ذكر الأسباب الموجبة للسير إلى مكة وذكر فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان

القتال بين بكر وخزاعة ‏ ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا ‏.‏ ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له ‏:‏ الوتير ، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة أن رجلاً من بني الحضرمي ، واسمه مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً ، فلما توسط أرض خزاعة ، عدوا عليه فقتلوه ، وأخذوا ماله ‏.‏ فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه ، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزان الديلي - وهم منخر بني كنانة وأشرافهم - سلمى وكلثوم وذؤيب - فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني رجل من بني الديل ، قال ‏:‏ كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين ، ونودي دية دية ، لفضلهم فينا ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام ، وتشاغل الناس به ‏.‏ فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم ‏.‏ كما حدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، وغيرهم من علمائنا ‏:‏ أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل ، وهو يومئذ قائدهم ، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلاً ، وتحاوزوا واقتتلوا ‏.‏ ورفدت بني بكر قريش بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، فلما انتهوا إليه ، قالت بنو بكر ‏:‏ يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم ، إلهك إلهك ، فقال ‏:‏ كلمة عظيمة ، لا إله له اليوم ، يا بني بكر أصيبوا ثأركم ، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؛ وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً ، يقال له ‏:‏ منبه ‏.‏ وكان منبه رجلاً مفؤداً خرج هو ورجل من قومه يقال له ‏:‏ تميم بن أسد، وقال له منبه ‏:‏ يا تميم انج بنفسك ، فأما أنا فوالله إني لميت ، قتلوني أو تركوني ، لقد أنبت فؤادي، وانطلق تميم فأفلت ، وأدركوا منبها فقتلوه ، فلما دخلت خزاعة مكة ، لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له ‏:‏ رافع فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره من منبه ‏:‏

شعر تميم يعتذر من فراره عن منبه ‏ ‏

لما رأيت بني نفاثة أقـبـلـوا

 

يغشون كـل وتـيرة وحـجـاب

صخراً ورزناً لا عريب سواهم

 

يزجون كل مقـلـص خـنـاب

وذكرت ذحلاً عندنا متقـادمـا

 

فيما مضى من سالف الأحقـاب

ونشيت ريح الموت من تلقائهم

 

ورهبت وقع مهـنـد قـضـاب

وعرفت أن من يثقفوه يتركوا

 

لحما لمجـرية وشـلـو غـراب

قومت رجلا لا أخاف عثارها

 

وطرحت بالمتن العراء ثـيابـي

ونجوت لا ينجو نجائي أحقـب

 

علج أقب مـشـمـر الأقـراب

تلحى ولو شهدت لكان نكيرها

 

بولاً يبل مشافـر الـقـبـقـاب

القوم أعلم ما تركت منبـهـا

 

عن طيب نفس فاسألي أصحابـي

قال ابن هشام ‏:‏ وتروى لحبيب بن عبدالله الأعلم الهذلي ‏.‏ وبيته ‏:‏ وذكرت ذحلا عندنا متقادما ، عن أبي عبيدة ، وقوله ‏:‏ خناب ، وعلج أقب مشمر الأقراب عنه أيضاً ‏.‏ شعر الأخزر فيما وقع بين خزاعة وبكر قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال الأخزر بن لعط الديلي ، فيما كان بين كنانة وخزاعة في تلك الحرب ‏:‏

ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا

 

رددنا بني كعب بأفـوق نـاصـل

حبسناهم في دارة العبد رافـع

 

وعند بديل محبسـا غـير طـائل

بدار الذليل الأخذ الضيم بعدمـا

 

شفينا النفوس منهم بالمـنـاصـل

حبسناهم حتى إذا طال يومهـم

 

نفحنا لهم من كل شعـب بـوابـل

نذبحهم ذبح التـيوس كـأنـنـا

 

أسود تبارى فيهم بـالـقـواصـل

هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم

 

وكانوا لدى الأنصاب أول قـاتـل

كأنهم بالجزع إذ يطـردونـهـم

 

بفا ثور حفان النعام الـجـوافـل

بديل بن عبد مناة يرد على الأخزر‏:‏ فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الأجب ، وكان يقال له ‏:‏ بديل بن أم أصرم ، فقال ‏:‏

تفاقد قوم يفخرون ولـم نـدع

 

لهم سيداً يندوهـم غـير نـافـل

أمن حنيفة القوم الألى تزدريهم

 

تجيز الوتـير خـائفـا غـير آئل

وفي كل يوم نحن نحبو حباءنـا

 

لعقل ولا يحبى لنا في المعـاقـل

ونحن صبحنا بالتلاعة داركـم

 

بأسيافنا يسبقـن لـوم الـعـواذل

ونحن منعنا بين بيض وعتـود

 

إلى خيف رضوى من مجر القنابل

ويوم الغميم قد تكفت سـاعـيا

 

عبيس فجعناه بجـلـد حـلاحـل

أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم

 

بجعموسها تنزون أن لم نـقـاتـل

كذبتم وبيت الله ما إن قتـلـتـم

 

ولكن تركنا أمركم فـي بـلابـل

قال ابن هشام ‏:‏ قوله ‏:‏ غير نافل ، وقوله ‏:‏ إلى خيف رضوى ، عن غير ابن إسحاق ‏.‏

شعر حسان في الحرب بين كنانة وخزاعة ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ وقال حسان بن ثابت في ذلك ‏:‏

لحا الله قوما لم ندع من سراتهـم

 

لهم أحدا ينـدوهـم غـير نـاقـب

أخصيي حمار مات بالأمس نوفلاً

 

متى كنت مفلاحاً عدو الحـقـائب

خزاعة تستنجد بالرسول ‏ :‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة ، وكانوا في عقده وعهده ، خرج عمرو بن سالم الخزاعى ، ثم أحد بني كعب ، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ذلك مما هاج فتح مكة ، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس ، فقال ‏:‏

يا رب إني ناشد مـحـمـدا

 

حلف أبـينـا وأبـيه الأتـلـدا

قد كنتم ولدا وكـنـا والـدا

 

ثمت أسلمنا فـلـم نـنـزع يدا

فانصر هداك الله نصرا اعتدا

 

وادع عباد الـلـه يأتـوا مـددا

فيهم رسول الله قد تـجـردا

 

إن سيم خسفا وجهـه تـربـدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

 

إن قريشا أخلفوك الـمـوعـدا

ونقضوا ميثاقك الـمـوكـدا

 

وجعلوا لي في كـداء رصـدا

وزعموا أن لست أدعوا أحدا

 

وهـم أذل وأقــل عـــددا

هم بيتونا بالوتـير هـجـدا

 

وقتـلـونـا ركـعـا سـجـدا

يقول ‏:‏ قتلنا وقد أسلمنا ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ ويروى أيضاً ‏:‏

فانصر هداك الله نصرا أيدا

 

 

قال ابن هشام ‏:‏ ويروى أيضاً ‏:‏

نحن ولدناك فكنت ولدا

 

 

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ نصرت يا عمرو بن سالم ‏.‏ ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء ، فقال ‏:‏ إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ‏.‏

ذهاب ابن ورقاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شاكياً وتعرف أبي سفيان أمره ‏ :‏

ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ‏:‏ كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ، ويزيد في المدة ‏.‏ ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد في المدة ، وقد رهبوا الذين صنعوا ‏.‏ فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال ‏:‏ من أين أقبلت يا بديل ‏؟‏ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال ‏:‏ تسيرت في خزاعة في هذا الساحل ، وفي بطن هذا الوادي ؛ قال ‏:‏ أو ما جئت محمداً ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ؛ فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان ‏:‏ لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففته ، فرأى فيه النوى ، فقال ‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً ‏.‏

