الفصل الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات - الفصل 22: في أن الملك إذ ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عودة إلى شعب آخر منها ما دامت لهم العصبية

والسبب في ذلك أن الملك إنما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم من سائر الأمم سواهم فيتعين منهم المباشرون للأمر الحاملون سرير الملك ولا يكون
146
ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة التي يضيق عنها نطاق المزاحمة والغيرة والتي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرتبة فإذا تعين أولئك القائمون بالدولة انغمسوا في النعيم وغرقوا في بحر الترف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل وأنفقوهم في وجوه الدولة ومذاهبها وبقي الذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي شاركوها بنسبهم وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن الترف وأسبابه فإذا استولت على الأولين الأيام وأباد غضراءهم الهرم فطبختهم الدولة وأكل الدهر عليهم وشرب بما أرهف النعيم من حدهم واستقت غريزة الترف من مائهم وبلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني والتغلب السياسي شعر كدود القز ينسج ثم يفنى بمركز نسجه في الانعكاس كانت حينئذ عصبية الآخرين موفورة وسورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة فتسموا آمالهم إلى الملك الذي كانوا ممنوعين منه بالقوة الغالبة من جنس عصبيتهم وترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم فيستولون على الأمر ويصير إليهم وكذا يتفق فيهم مع من بقي أيضا منتبذا عنه من عشائر أمتهم فلا يزال الملك ملجئا في الأمة إلى أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها سنة الله في الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين واعتبر هذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير أيضا ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضا ومن بعدهم الاذواء كذلك ثم جاءت الدولة لمضر وكذا الفرس لما انقرض أمر الكينية ملك من بعدهم الساسانية حتى تأذن بانقراضهم أجمع بالإسلام وكذااليونانيون انقرض أمرهم وانتقل إلىإخوانهم من الروم وكذا البربر بالمغرب لما انقرض أمر مغراوة وكتامةالملوك الأول منهم رجع إلى صنهاجةثم الملثمين من بعدهم ثم من بقي من شعوب زناتةوهكذا سنة الله في عباده وخلقه وأصل هذا كله إنما يكون بالعصبية وهي متفاوتة في الأجيال والملك يخلقه الترف ويذهبه كما سنذكره بعد فإذا انقرضت دولة فإنما يتناول الأمر منهم من له عصبية مشاركة لعصبيتهم التي عرف لها التسليم والانقياد وأونس منها الغلب لجميع العصبيات وذلك إنما يوجد
147
في النسب القريب منهم لأن تفاوت العصبية بحسب ما قرب من ذلك النسب التي هي فيه أو بعد حتى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملة أو ذهاب عمران أو ما شاء الله من قدرته فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الذي يأذن الله بقيامه بذلك التبديل كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم والدول وأخذوا الأمر من أيدي أهل العالم بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقابا