الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل السابع: في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها

والسبب في ذلك أن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهدين لها لا بد من توزيعهم حصصا على الممالك والثغور التي تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من العدو وإمضاء أحكام الدولة فيها من جباية وردع وغير ذلك فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغرا للدولة وتخما لوطنها ونطاقا لمركز ملكها فإن تكفلت الدولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور ويعود وبال ذلك على الدولة بما يكون فيه من التجاسر وخرق سياج الهيبة
162
وما كانت العصابة موفورة ولم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثغور والنواحي بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية حتى ينفسح نطاقها إلى غايته والعلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها والدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف والنطاق وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت وأقصرت عما وراءه شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه ثم إذا أدركها الهرم والضعف فإنما تأخذ في التناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظا إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز وإذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنطاق بل تضمحل لوقتها فإن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح فإذا غلب على القلب وملك انهزم جميع الأطراف وانظر هذا في الدولة الفارسية كان مركزها المدائن فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع ولم ينفع يزدجرن ما بقي بيده من أطراف ممالكه وبالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام لما كان مركزها القسطنطينية وغلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية ولم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم فلم يزل ملكهم متصلا بها إلى أن تأذن الله بانقراضه وانظر أيضا شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام والعراق ومصر لأسرع وقت ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند والحبشة وأفريقية والمغرب ثم إلى الأندلس فلما تفرقوا حصصا على الممالك ونزلوها حامية ونفد عددهم في تلك التوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد وانتهى أمر الإسلام ولم يتجاوز تلك الحدود ومنها تراجعت الدولة حتى تأذن الله بانقراضها وكذا كان حال الدول من بعد ذلك كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة وعند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء سنة الله في خلقه