خروج أبي إلى المدينة سفيان للصلح وإخفاقة ‏ :‏

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ؛ فقال ‏:‏ يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ‏؟‏ قالت ‏:‏ بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال ‏:‏ والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر ‏.‏ ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال ‏:‏ أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ‏.‏ ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها ، وعندها حسن بن علي ، غلام يدب بين يديها ، فقال‏:‏ يا علي إنك أمس القوم بي رحماً ، وإني قد جئت في حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائباً ، فاشفع لي إلى رسول الله ؛ فقال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ‏.‏  فالتفت إلى فاطمة ، فقال ‏:‏ يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ‏؟‏ قالت ‏:‏ والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ يا أبا الحسن ، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني ؛ قال ‏:‏ والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك ؛ قال ‏:‏ أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ‏؟‏ قال ‏:‏ لا والله ، ما أظنه ، ولكني لا أجد لك غير ذلك ‏.‏ فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال ‏:‏ أيها الناس إني أجرت بين الناس ‏.‏ ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش ، قالوا ‏:‏ ما وراءك ‏؟‏ قال ‏:‏ جئت محمداً فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد فيه خيراً ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو قال ابن هشام ‏:‏ أعدى العدو‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم ، وقد أشار علي بشيء صنعته ، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ وبم أمرك ‏؟‏ قال ‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلت ؛ قالوا ‏:‏ فهل أجاز لك محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ، قالوا ‏:‏ ويلك ‏!‏ والله إن زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغني عنك ما قلت ‏.‏ قال‏:‏ لا والله ، ما وجدت غير ذلك ‏.‏

الاستعداد لفتح مكة ‏ :‏

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها ، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال ‏:‏ أي بنية ‏:‏ أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه ‏؟‏ قالت ‏:‏ نعم فتجهز ، قال ‏:‏ فأين ترينه يريد ‏؟‏ قالت ‏:‏ لا والله ما أدري ‏.‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال ‏:‏ اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ‏.‏ فتجهز الناس ‏.‏

حسان يحث الناس على فتح مكة ‏ :‏

فقال حسان بن ثابت يحرض الناس ، ويذكر مصاب رجال خزاعة ‏:‏

عناني ولم أشهد ببطحـاء مـكة

 

رجال بني كعب تحـز رقـابـهـا

بأيدي رجال لم يسلوا سيوفـهـم

 

وقتلى كثير لم تـجـن ثـيابـهـا

ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي

 

سهيل بن عمرو وخزها وعقابـهـا

وصفوان عود حن من شفراسته

 

فهذا أوان الحرب شد عصـابـهـا

فلا تأمننا يا بـن أم مـجـالـد

 

إذا احتلبت صرفا وأعصل نابـهـا

ولا تجزعوا منا فإن سـيوفـنـا

 

لها وقعة بالموت يفتـح بـابـهـا

قال ابن هشام ‏:‏ قول حسان ‏:‏ بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ، يعني ‏:‏ قريشاً ؛ وابن أم مجالد ، يعني ‏:‏ عكرمة بن أبي جهل ‏.‏

كتاب حاطب يحذر أهل مكة ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، قالوا ‏:‏ لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ‏.‏ ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم لي غيره أنها سارة ، مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ‏.‏

الخبر من السماء بما فعل حاطب ‏ :‏

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما ، فقال ‏:‏ أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالخليقة ، خليقة بني أبي أحمد ، فاستنزلاها ، فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئاً ‏.‏ فقال لها علي بن أبي طالب ‏:‏ إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك ، فلما رأت الجد منه ، قالت ‏:‏ أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ‏.‏ فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً ، فقال ‏:‏ يا حاطب ما حملك على هذا ‏؟‏ فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم ‏.‏ فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال ‏:‏ اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ‏.‏ فأنزل الله تعالى في حاطب ‏:‏ ‏ {(‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ‏)} ‏ إلى قوله ‏:‏ ‏ (‏قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده‏)‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلى آخر القصة ‏.‏

خروج الرسول إلى مكة ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود ، عن عبدالله بن عباس ، قال ‏:‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره ، واستخلف على المدينة أبا رهم ، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري ، وخرج لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد ، بين عسفان وأمج أفطر ‏.‏

تلمس قريش أخباره عليه السلام ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين ، فسبعت سليم ، وبعضهم يقول ألفت سليم ، وألفت مزينة ، وفي كل القبائل عدد وإسلام ، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار ، فلم يتخلف عنه منهم أحد ‏.‏ فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولايدرون ما هو فاعل ‏.‏ وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به ، وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ‏.‏

هجرة العباس ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله ، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض ، فيما ذكر ابن شهاب الزهري ‏.‏

إسلام أبي سفيان بن الحارث وعبدالله بن أبي أمية ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب ، فيما بين مكة والمدينة ، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما ، فقالت ‏:‏ يا رسول الله ، ابن عمك وابن عمتك وصهرك ؛ قال ‏:‏ لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي ، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال ‏.‏ قال ‏:‏ فلما خرج الخبر إليهما بذلك ، ومع أبي سفيان بني له ‏.‏ فقال ‏:‏ والله ليأذنن لي أو لأخذن بيدي بني هذا ، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً ؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ، ثم أذن لهما، فدخلا عليه ، فأسلما ‏.‏

ما أنشده أبو سفيان في إسلامه ‏ :‏

وأنشد أبو سفيان بن الحارث قوله في إسلامه ، واعتذر إليه مما كان مضى منه ، فقال ‏:‏

لعمرك إني يوم أحمـل راية

 

لتغلب خيل اللات خيل محمـد

لكالمدلج الحيران أظلم ليلـه

 

فهذا أواني حين أهدي وأهتـدي

هداني هاد غير نفسي ونالني

 

مع الله من طردت كل مطـرد

أصد وأنأى جاهداً عن محمد

 

وأدعى وإن لم أنتسب من محمد

هم ما هم من لم يقل بهواهم

 

وإن كان ذا رأي يلـم ويفـنـد

أريد لأرضيهم ولست بـلائط

 

مع القوم ما لم أهد في كل مقعد

فقل لثقيف لا أريد قتالـهـا

 

وقل لثقيف تلك ‏:‏ غيري أوعدي

فما كنت في الجيش الذي نال عامراً

 

وما كان عن جرا لـسـانـي ولا يدي

قبائل جـاءت مـن بـلاد بـعـيدة

 

نزائع جاءت مـن سـهـام وسـردد

         

قال ابن هشام ‏:‏ ويروى ‏:‏ ودلني على الحق من طردت كل مطرد ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ‏:‏ ونالني مع الله من طردت كل مطرد ، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره ، وقال ‏:‏ أنت طردتني كل مطرد ‏.‏

إسلام أبي سفيان على يدي العباس بن عبدالمطلب ‏ :‏

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، قال العباس بن عبدالمطلب ‏:‏ فقلت ‏:‏ واصباح قريش ، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ‏.‏ قال ‏:‏ فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، فخرجت عليها‏.‏ قال ‏:‏ حتى جئت الأراك ، فقلت ‏:‏ لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة ، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ‏.‏ قال‏:‏ فوالله إني لأسير عليها ، وألتمس ما خرجت له ، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول ‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً ، قال ‏:‏ يقول بديل ‏:‏ هذه والله خزاعة حمشتها الحرب ‏.‏ قال ‏:‏ يقول أبو سفيان ‏:‏ خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ‏.‏ قال ‏:‏ فعرفت صوته ، فقلت ‏:‏ يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال ‏:‏ أبو الفضل ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ نعم ، قال‏:‏ ما لك ‏؟‏ فداك أبي وأمي ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، واصباح قريش والله ، قال ‏:‏ فما الحيلة ‏؟‏ فداك أبي وأمي ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمنه لك ؛ قال ‏:‏ فركب خلفي ورجع صاحباه ‏.‏ قال ‏:‏ فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين ، قالوا ‏:‏ من هذا ‏؟‏ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها ، قالوا ‏:‏ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته ‏.‏ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال ‏:‏ من هذا ‏؟‏ وقام إلي ؛ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة ، قال ‏:‏ أبا سفيان عدو الله ‏!‏ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركضت البغلة ، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء ‏.‏ قال ‏:‏ فاقتحمت عن البغلة ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليه عمر ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذا أبو سفيان أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني فلأضرب عنقه ‏.‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله ، إني قد أجرته ، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت برأسه ، فقلت ‏:‏ والله لا يناجيه الليلة دوني رجل ؛ فلما أكثر عمر في شأنه ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ مهلاً يا عمر ، فوالله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ؛ فقال ‏:‏ مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به ؛ قال‏:‏ فذهبت به إلى رحلي ، فبات عندي ، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله‏؟‏ قال ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏!‏ والله قد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد ، قال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحملك وأكرمك وأوصلك ‏!‏ أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً ‏.‏ فقال له العباس ‏:‏ ويحك ‏!‏ أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك ‏.‏ قال ‏:‏ فشهد شهادة الحق ، فأسلم ‏.‏ قال العباس ‏:‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئاً ، قال‏:‏ نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا عباس ، أحبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ، حتى تمر به جنود الله فيراها ‏.‏ قال ‏:‏ فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي ، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه ‏.‏

