الفصل الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات - الفصل الثالث عشر: في أن البيت والشرف بالأصالة والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه

134

وذلك أن الشرف والحسب إنما هو بالخلال ومعنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافا مذكورين يكون له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته لما وقر في نفوسهم من تجلة سلفه وشرفهم بخلالهم والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن قال الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا فمعنى الحسب راجح إلى الأنساب وقد بينا أن ثمرة الأنساب وفائدتها إنما هي العصية للنعرة والتناصر فحيث تكون العصبية مرهوبة والمنبت فيها زكي محمي تكون فائدة النسب أوضح وثمرتها أقوى وتعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب والشرف أصليين في أهل العصبية لوجود ثمرة النسب وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية لأنه سرها ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز وإن توهموه فزخرف من الدعاوى وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار وجدت معناه أن الرجل منهم يعد سلفا في خلال الخير ومخالطة أهله مع الركون إلى العافية ما استطاع وهذا مغاير لسر العصبية التي هي ثمرة النسب وتعديد الآباء لكنه يطلق عليه حسب وبيت بالمجاز لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخير ومسالكه وليس حسبا بالحقيقة وعلى الإطلاق وإن ثبت أنه حقيقة فيهما بالوضع اللغوي فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى وقد يكون للبيت شرف أول بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء لذهاب العصبية جملة وكثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأول عهدهم موسوسون بذلك وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت أولا لما تعدد في سلفهم من الأنبياء والرسل من لدن إبراهيم عليه السلام إلى موسى صاحب ملتهم وشريعتهم ثم بالعصبية ثانيا وما
135
أتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به ثم انسلخوا من ذلك أجمع وضربت عليهم الذلة والمسكنة وكتب عليهم الجلاء في الأرض وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافا من السنين وما زال هذا الوسواس مصاحبا لهم فتجدهم يقولون هذا هاروني هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبية ورسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة وكثير من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لما ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة ولم يتعرض لما ذكرناه وليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه فكأنه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط مع أن الخطابة إنما هي استمالة من تؤثر استمالته وهم أهل الحل والعقد وأما من لا قدرة له البتة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة إلا أن ابن رشد ربا في جبل وبلد ولم يمارسوا العصبية ولا أنسوا أحوالها فبقي في أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق ولم يراجع فيه حقيقة العصبية وسرها في الخليقة والله بكل شيء عليم