الفصل الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات - الفصل العشرون: في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس

لما كان الملك طبيعيا للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان لأنهما
143
للإنسان خاصة لا للحيوان فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة والملك إذ الخير هو المناسب للسياسة وقد ذكرنا أن المجد له أصل يبنى عليه وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير وفرع يتمم وجوده ويكمله وهو الخلال وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عريانا بين الناس وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصا في أهل البيوت والأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب وأيضا فالسياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره فإنه فاعل للخير والشر معا ومقدرهما إذ لا فاعل سواه فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق ووجدت فيه الصلاحية لذلك وهذا البرهان أوثق من الأول وأصح مبنى فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي والأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزلات والاحتمال من غير القادر والقرى للضيوف وحمل الكل وكسب المعدم والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عند ما يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن بهم واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم ورغبة الدعاء منهم والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه وإنصاف المستضعفين من أنفسهم والتبذل في أحوالهم والانقياد للحق والتواضع للمسكين واستماع شكوى المستغيثين والتدين بالشرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم
144
مناسب لعصبيتهم وغلبهم وليس ذلك سدى فيهم ولا وجد عبثا منهم والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه إليهم وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك وجعل في أيديهم من الخير وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيرا مما قلناه ورسمناه والله يخلق ما يشاء ويختار واعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل ألو العصبية وتكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس منازلهم وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية ويشاركهم في اتساع الجاه أمر طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه وأما أمثال هؤلاء ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى فيندفع الشك في شأن كرامتهم ويتمحض القصد فيهم أنه للمجد وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السياسة بالكلية لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه وإكرام الطارئين من أهل الفضائل والخصوصيات كمال في السياسة العامة فالصالحون للدين والعلماء للجاءي إليهم في إقامة مراسم الشريعة والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم والغرباء من مكارم الأخلاق وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو من العدل فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك وأن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجود علاماتها ولهذا كان أول ما يذهب من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا الصنف من الخلق فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهم وارتقب زوال الملك منهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له والله تعالى أعلم