عرض الجيش على أبي سفيان ‏ :‏

قال ‏:‏ ومرت القبائل على راياتها ، كلما مرت قبيلة قال ‏:‏ يا عباس من هذه ‏؟‏ فأقول ‏:‏ سليم ، فيقول ‏:‏ ما لي ولسليم ، ثم تمر القبيلة فيقول ‏:‏ يا عباس ، من هؤلاء ‏؟‏ فأقول ‏:‏ مزينة ، فيقول ‏:‏ ما لي ولمزينة ، حتى نفذت القبائل ، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها ، فإذا أخبرته بهم ، قال ‏:‏ ما لي ولبني فلان ، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء ‏.‏

كتيبته صلى الله عليه وسلم في فتح مكة ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها ‏.‏ قال الحارث بن حلزة اليشكري ‏:‏

ثم حجرا أعنى ابن أم قطام

 

وله فـارسـية خـضـراء

يعنى ‏:‏ الكتيبة ، وهذا البيت في قصيدة له ، وقال حسان بن ثابت الأنصاري ‏:‏

لما رأى بدراً تسيل جلاهه

 

بكتيبة خضراء من بلخزرج

وهذا البيت في أبيات له قد كتبناها في أشعار يوم بدر ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فيها المهاجرون والأنصار ، رضي الله عنهم ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ، فقال ‏:‏ سبحان الله ‏:‏ يا عباس من هؤلاء ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال ‏:‏ ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ؛ والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ يا أبا سفيان ، إنها النبوة ، قال ‏:‏ فنعم إذن ‏.‏

أبو سفيان يحذر أهل مكة ‏ :‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ النجاء إلى قومك ، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقامت إليه هند بنت عتبة ، فأخذت بشاربه ، فقالت ‏:‏ اقتلوا الحميت الدسم الأحمس ، قبح من طليعة قوم ‏!‏ ‏.‏ قال ‏:‏ ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ؛ قالوا ‏:‏ قاتلك الله ‏!‏ وما تغنى عنا دارك ؛ قال ‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ‏.‏

وصوله عليه السلام إلى ذي طوى ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل ‏.‏

إسلام أبي قحافة ‏ ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جدته أسماء بنت أبي بكر ، قالت ‏:‏ لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى قال أبو قحافة لابنه من أصغر ولده ‏:‏ أي بنية ، اظهري بي على أبي قبيس ؛ قالت ‏:‏ وقد كف بصره ؛ قالت ‏:‏ فأشرفت به عليه ، فقال ‏:‏ أي بنية ، ماذا ترين ‏؟‏ قالت ‏:‏ أرى سواداً مجتمعاً ، قال ‏:‏ تلك الخيل ؛ قالت ‏:‏ وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك مقبلاً ومدبراً ، قال ‏:‏ أي بنية ، ذلك الوازع ، يعني ‏:‏ الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ؛ ثم قالت ‏:‏ قد والله انتشر السواد ‏.‏ قالت ‏:‏ فقال ‏:‏ قد والله إذن دفعت الخيل ، فأسرعي بي إلى بيتي ، فانحطت به ، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته ، قالت ‏:‏ وفي عنق الجارية طوق من ورق ، فتلقاها رجل فيقتطعه من عنقها ‏.‏  قالت ‏:‏ فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ودخل المسجد ، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ‏؟‏ قالأبو بكر ‏:‏ يا رسول الله ، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت ؛ قال ‏:‏ قالت ‏:‏ فأجلسه بين يديه ، ثم مسح صدره ، ثم قال له ‏:‏ أسلم ، فأسلم ؛ قال ‏:‏ فدخل به أبو بكر وكأن رأسه ثغامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ غيروا هذا من شعره ‏.‏ ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته ، وقال ‏:‏ أنشد الله والإسلام طوق أختي ، فلم يجبه أحد ؛ قالت ‏:‏ فقال ‏:‏ أي أخيه ، احتسبي طوقك ، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل ‏.‏

دخول مكة ‏ ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى ، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى ، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء ‏.‏

المهاجرون يخشون من شدة سعد بن عبادة على قريش ‏ ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فزعم بعض أهل العلم أن سعداً حين وجه داخلاً ، قال ‏:‏ اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ؛ فسمعها رجل من المهاجرين - قال ابن هشام ‏:‏ هو عمر بن الخطاب - فقال ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ اسمع ما قال سعد بن عبادة ، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب ‏:‏ أدركه ، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها ‏.‏

طريق الفتح ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني عبدالله بن أبي نجيح في حديثه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد ، فدخل من الليط ، أسفل مكة في بعض الناس ، وكان خالد على المجنبة اليمنى ، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب ‏.‏ وأقبل أبو عبيدة بن الجراح يالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر ، حتى نزل بأعلى مكة ، ضربت له هنالك قبته ‏.‏ من تعرض للمسلمين من أهل مكة ‏:‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالله بن أبي نجيح وعبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا ، وقد كان حماس بن قيس بن خالد ، أخو بني بكر ، يعد سلاحاً قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويصلح منه ؛ قالت له امرأته ‏:‏ لماذا تعد ما أرى ‏؟‏ قال ‏:‏ لمحمد وأصحابه ؛ قالت ‏:‏ والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء ؛ قال ‏:‏ والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم ، ثم قال ‏:‏

إن يقبلوا اليوم فما لي علة

 

هذا سـلاح كـامـل وألـه

وذو غرارين سريع السلة

 

 

ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة ؛ فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ، ناوشوهم شيئاً من قتال ، فقتل كرز بن جابر ، أحد بني محارب بن فهر ، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم ، حليف بني منقذ ، وكانا في خيل خالد بن الوليد فشذا عنه فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً ، قتل خنيس بن خالد قبل كرز بن جابر فجعله كرز بن جابر بين رجليه ، ثم قاتل عنه حتى قتل ، وهو يرتجز ويقول ‏:‏

قد علمت صفراء من بني فهر

 

نقية الوجـه نـقـية الـصـدر

لأضربن اليوم عن أبي صخـر

 

 

قال هشام ‏:‏ وكان خنيس يكنى أبا صخر ، فقال ابن هشام ‏:‏ خنيس بن خالد من خزاعة ‏.‏

ما قاله حماس من الشعر يوم الفتح ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني عبدالله بن أبي نجيح وعبدالله بن أبي بكر ، قالا ‏:‏ وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء ، من خيل خالد بن الوليد ؛ وأصيب من المشركين ناس قريب من أثني عشر رجلاً ، أو ثلاثة عشر رجلاً ، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته ، ثم قال لامرأته ‏:‏ أغلقي علي بابي ؛ قالت ‏:‏ فأين ما كنت تقول ‏؟‏ فقال ‏:‏

إنك لو شهدت يوم الخندمة

 

إذ فر صفوان وفر عكـرمة

وأبو يزيد قائم كالموتـمة

 

واستقبلهم بالسيوف المسلـمة

يقطعن كل ساعد وجمجمة

 

ضرباً فلا يسمع إلا غمغـمة

لهم نهيت خلفنا وهمهـمة

 

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

قال ابن هشام ‏:‏ أنشدني بعض أهل العلم بالشعر قوله ‏:‏ كالموتمه ، وتروى للرعاش الهذلي ‏.‏

شعار المسلمين يوم فتح مكة ‏ :‏

وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة و حنين والطائف ، شعار المهاجرين‏:‏ يا بني عبدالرحمن ، وشعار الخزرج ‏:‏ يا بني عبدالله ، وشعار الأوس ‏:‏ يا بني عبيد الله ‏.‏

من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين ، حين أمرهم أن يدخلوا مكة ، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم عبدالله بن سعد ، أخو بني عامر بن لؤي ‏.‏

سبب أمر الرسول بقتل سعد وشفاعة عثمان فيه ‏ :‏

وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه قد كان أسلم ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، فارتد مشركاً راجعاً إلى قريش ، ففر إلى عثمان بن عفان ، وكان أخاه للرضاعة ، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة ‏.‏ فاستأمن له فزعموا أن رسول الله صمت طويلاً ، ثم قال ‏:‏ نعم ، فلما انصرف عنه عثمان ، قال رسول الله ‏:‏ لمن حوله من أصحابه ‏:‏ لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ‏.‏ فقال رجل من الأنصار ‏:‏ فهلا أومأت إلي يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ إن النبي لا يقتل بالإشارة ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ ثم أسلم بعد ، فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله ، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وعبدالله بن خطل ، رجل من بني تيم بن غالب ‏:‏ إنما أمر بقتله أنه كان مسلماً ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وبعث معه رجلاً من الأنصار ، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلماً ، فنزل منزلاً ، وأمر المولى أن يذبح له تيساً ، فيصنع له طعاماً ، فنام ، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً ، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركاً ‏.‏

أسماء من أمر الرسول بقتلهم وسبب ذلك ‏ :‏

وكانت له قينتان ‏:‏ فرتنى وصاحبتها ، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه ‏.‏ والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ، وكان ممن يؤذيه بمكة ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وكان العباس بن عبدالمطلب حمل فاطمة وأم كلثوم ، ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة ، فنخس بهما الحويرث بن نقيذ ، فرمى بهما إلى الأرض ‏.‏ قال ابن إسحاق ومقيس بن حبابة ‏:‏ وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقتله لقتل الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ ، ورجوعه إلى قريش مشركاً ‏.‏ وسارة ، مولاة لبعض بني عبدالمطلب ‏.‏ وعكرمة بن أبي جهل ‏.‏ وكانت سارة ممن يؤذيه بمكة ؛ فأما عكرمة فهرب إلى اليمن ، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمنه ، فخرجت في طلبه إلى اليمن ، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ‏.‏ وأما عبدالله بن خطل ، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي ، اشتركا في دمه ‏.‏ وأما مقيس بن حبابة فقتله نميلة بن عبدالله ، رجل من قومه ، فقالت أخت مقيس في قتله ‏:‏

لعمري لقد أخزى نميلة رهطه

 

وفجع أضياف الشتاء بـمـقـيس

فلله عينا من رأى مثل مقـيس

 

إذا النفساء أصبحت لم تـخـرس

وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما ، وهربت الأخرى ، حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ، فأمنها ‏.‏ وأما سارة فاستؤمن لها فأمنها ، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها ‏.‏ وأما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب ‏. قصة الرجلين اللذين أمنتهما أم هانئ وصلاة الفتح في بيتها ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني سعيد بن أبي هند ، عن أبي مرة ، مولى عقيل ابن أبي طالب ، أن أم هانئ بنت أبي طالب قالت ‏:‏ لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة ، فر إلي رجلان من أحمائي ، من بني مخزوم ، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي ‏.‏ قالت ‏:‏ فدخل علي علي بن أبي طالب أخي ، فقال ‏:‏ والله لأقتلنهما ، فأغلقت عليهما باب بيتي ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة ، فوجدته يغتسل جفنة إن فيها لأثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبه ، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إلي ‏.‏ فقال ‏:‏ مرحباً وأهلاً يا أم هانئ ، ما جاء بك ‏؟‏ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي ؛ فقال ‏:‏ قد أجرنا من أجرت ، وأمنا من أمنت ، فلا يقتلهما‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ هما الحارث بن هشام ، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة ‏.‏

الرسول يدخل البيت الحرام ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبيد الله بن عبدالله بن أبي ثور ، عن صفية بنت شيبة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة ، واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعاً على راحلته ، يستلم الركن بمحجم في يده ؛ فلما قضى طوافه ، دعا عثمان بن طلح ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد ‏.‏

ما قاله عليه السلام على باب الكعبة ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة ، فقال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ، ففيه الدية مغلظة ، مائة من الإبل ، أربعون منها في بطونها أولادها ‏.‏ يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية ‏:‏‏ {(‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏)} ‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ الآية كلها ‏.‏ ثم قال ‏:‏ يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل فيكم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم ، قال ‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء ‏.‏

إقرار أمر السدانة لعثمان بن طلحة ‏ :‏

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال‏:‏ يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أين عثمان بن طلحة ‏؟‏ فدعي له ، فقال ‏:‏ هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وذكر سفيان بن عيينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي ‏:‏ إنما أعطيكم ما ترزءون لا ما ترزءون ‏.‏

طمسه صلى الله عليه وسلم ما كان في الكعبة من الصور ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح ، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم ، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال‏:‏ قاتلهم الله ، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن إبراهيم والأزلام ‏!‏ ‏ (‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنفياً مسلماً ، وما كان من المشركين‏) ‏ ‏.‏ ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست ‏.‏

مكان صلاته عليه السلام من البيت ‏ :‏
قال ابن هشام ‏:‏ وحدثني ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف بلال ، فدخل عبدالله بن عمر على بلال ، فسأله ‏:‏ أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ ولم يسأله كم صلى ؛ فكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قبل وجهه ، وجعل الباب قبل ظهره ، حتى يكون بينه وبين الجدار قدر ثلاث أذرع ، ثم يصلي ، يتوخى بذلك الموضع الذي قال له بلال ‏.‏ إسلام عتاب والحارث بن هشام وسببه ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال ، فأمره أن يؤذن ، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب بن أسيد ‏:‏ لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا ، فيسمع منه ما يغيظه ‏.‏ فقال الحارث بن هشام ‏:‏ أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته ، فقال أبو سفيان ‏:‏ لا أقول شيئاً ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى ، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ قد علمت الذي قلتم ، ثم ذكر ذلك لهم ؛ فقال الحارث وعتاب ‏:‏ نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا ، فنقول أخبرك ‏.‏

خراش يقتل ابن الأثوع ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني سعيد بن أبي سندر الأسلمي ، عن رجل من قومه ، قال ‏:‏ كان معنا رجل يقال له أحمر بأسا ، وكان رجلاً شجاعاً ، وكان إذا نام غط غطيطاً منكراً لا يخفى مكانه ، فكان إذا بات في حيه بات معتنزاً فإذا بيت الحي صرخوا يا أحمر ، فيثور مثل الأسد ، لا يقوم لسبيله شيء ‏.‏ فأقبل غزي من هذيل يريدون حاضره ، حتى إذا دنوا من الحاضر ، قال ابن الأثوع الهذلي ‏:‏ لا تعجلوا علي حتى أنظر ، فإن كان في الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم ، فإن له غطيطاً لا يخفى ، قال ‏:‏ فاستمع فلما سمع غطيطه مشى إليه حتى وضع السيف في صدره ، ثم تحامل عليه حتى قتله ، ثم أغاروا على الحاضر ، فصرخوا يا أحمر ولا أحمر لهم ‏.‏ فلما كان عام الفتح ، وكان الغد من يوم الفتح ، أتي ابن الأثوع الهذلي حتى دخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس ، وهو على شركه ، فرأته خزاعة ، فعرفوه ، فأحطوا به وهو إلى جنب جدار من جدر مكة ، يقولون ‏:‏ أأنت قاتل أحمر ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ، أنا قاتل أحمر فمه ‏؟‏ قال ‏:‏ إذ أقبل خراش بن أمية مشتملاً على السيف ، فقال ‏:‏ هكذا عن الرجل ، ووالله ما نظن إلا أنه يريد أن يفرج الناس عنه ‏.‏ فلما انفرجنا عنه حمل عليه فطعنه بالسيف في بطنه ، فوالله لكأني أنظر إليه وحشوته تسيل من بطنه ، وإن عينيه لترنقان في رأسه ، وهو ‏:‏ يقول أقد فعلتموها يا معشر خزاعة ‏؟‏ حتى انجعف فوقع ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا معشر خزاعة ، ارفعوا أيديكم عن القتل ، فقد كثر القتل إن نفع ، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالرحمن بن حرملة الأسلمي ، عن سعيد بن المسيب ، قال ‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية ، قال ‏:‏ إن خراشاً لقتال؛ يعيبه بذلك ‏.‏

