154
والسبب في ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب للغرابة وأن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم وقاتل الناس معهم
155
على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانية كأنه من جملة عقودها ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إما بالموالي والمصطنعين الذين نشأوا في ظل العصبية وغيرها وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها ومثل هذا وقع لبني العباس فإن عصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملوكها وصار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم ثم انقرض أمرهم وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة وكذا صنهاجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها واستمرت لهم الدولة متقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور أفريقية وربما انتزى بتلك الثغور من نازعهم الملك واعتصم فيها والسلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتى تأذن الله بانقراض الدولة وجاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة فمحوا آثارهم وكذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوك الطوائف على أمرها واقتسموا خطتها وتنافسوا بينهم وتوزعوا ممالك الدولة وانتزى كل واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه بلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته وأمنوا ممن ينقض ذلك عليهم أو يغيره لأن الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمر لهم ذلك كما قال ابن شرف مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطراء على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبية العرب واستبد ابن أبي عامر على الدولة فكان لهم دول عظيمة
156
استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس وحظ كبير من الملك على نسبة الدولة التي اقتسموها ولم يزالوا في سلطانهم ذلك حتى جاز إليهم البحر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها وقد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الذي سماه سراج الملوك وكلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة في أولها وإنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب واستحكام الصبغة لأهله فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها وخلق جدتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة فإنه إنما أدرك دول الطوائف وذلك عند اختلال بني أمية وانقراض عصبيتها من العرب واستبداد كل أمير بقطر وكان في إيالة المستعين من هود وابنه المظفر أهل سرقسطة ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائة من السنين وهلاكهم ولم يرد إلا سلطانا مستبدا بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة وبقية العصبية فهو لذلك لا ينازع فيه ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطرطوشي القول في ذلك ولم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة وإنه لا يتم إلا لأهل العصبية فتفطن أنت له وافهم سر الله فيه والله يؤتي ملكه من يشاء