الفصل الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات - الفصل السادس عشر: في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها

اعلم أنه لما كانت البداوة سببا في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة لا جرم كان هذا الجبل الوحشي أشد شجاعة من الجبل الآخر فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجبل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية والحمر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين وأخصب عيشها كيف يختلف حالها في الانتهاض والشدة حتى في مشيتها وحسن أديمها وكذلك الآدمي المتوحش إذا أنس وألف وسببه أن تكون السجايا والطبائع إنما هو عن المألوفات والعوائد وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحشا كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا بالعدد وتكافأا في القوة العصبية وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير وكهلان السابقين إلى الملك والنعيم ومع
139
ربيعة المتوطنين أرياف العراق ونعيمه لما بقي مضر في بداوتهم وتقدمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب فغلبوهم على ما في أيديهم وانتزعوه منهم وهذا حال بني طيء وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور ومن بعدهم لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر واليمن ولم يتلبسوا بشيء من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم ولم تخلفها مذاهب الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم وكذا كل حي من العرب يلي نعيما وعيشا خصبا دون الحي الآخر فإن الحي المبتدىء يكون أغلب له وأقدر عليه إذا تكافأا في القوة والعدد سنة الله في خلقه