أبو شريح يذكر عمرو بن الزبير بحرمة مكة ‏ ‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الخزاعي ، قال ‏:‏ لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبدالله بن الزبير ، جئته ، فقلت له ‏:‏ يا هذا ، إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين افتتح مكة ، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك ‏.‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً ، فقال ‏:‏ يا أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك فيها دماً ، ولا يعضد فيها شجراً ، لم تحلل لأحد كان قبلي ، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة ، غضبا على أهلها ‏.‏ ألا ، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ‏.‏ فمن قال لكم ‏:‏ إن رسول الله قد قاتل فيها ، فقولوا ‏:‏ إن الله قد أحلها لرسوله ، ولم يحللها لكم ، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل ، فلقد كثر القتل إن نفع ، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه ، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين ‏:‏ إن شاءوا فدم قاتله ؛ وإن شاءوا فعقله ‏.‏ ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة ؛ فقال عمرو لأبي شريح ‏:‏ انصرف أيها الشيخ ، فنحن أعلم بحرمتها منك ، إنها لا تمنع سافك دم ، ولا خالع طاعة ، ولا مانع جزية ، فقال أبو شريح ‏:‏ إني كنت شاهداً وكنت غائباً ، لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا ، وقد أبلغتك ، فأنت وشأنك ‏.‏

أول قتيل وداه عليه السلام يوم الفتح ‏ ‏

قال ابن هشام ‏:‏ وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح جنيدب بن الأكوع ، قتلته بنو كعب ، فوداه بمائة ناقة ‏.‏

تخوف الأنصار من بقاء الرسول بمكة ‏ ‏

قال ابن هشام ‏:‏ وبلغني عن يحيى بن سعيد ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها ، قام على الصفا يدعو الله ، وقد أحدقت به الأنصار ، فقالوا فيما بينهم ‏:‏ أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ‏؟‏ فلما فرغ من دعائه قال ‏:‏ ماذا قلتم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ لا شيء يا رسول الله ؛ فلما يزل بهم حتى أخبروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ معاذ الله ‏!‏ المحيا محياكم ، والممات مماتكم ‏.‏

كسر الأصنام ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ وحدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له ، عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبدالله ، عن ابن عباس ، قال ‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته ، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص ، فجعل النبي صلى الله عيه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول ‏:‏ ‏ {(‏ جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ‏)} ‏ فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه ، ولا أشار إلى قفاه ، إلا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع ؛ فقال تميم بن أسد الخزاعي في ذلك ‏:‏

وفي الأصنام معتبر وعلم

 

لمن يرجوا الثواب أو العقابا

إسلام فضالة ‏ :‏ قال ابن هشام ‏:‏ وحدثني أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح ؛ فلما دنا منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أفضالة‏؟‏ قال ‏:‏ نعم فضالة يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ ماذا كنت تحدث به نفسك ‏؟‏ قال ‏:‏ لا شيء ، كنت أذكر الله ؛ قال‏:‏ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ‏:‏ استغفر الله ، ثم وضع يده على صدره ، فسكن قلبه ؛ فكان فضالة يقول ‏:‏ والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه ‏.‏ قال فضالة ‏:‏ فرجعت إلى أهلي ، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت ‏:‏ هلم إلي الحديث ، فقلت ‏:‏ لا ، وانبعث فضالة يقول ‏:‏

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا

 

يأبى عـلـيك الـلـه والإسـلام

لوما رأيت محمداً وقـبـيلـه

 

بالفتح يوم تكـسـر الأصـنـام

لرأيت دين الله أضحى بـينـا

 

والشرك يغشى وجهه الإظـلام

الأمان لصفوان بن أمية ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني محمد بن جعفر ، عن عروة بن الزبير ، قال ‏:‏ خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب ‏:‏ يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه ، وقد خرج هارباً منك ، ليقذف نفسه في البحر ، فأمنه ، صلى الله عليك ؛ قال ‏:‏ هو آمن ؛ قال ‏:‏ يا رسول الله، فأعطني آية يعرف بها أمانك ‏.‏ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه ، وهو يريد أن يركب في البحر ، فقال ‏:‏ يا صفوان ، فداك أبي وأمي ، الله الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به ؛ قال ‏:‏ ويحك‏!‏ أغرب عني فلا تكلمني ‏.‏ قال ‏:‏ أي صفوان ، فداك أبي وأمي ، أفضل الناس، وأبر الناس ، وأحلم الناس، وخير الناس ، ابن عمك ، عزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك ، قال ‏:‏ إني أخافه على نفسي ، قال‏:‏ هو أحلم من ذاك وأكرم ‏.‏ فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صفوان‏:‏ إن هذا يزعم أنك قد أمنتنى ، قال ‏:‏ صدق ؛ قال ‏:‏ فاجعلني فيه بالخيار شهرين ؛ قال ‏:‏ أنت بالخيار فيه أربعة أشهر ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وحدثني رجل من قريش من أهل العلم أن صفوان قال لعمير‏:‏ ويحك ‏!‏ اغرب عني ، فلا تكلمني ، فإنك كذاب ، لما كان صنع به ، وقد ذكرناه في آخر حديث يوم بدر‏.‏

إسلام عكرمة وصفوان ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني الزهري ‏:‏ أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، وفاختة بنت الوليد - وكانت فاختة عند صفوان بن أمية ، وأم حكيم عند عكرمة بن أبي جهل - أسلمتا ؛ فأما أم حكيم فاستأمنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لعكرمة ، فأمنه ، فلحقت به باليمن ، فجاءت به ؛ فلما أسلم عكرمة وصفوان أقرهما رسول الله صلى الله عليه سلم عندهما على النكاح الأول ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني سعيد بن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت ‏:‏ قال ‏:‏ رمى حسان ابن الزبعرى وهو بنجران ببيت واحد ما زاده عليه ‏:‏

لا تعدمن رجلاً أحلك بغضه

 

نجران في عـيش أحـذ لـئيم

فلما بلغ ذلك ابن الزبعرى خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ، فقال ‏:‏ حين أسلم ‏:‏

يا رسول المليك إذ لـسـانـي

 

راتق ما فـتـقـت إذ أنـا بـور

إذ أباري الشيطان في سنن الغي

 

ومـن مـال مـيلـه مـثـبـور

آمن اللحم والعـظـام لـربـي

 

ثم قلبي الشـهـيد أنـت الـنـذير

إنني عنـك زاجـر ثـم حـيا

 

من لـؤي وكـلـهـم مـغـرور

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال عبدالله بن الزبعري أيضاً حين أسلم ‏:‏

منع الرقاد بلابـل وهـمـوم

 

والليل معتلـج الـرواق بـهـيم

مما أتاني أن أحمـد لامـنـي

 

فيه فبت كـأنـنـي مـحـمـوم

يا خير من حملت على أوصالها

 

عيرانة سـرح الـيدين غـشـوم

إني لمعتذر إلـيك مـن الـذي

 

أسديت إذ أنا في الضـلال أهـيم

أيام تأمرني بـأغـوى خـطة

 

سهم وتأمرني بـهـا مـخـزوم

وأمد أسباب الردى ويقـودنـي

 

أمر الغواة وأمـرهـم مـشـئوم

فاليوم آمن بالنبـي مـحـمـد

 

قلبي ومخطـئ هـذه مـحـروم

مضت العداوة وانقضت أسبابها

 

ودعت أواصر بينـنـا وحـلـوم

فاغفر فدى لك والداي كلاهما

 

زللي فـانـك راحـم مـرحـوم

وعليك من علم المليك عـلامة

 

نور أغـر وخـاتـم مـخـتـوم

أعطاك بعد محبة بـرهـانـه

 

شرفا وبرهـان الإلـه عـظـيم

ولقد شهدت بأن دينك صـادق

 

حق وأنك في العـبـاد جـسـيم

والله يشهد أن أحمد مصطفـى

 

