والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش ورئيسهم محتاج إليهم غالبا لعصبية التي بها المدافعة فكان مضطرا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعا بالقهر وإلا لم تستقم سياسته وأيضا فإن من طبيعتهم كما قدمناه أخذ ما في أيدي الناس خاصة والتجافي عما سوى ذلك من
152
الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض فإذا ملكوا أمة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم وربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصا على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد فلا يكون ذلك وازعا وربما يكون باعثا بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران فتبقى تلك الأمة كأنها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعا شأن الفوضى كما قدمناه فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا وتتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم كان رستم إذا رأى المسلمين مجتمعون للصلاة يقول أكل عمر كبدي يعلم الكلاب الآداب ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النصفة فتوحشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم ولما ذهب أمر الخلافة وامحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا سياسته بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتبابعة شاهدة بذلك ثم دولة مضر في الإسلام بني أمية وبني العباس لكن بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون ماله وغايته إلا تخويب ما يستولون عليه من العمران كما قدمناه والله يؤتي ملكه من يشاء