الفصل الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات - الفصل الثالث: في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وأن البادية أضل العمران والأمصار مدد لها

قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه ولأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشيء عنه فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها فتفهمه ثم إن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه فرب حي أعظم من حي وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمرانا من مدينة فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية والله أعلم