مستقبل في الصالـحـين كـريم

قرم علا بنيانه مـن هـاشـم

 

فرع تمكـن فـي الـذرا وأروم

قال ابن هشام ‏:‏ وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له ‏.‏ هبيرة يبقى على كفره وما قاله من الشعر في إسلام زوجته ‏:‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وأما هبيرة بن أبي وهب المخزومي فأقام بها حتى مات كافراً ، كانت عنده أم هانئ بنت أبي طالب ، واسمها هند ، وقد قال حين بلغه إسلام أم هانئ ‏:‏

أشاقتك هند أم أتاك سـؤالـهـا

 

كذاك النوى أسبابها وانفـتـالـهـا

وقد أرقت في رأس حصن ممنع

 

بنجران يسري بعد ليل خـيالـهـا

وعاذلة هبت بليل تـلـومـنـي

 

وتعذلنـي بـالـلـيل ضـلالـهـا

وتزعم أني إن أطعت عشيرتـي

 

سأردى وهـل يردين إلا زيالـهـا

فإني لمن قوم إذا جـد جـدهـم

 

على أي حال أصبح اليوم حالـهـا

وإني لحام من وراء عشـيرتـي

 

إذا كان من تحت العوالي مجالهـا

وصارت بأيديها السيوف كأنهـا

 

مخاريق ولدان ومنها ظـلالـهـا

وإني لأقلي الحاسدين وفعلـهـم

 

على الله رزقي نفسها وعـيالـهـا

وإن كلام المرء في غير كنهـه

 

لكالنبل تهوى ليس فيها نصـالـهـا

فإن كنت قد تابعت دين محـمـد

 

وعطفت الأرحام منك حبـالـهـا

فكوني على أعلى سحيق بهضبة

 

ململمة غبـراء يبـس بـلالـهـا

قال ابن إسحاق ‏:‏ ويروى ‏:‏ وقطعت الأرحام منك حبالها ‏.‏

عدة من فتح مكة ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف ‏.‏ من بني سليم سبع مائة ‏.‏ ويقول بعضهم ‏:‏ ألف ؛ ومن بني غفار ‏:‏ أربع مائة ، ومن أسلم ‏:‏ أربع مائة ، ومن مزينة ‏:‏ ألف وثلاثة نفر ، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم ، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد ‏.‏

شعر حسان في فتح مكة ‏ :‏

وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت الأنصاري ‏:‏

عفت ذات الأصابع فالجواء

 

إلى عذراء منزلـهـا خـلاء

ديار من بني الحسحاس قفر

 

تعفيها الروامس والـسـمـاء

وكانت لا يزال بها أنـيس

 

خلال مروجها نـعـم وشـاء

فدع هذا ، ولكن من لطيف

 

يؤرقنى إذا ذهب الـعـشـاء

لشعثاء التي قد تـيمـتـه

 

فليس لقلبه منـهـا شـفـاء

كأن خبيئة من بـيت رأس

 

يكون مزاجها عسـل ومـاء

إذا ما الأشربات ذكرن يوماً

 

فهن لطيب الـراح الـفـداء

نوليها الملامة إن ألمـنـا

 

إذا ما كان مغـث أو لـحـاء

ونشربها فتتركنا ملـوكـا

 

وأسداً ما ينهنهنـا الـلـقـاء

عدمنا خيلنا إن لم تـروهـا

 

تثير النقع موعـدهـا كـداء

ينازعن الأعنة مصغـيات

 

على أكتافها الأصل الظمـاء

تظل جيادنا متـمـطـرات

 

يلطمهن بالخمـر الـنـسـاء

فإما تعرضوا عنا اعتمرنـا

 

وكان الفتح وانكشف الغطـاء

وإلا فاصبروا لـجـلاد يوم

 

يعين اللـه فـيه مـن يشـاء

وجبريل رسول الله فـينـا

 

وروح القدس ليس له كـفـاء

وقال الله قد أرسلت عبـداً

 

يقول الحق إن نفـع الـبـلاء

شهدت به فقوموا صدقـوه

 

فقلتهم لا نـقـوم ولا نـشـاء

وقال الله قد سيرت جـنـداً

 

هم الأنصار عرضتها اللقـاء

لنا في كل يوم من مـعـد

 

سباب أو قـتـال أو هـجـاء

فنحكم بالقوافي من هجانـا

 

ونضرب حين تختلط الدمـاء

ألا أبلغ أبا سفيان عـنـي

 

مغلغلة فقد برح الـخـفـاء

بأن سيوفنا تركتك عـبـداً

 

وعبدالدار سادتـهـا الإمـاء

هجوت محمداً وأجبت عنه

 

وعند الله فـي ذاك الـجـزاء

أتهجوه ولست له بـكـفء

 

فشركما لخيركمـا الـفـداء

هجوت مباركا براً حنيفـاً

 

أمين الله شيعـتـه الـوفـاء

أمن يهجو رسول الله منكم

 

ويمدحه وينـصـره سـواء ‏؟‏

فإن أبي ووالده وعرضـي

 

لعرض محمد منـكـم وقـاء

لساني صارم لا عيب فـيه

 

وبحري لا تـكـدره الـدلاء

قال ابن هشام ‏:‏ قالها حسان يوم الفتح ‏.‏ ويروي ‏:‏ لساني صارم لا عتب فيه ‏.‏ وبلغني عن الزهري أنه قال ‏:‏ لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر الصديق رضى الله عنه ‏.‏

أنس بن زنيم يعتذر مما قاله ابن سالم ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال أنس بن زنيم الديلي يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي ‏:‏

أأنت الذي تهدى معد بـأمـره

 

بل الله يهديهم وقال لـك اشـهـد

وما حملت من ناقة فوق رحلها

 

أبر وأوفي ذمة مـن مـحـمـد

أحث على خير وأسبـغ نـائلا

 

إذا راح كالسيف الصقيل المهنـد

وأكسى لبرد الخال قبل ابتذالـه

 

وأعطى لرأس السابق المتـجـرد

تعلم رسول الله أنك مـدركـي

 

وأن وعيداً منك كالأخـذ بـالـيد

تعلم رسول اللـه أنـك قـادر

 

على كل صرم متهمين ومنـجـد

تعلم بأن الركب ركب عويمـر

 

هم الكاذبون المخلفو كل مـوعـد

ونبوا رسول الله أني هجوتـه

 

فلا حملت سوطي إلـي إذن يدي

سوى أنني قد قلت ويل أم فتية

 

أصيبوا بنحس لا بطلق وأسـعـد

أصابهم من لم يكن لدمـائهـم

 

كفاء فعزت عبرتي وتـبـلـدي

فإنك قد أخفرت إن كنت ساعيا

 

بعبد بن عبداللـه وابـنة مـهـود

ذويب وكلثوم وسلمى تتابعـوا

 

جميعا فإلا تدمع العـين أكـمـد

وسلمى ليس حي كمـثـلـه

 

وأخوته وهل ملوك كـأعـبـد ‏؟‏

فإني لا دينا فتقـت ولا دمـا

 

هرقت تبين عالم الحق واقصـد

ما قاله بديل في الرد على ابن زنيم ‏ :‏

فأجابه بديل بن عبد مناف ابن أم أصرم ، فقال ‏:‏

بكى أنس رزنا فأعوله البكـا

 

فألا عدياً إذ تـطـل وتـبـعـد

بكيت أبا عبس لقرب دمائهـا

 

فتعذر إذ لا يوقد الحرب موقـد

أصابهم يوم الخنـادم فـتـية

 

كرام فسل ، منهم نضيل ومعبـد

هنالك إن تسفح دموعك لا تلم

 

عليهم وإن لم تدمع العين فاكمدوا

قال ابن هشام ‏:‏ وهذه الأبيات في قصيدة له ‏.‏

شعر بجير بن زهير في يوم الفتح ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال بجير بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح ‏:‏

نفى أهل الحبلق كـل فـج

 

مزينة غدوة وبـنـو خـفـاف

ضربناهم بمكة يوم فتح النبي

 

الخير بالـبـيض الـخـفـاف

صبحناهم بسبع من سـلـيم

 

