125
والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد فهم غارون آمنون قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع وتوحشهم في الضواحي وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يتقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق ويتجافون عن الهجوع إلا غرارا في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب ويتوجسون للنبات والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء مدلين ببأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل وسبب ذلك ما شرحناه وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقا وملكه وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة واعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيرا صحيحا والله يخلق ما يشاء