الفصل الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات - الفصل التاسع: في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم

وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة وهي لما كان معاشهم من القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها والإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره ونتاجها في رماله كما تقدم والقفر مكان الشظف والسغب فصار لهم إلفا وعادة وربيت فيه أجيالهم حتى تمكنت خلقا وجبلة فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم ولا يأنس بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها ولا تزال بينهم محفوظة صريحة واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع
130
ولا ضرع وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيها شوب وأما العرب الذين كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان وطي وقضاعة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم ففي كل واحد من بيونهم من الخلاف عند الناس ما تعرف وإنما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم وهم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم وشعوبهم وإنما هذا للعرب فقط قال عمر رضي الله تعالى عنه تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا هذا أي ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع الناس على البلد الطيب والمراعي الخصيبة فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنسرين جند دمشق جند العواصم وانتقل ذلك إلى الأندلس ولم يكن لإطراح العرب أمر النسب وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية فاطرحت ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها وبقي ذلك في البدو كما كان والله وارث الأرض ومن عليها