وألف من بنى عثـمـان واف

نطا أكتافهم ضربا وطعـنـا

 

ورشقا بالمريشة الـلـطـاف

ترى بين الصفوف لها حفيفا

 

كما انصاع الفواق من الرصاف

فرحنا والجياد تجول فـيهـم

 

بأرماح مـقـومة الـثـقـاف

فأبنا غانمين بما اشتـهـينـا

 

وآبوا نادمين علـى الـخـلاف

وأعطينا رسول اللـه مـنـا

 

مواثقنا على حسن التصـافـي

وقد سمعوا مقالتنا فهـمـوا

 

غداة الروع منا بـانـصـراف

شعر عباس بن مرداس في فتح مكة ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ وقال عباس بن مرداس السلمي في فتح مكة ‏:‏

منا بمكة يوم فتح مـحـمـد

 

ألف تسيل به البطـاح مـسـوم

نصروا الرسول وشاهدوا أيامه

 

وشعارهم يوم اللـقـاء مـقـدم

في منزل ثبتت به أقدامـهـم

 

ضنك كأن الهام فيه الـحـنـتـم

جرت سنابكها بنجد قبـلـهـا

 

حتى استقاد لها الحجـاز الأدهـم

اللـه مـكـنـه لـه وأذلـه

 

حكم السيوف لنا وجـد مـزحـم

عود الرياسة شامخ عرنـينـه

 

متطلع ثغر المكـارم خـضـرم

إسلام عباس بن مرداس

سبب إسلام ابن مرداس ‏‏

قال ابن هشام ‏:‏ وكان إسلام عباس بن مرداس ، فيما حدثني بعض أهل العلم بالشعر ، وحديثه أنه كان لأبيه مرداس وثن يعبده ، وهو حجر كان يقال له ضمار ، فلما حضر مرداس قال لعباس ‏:‏ أي بني ، اعبد ضمار فإنه ينفعك ويضرك ، فبينا عباس يوماً عند ضمار ، إذ سمع من جوف ضمار منادياً يقول ‏:‏

قل للقبائل من سليم كـلـهـا

 

أودى ضمار وعاش أهل المسجد

إن الذي ورث النبوة والهدى

 

بعد ابن مريم من قريش مهتدى

أودى ضمار وكان يعبد مرة

 

قبل الكتاب إلى النبي محـمـد

فحرق عباس ضمار ، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ‏.‏ شعر جعدة في يوم الفتح ‏:‏ قال ابن هشام ‏:‏ وقال جعدة بن عبدالله الخزاعي يوم فتح مكة ‏:‏

أكعب بن عمرو دعوة غير باطل

 

لحـين لـه يوم الـحـديد مـتـاح

أتيحت له من أرضه وسـمـائه

 

لتقـتـلـه لـيلا بـغـير سـلاح

ونحن الألى سدت غزال خيولنـا

 

ولفـتـا سـددنـاه وفـج طـلاح

خطرنا وراء المسلمين بجحفـل

 

ذوي عضد من خـيلـنـا ورمـاح

وهذه الأبيات في أبيات له ‏.‏ شعر بجيد في فتح مكة ‏ :‏ وقال بجيد بن عمران الخزاعي ‏:‏

وقد أنشأ الله السحاب بنصرنا

 

ركام صحاب الهيدب المتراكب

وهجرتنا في أرضنا عندنا بها

 

كتاب أتى من خير ممل وكاتب

ومن أجلنا حلت بمكة حرمة

 

لندرك ثأراً بالسيوف القواضب

مسير خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة ومسير علي لتلافي خطأ خالد

وصاة الرسول له وما كان منه ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عز وجل ، ولم يأمرهم بقتال ، وكان ممن بعث خالد بن الوليد ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً ، ولم يبعثه مقاتلاً ، فوطئ بني جذيمة ، فأصاب منهم ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وقال عباس بن مرداس السلمي في ذلك ‏:‏

فإن تك أمرت في القوم خالـدا

 

وقدمتـه فـإنـه قـد تـقـدمـا

بجند هداه اللـه أنـت أمـيره

 

نصيب به في الحق من كان أظلما

قال ابن هشام ‏:‏ وهذان البيتان في قصيدة له في حديث يوم حنين ، سأذكرها إن شاء الله في موضعها ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال ‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعياً ، ولم يبعثه مقاتلاً ، ومعه قبائل من العرب ‏:‏ سليم بن منصور ، ومدلج بن مرة ، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة ، فلما رآه القوم أخذوا السلاح ، فقال خالد ‏:‏ ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة ‏:‏ قال ‏:‏ لما أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم ‏:‏ ويلكم يا بني جذيمة ‏!‏ إنه خالد والله ‏!‏ ما بعد وضع السلاح إلا الإسار ، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً ‏.‏ قال ‏:‏ فأخذه رجال من قومه ، فقالوا ‏:‏ يا جحدم ، أتريد أن تسفك دماءنا ‏؟‏ إن الناس أسلموا ووضعوا السلاح ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس ‏.‏ فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ، ووضع القوم السلاح لقول خالد ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني حكيم بن حكيم ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال ‏:‏ فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك ، فكتفوا ، ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ؛ فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رفع يديه إلى السماء، ثم قال ‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ‏.‏ الرسول يتبرأ من فعل خالد ‏ :‏ قال ابن هشام ‏:‏حدثني بعض أهل العلم ، أنه حدث عن إبراهيم بن جعفر المحمودي ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ رأيت كأني لقمت لقمة من حيس فالتذذت طعمها ، فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها ، فأدخل علي يده فنزعه ‏.‏ فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه ‏:‏ يا رسول الله ، هذه سرية من سراياك تبعثها ، فيأتيك منها بعض ما تحب ، ويكون في بعضها اعتراض ، فتبعث علياً فيسهله ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وحدثني أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ هل أنكر عليه أحد ‏؟‏ فقال ‏:‏ نعم ، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة ، فنهمه خالد ، فسكت عنه ، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب ، فراجعه ، فاشتدت مراجعتهما ، فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ أما الأول يا رسول الله فابني عبدالله ، وأما الآخر فسالم ، مولى أبي حذيفة ‏.‏ إرساله صلى الله عليه وسلم علياً بدية بني جذيمة ‏ :‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني حكيم بن حكيم ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال ‏:‏ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال‏:‏ يا علي ، اخرج إلى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ‏.‏ فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال ، حتى أنه ليدي لهم ميلغة الكلب ، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه ، بقيت معه بقية من المال ، فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم ‏:‏ هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ لا ، قال ‏:‏ فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال ، احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما يعلم ولا تعلمون ، ففعل ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ‏:‏ فقال ‏:‏ أصبت وأحسنت ‏!‏ قال ‏:‏ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه ، حتى إنه ليرى مما تحت منكبيه ، يقول ‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ، ثلاث مرات ‏.‏ معذرة خالد في قتال القوم ‏ :‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد قال بعض من يعذر خالداً ‏:‏ إنه قال ‏:‏ ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبدالله بن حذافة السهمي ، وقال ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ قال أبو عمرو المدني ‏:‏ لما أتاهم خالد ، قالوا ‏:‏ صبأنا صبأنا ‏.‏ ما وقع بين عبدالرحمن بن عوف وخالد بن الوليد ‏ :‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان جحدم قال لهم حين وضعوا السلاح ورأى ما يصنع خالد ببني جذيمة ‏:‏ يا بني جذيمة ، ضاع الضرب ، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه ‏.‏ قد كان بين خالد وبين عبدالرحمن بن عوف ، فيما بلغني ، كلام في ذلك ، فقال له عبدالرحمن بن عوف ‏:‏ عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ‏.‏ فقال ‏:‏ إنما ثأرت بأبيك ‏.‏ فقال عبدالرحمن ‏:‏ كذبت ، قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة ، حتى كان بينهما شر ‏.‏ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ مهلاً يا خالد ، دع عنك أصحابي ، فوالله لو كان لك أحد ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته ‏.‏ ما كان بين قريش وبني جذيمة في الجاهلية ‏ :‏ وكان الفاكه بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، وعوف بن عبد مناف بن عبدالحارث بن زهرة ، وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس قد خرجوا تجاراً إلى اليمن ، ومع عفان ابنه عثمان ، ومع عوف ابنه عبدالرحمن ‏.‏ فلما أقبلوا حملوا مال رجل من بني جذيمة بن عامر ، كان هلك باليمن ، إلى ورثته ، فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام ، ولقيهم بأرض بني جذيمة قبل أن يصلوا إلى أهل الميت ، فأبوا عليه ، فقاتلهم بمن معه من قومه على المال ليأخذوه ، وقاتلوه ، فقتل عوف بن عبد عوف ، والفاكه بن المغيرة ، ونجا عفان أبي العاص وابنه عثمان ، وأصابوا مال الفاكه بن المغيرة ، ومال عوف بن عبد عوف ، فانطلقوا به ‏.‏ وقتل عبدالرحمن بن عوف خالد بن هشام قاتل أبيه ، فهمت قريش بغزو بني جذيمة ، فقالت بنو جذيمة ‏:‏ ما كان مصاب أصحابكم عن ملأ منا ، إنما عدا عليهم قوم بجهالة ، فأصابوهم ولم نعلم ، فنحن نعقل لكم ما كان قبلنا من دم أو مال ، فقبلت قريش ذلك ، ووضعوا الحرب ‏.‏ ما قيل من الشعر فيما كان بين خالد وجذيمة ‏ :‏ وقد قال قائل من بني جذيمة ، ويعضهم يقول ‏:‏ امرأة يقال لها سلمى ‏:‏

ولولا مقال القوم للقوم أسلـمـوا

 

للاقت سلـيم يوم ذلـك نـاطـحـا

لما صعهم بسر وأصحاب جحـدم

 

ومرة حتى يتركوا البرك ضابـحـا

فكائن ترى يوم الغمصياء من فتى

 

أصيب ولم يجرح وقد كان جارحـا

ألظت بخطاب الأيامى وطلقـت

 

غداتئذ منهن مـن كـان نـاكـحـا

قال ابن هشام ‏:‏ قوله ‏:‏ بسر ، وألظت بخطاب ، عن غير ابن إسحاق ‏.‏ ما قاله عباس بن مرداس في الرد على ما قيل ‏ :‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فأجابه عباس بن مرداس ، ويقال بل الجحاف بن حكيم السلمي ‏:‏

دعي عنك تقوال الضلال كفى بنا

 

لكبش الوغى في اليوم والأمس ناطحا

فخالد أولى بالتـعـذر مـنـكـم

 

غداة علا نهجا من الأمر واضـحـا

معانا بأمر اللـه يزجـي إلـيكـم

 

سوانح لا تكـبـو لـه وبـوارحـا

نعوا مالكا بالسهل لما هبـطـنـه

 

عوابس في كأبي الغبار كـوالـحـا

فإن نك أثكلناك سلمى فـمـالـك

 

تركتم عـلـيه نـائحـات ونـائحـا

ما قاله الجحاف رداً على ما قيل أيضاً ‏:‏ قال الجحاف بن حكيم السلمي ‏:‏

شهدن مع النبي مسومـات

 

حنينا وهي دامـية الـكـلام

وغزوة خالد شهدت وجرت

 

سنابكهن بالبـلـد الـحـرام

نعرض للطعان إذا التقينـا

 

وجوها لا تعرض لـلـطـام

ولست بخالع عني ثـيابـي

 

إذا هز الكمـاة ولا أرامـي

ولكني يجول المهر تحتـي

 

إلى العلوات بالعضب الحسام

خبر ابن أبي حدرد مع بني جذيمة ‏ :‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن الزهري ، عن ابن أبي حدرد الأسلمي ، قال ‏:‏ كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد ، فقال لي ‏:‏ فتى من بني جذيمة ، وهو في سني ، وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ، ونسوة مجتمعات غير بعيد منه ، يا فتى ؛ فقلت ‏:‏ ما تشاء ‏؟‏ قال ‏:‏ هل أنت آخذ بهذه الرمة ، فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضى إليهن حاجة ، ثم تردني بعد ، فتصنعوا بي ما بدا لكم ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ والله ليسير ما طلبت ‏.‏ فأخذت برمته فقدته بها ، حتى وقف عليهن ، فقال ‏:‏ اسمي حبيش على نفد من العيش ‏:‏

أريتك إذ طالبتكم فوجـدتـكـم

 

بحلية أو ألفيتكـم بـالـخـوانـق

ألم يك أهلاً أن ينول عـاشـق

 

تكلف إدلاج الـسـرى والـودائق

فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا

 

أثيبي بود قبل إحدى الـصـفـائق

أثيبي بود قبل أن تشحط النـوى

 

وينأى الأمير بالحبيب المـفـارق

فإني لا ضيعـت سـر أمـانة

 

ولا راق عيني عنك بعـدك رائق

سوى أن ما نال العشيرة شاغل

 

عن الود إلا أن يكون الـتـوامـق

قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر البيتين الأخيرين منها له ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، عن الزهري عن ابن أبي حدرد الأسلمي ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ وأنت فحييت سبعاً وعشراً ، وتراً وثمانياً تترى ‏.‏ قال ‏:‏ ثم انصرفت به فضربت عنقه ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني أبو فراس بن أبي سنبلة الأسلمي ، عن أشياخ منهم ، عمن كان حضرها منهم ، قالوا ‏:‏ فقامت إليه حين ضربت عنقه ، فأكبت عليه ، فما زالت حتى ماتت عنده ‏.‏ شعر رجل من بني جذيمة ‏ :‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال رجل من بني جذيمة ‏:‏

جزى الله عنا مدلجا حيث أصبحت

 

جزاءة بؤسى حيث سارت وحـلـت

أقاموا على أقضاضنا يقسمونهـا

 

وقد نهلت فينا الـرمـاح وعـلـت

فواللـه لـولا دين آل مـحـمـد

 

لقد هربت منهم خـيول فـشـلـت

وما ضرهم أن لا يعينوا كـتـيبة

 

كرجل جراد أرسلت فاشمـعـلـت

فإما ينيبوا أو يثوبـوا لأمـرهـم

 

فلا نحن نجزيهم بما قـد أضـلـت

ما أجابه به وهب الليثي ‏:‏ فأجابه وهب رجل من بني ليث فقال ‏:‏

دعونا إلى الإسلام والحق عامراً

 

فما ذنبنا في عـامـر إذ تـولـت

وما ذنبنا في عامر لا أبا لـهـم

 

لأن سفهت أحلامهم ثـم ضـلـت

شعر رجل من بني جذيمة ‏:‏ وقال رجل من بني جذيمة ‏:‏

ليهنئ بني كعب مقدم خـالـد

 

وأصحابه إذ صبحتنا الكـتـائب

فلاترة يسعى بها ابن خويلـد

 

وقد كنت مكفيا لو أنـك غـائب

فلا قومنا ينهون عنا غواتهـم

 

ولا الداء من يوم الغميصاء ذاهب

شعر غلام جذمى هارب أمام خالد ‏:‏ وقال غلام من بني جذيمة ، وهو يسوق بأمه وأختين له وهو هارب بهن من جيش خالد ‏:‏

رخين أذيال المروط واربعن

 

مشي حييات كأن لم يفـزعـن

إن تمنع اليوم نساء تمنعـن

 

 

ما ارتجز به غلمة من جذيمة ‏:‏ وقال غلمة من بني جذيمة ، يقال لهم ‏:‏ بنو مساحق ، يرتجزون حين سمعوا بخالد ، فقال أحدهم ‏:‏

قد علمت صفراء بيضاء الإطل

 

يحـوزهـا ذو ثـلة وذو إبــل

لأغنين اليوم ما أغنـى رجـل

 

 

وقال الآخر ‏:‏

قد علمت صفراء تلبي العرسا

 

لا تملأ الحيزوم منها نـهـسـا

لأضربن اليوم ضربا وعسـا

 

ضرب المجلين مخاضا قعـسـا

وقال الآخر ‏:‏

أقسمت ما إن خادر ذو لبده

 

شثن البنان في غـداة بـرده

جهم المحيا ذو سبال ورده

 

يرزم بـين أيكة وجـحــده

ضار بتأكال الرجال وحده

 

بأصدق الغداة منـي نـجـده