضظ تسع كلمات على توالي العدد ولكل كلمة منها عددها الذي في مرتبته فيها الثلاثي والرباعي والثنائي وليست جارية على أصل مطرد كما تراه لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء وأسرار الحروف والنجامة وهو أبو العباس بن البناء ويقولون عنه أن العمل بهذه
116
الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات أيقش والله يعلم كيف ذلك وهذه كلها مدارك للغيب غير معزو إلى أرسطو عند المحققين لما فيه من الآراء البعيدة عن التحقيق والبرهان يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب كان في آخر المائة السادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين وهي غريبة العمل صناعة وكثير من الخواض يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز فيحرضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه وصورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكونات والروحانيات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم وكل دائرة مقسومة بأقسام فلكها إما البروج وإما العناصر أو غيرهما وخطوط كل قسم مارة إلى المركز ويسمونها الأوتار وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب لهذا العهد ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة وبين الدوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان وعلى ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولا وعرضا تشمل على خمسة وخمسين بيتا في العرض ومائة وواحد وثلاثين في الطول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد وأخرى بالحروف وجوانب خالية البيوت ولا تعلم نسبة تلك الأعداد في أوضاعها ولا القسمة التي عينت البيوت العامرة من الخالية وحافات الزايرجة أبيات من عروض الطويل على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة إلا أنها من قبيل الإلغاز في عدم الوضوح والجلاء وفي بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب وهو مالك بن وهيب من علماء أشبيلية كان في الدولة اللمتونية ونص البيت سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة
117
وغيرها فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال وقطعوه حروفا ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها وعمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أوله مارا إلى المركز ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى آخره والأعداد المرسومة بينهما ويصيرونها حروفا بحساب الجمل وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم ويضعونها مع حروف السؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف والأعداد من أوله إلى المركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول ويضيفونها إلى الحروف الأخرى ثم يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل وقانونه عندهم وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم ويضعونها ناحية ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج وأسه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب فإنه عندهم البعد عن أول المراتب ثم يضربونه في عدد آخر يسمونه الأس الأكبر والدور الأصلي ويدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة وأعمال مذكورة وأدوار معدودة ويستخرجون منها حروفا ويسقطون أخرى ويقابلون بما معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال وما معها ثم يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار ويخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنده الدور ويعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطعة وتؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل ورويه وهو بيت مالك ابن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله في فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة وقد رأينا كثيرا من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أن مما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع وليس ذلك بصحيح لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة وإنما المطابقة التي فيها بين الجواب والسؤال من حيث الإفهام والتوافق في الخطاب حتى يكون
118
الجواب مستقيما أو موافقا للسؤال ووقوع ذلك في هذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال والأوتار والدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح أخرى ومعاودة ذلك في الأدوار المعدودة ومقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي غير مستنكر وقد يقع الاطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس وطريق لحصوله سيما من أهل الرياضة فإنها تفيد العقل قوة على القياس وزيادة في الفكر وقد مر تعليل ذلك غير مرة ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة فهي منسوبة للسبتي ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله ولعمري إنها من الأعمال الغريبة والمعاناة العجيبة والجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوما يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت ولهذا يكون النظم على وزنه ورويه ويدل عليه أنا وجدنا أعمالا أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوما كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه وكثير من الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب فينكر صحتها ويحسب أنها من التخيلات والإيهامات وأن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال والأوتار ويفعل تلك الصناعات على غير نسبة ولا قانون ثم يجيء بالبيت ويوهم أن العمل جاء على طريقة منضبطة وهذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه القصور عن فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات والتفاوت بين المدارك والعقول ولكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه ويكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعة والحدس القطعي فإنها جاءت بعمل مطرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذكاء وحدس وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه وخفائها فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه وغرابتها فلنذكر مسألة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا مثاله لو قيل لك خذ عددا من الدراهم واجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من
119
الفلوس ثم أجمع الفلوس التي أخذت واشتر بها طائرا ثم اشتر بالدراهم كلها طيورا بسعر ذلك الطائر فكم الطيور المشتراة بالدراهم فجوابه أن تقول هي تسعة لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة وعشرون وأن الثلاثة ثمنها وأن عدة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد وتزيد على الثمانية طائرا آخر وهو المشتري بالفلوس المأخوذة أولا وعلى سعره اشتريت بالدراهم فتكون تسعة فأنت ترى كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسألة والوهم أول ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفته وظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها وهذا إنما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم وأما الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته وإذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزابرجة كلها إنما هي استخراج الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر وسر ذلك إنما هو من تناسب بينهما يطلع عليه بعض دون بعض فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين والجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات وليس هذا من المقام الأول بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثر الله بعلمه والله يعلم وأنتم لا تعلمون