الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل التاسع عشر: في استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين

183

إعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته وظهراؤه على شأنه وبهم يقارع الخوارج على دولته ومنهم يقلد أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله لأنهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر ومساهموه في سائر مهماته هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه فإذا جاء الطور الثاني وظهر الاستبداد عنهم والانفراد بالمجد ودافعهم عنه بالمراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم ويتولاهم دونهم فيكونون أقرب إليه من سائرهم وأخص به قربا واصطناعا وأولى إيثارا وجاها لما أنهم يستميتون دونه في مدافعتة قومه عن الأمر الذي كان لهم والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم فيستخلصهم صاحب الدولة ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختص به لنفسه وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها ومرض قلوب أهل الدولة حينئذ حينئذ من الامتهان وعداوة السلطان فيضطغنون عليه ويتربصون به الدوائر ويعود وبال ذلك على الدولة ولا يطمع في برئها من هذا الداء لأنه ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها واعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زياد بن ابي سفيان والحجاج بن يوسف والمهلب بن أبي صفرة وخالد بن عبد الله القسري وابن هبيرة وموسى بن نصير وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ونصر بن سيار وأمثالهم من رجالات العرب وكذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضا برجالات العرب فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات صارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني
184
طاهر ثم بني بويه وموالي الترك مثل بغا ووصيف وأطمش وباكناك وابن طولون وأبنائهم وغير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدولة لغير من مهدها والعز لغير من اجتلبه سنة الله في عباده والله تعالى أعلم