الفصل الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات - الفصل 29:في أن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار

153

قد تقدم لنا أن عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والأمصار لأن الأمور الضرورية في العمران ليس كلها موجودة لأهل البدو وإنما توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح وموادها معدومة ومعظمها الصنائع فلا توجد لديهم في الكلية من نجار وخياط وحداد وأمثال ذلك مما يقيم لهم ضروريات معاشهم في الفلح وغيره وكذا الدنانير والدراهم مفقودة لديهم وإنما بأيديهم أعواضها من مغل الزراعة وأعيان الحيوان أو فضلاته ألبانا وأوبارا وأشعارا وإهابا مما يحتاج إليه أهل الأمصار فيعوضونهم عنه بالدنانير والدراهم إلا أن حاجتهم إلى الأمصار في الضروري وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجي والكمالي فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهم فما داموا في البادية ولم يحصل لهم ملك ولا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلى أهلها ويتصرفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم إلى ذلك وطالبوهم به وإن كان في المصر ملك كان خضوعهم وطاعتهم لغلب الملك وإن لم يكن في المصر ملك فلا بد فيه من رئاسة ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين وإلا انتقض عمرانه وذلك الرئيس يحملهم على طاعته والسعي في مصالحه إما طوعا ببذل المال لهم ثم يبدي لهم ما يحتاجون إليه من الضروريات في مصره فيستقيم عمرانهم وإما كرها إن تمت قدرته على ذلك ولو بالتغريب بينهم حتى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطر الباقون إلى طاعته بما يتوقعون لذلك من فساد عمرانهم وربما لا يسعهم مفارقة تلك النواحي إلى جهات أخرى لأن كل الجهات معمور بالبدو الذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرها فلا يجد هؤلاء ملجأ إلا طاعة المصر فهم بالضرورة مغلوبون لأهل الأمصار والله قاهر فوق عباده وهو الواحد الأحد القهار