الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل 26: في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه

وإذ قد بينا حقيقة هذا المنصب وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به تسمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماما فأما تسميته إماما فتشبيها بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به ولهذا يقال الإمامة الكبرى وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول الله واختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباسا من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة وقوله جعلكم خلائف الأرض ومنع الجمهور منه لأن معنى الآية ليس عليه وقد نهى أبو بكر عنه لما دعي به وقال لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله ولأن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب وأما الحاضر فلا ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم وكذا في كل عصر من بعد ذلك ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه قالوا وإنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة
192
الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبؤات في البشر وقد نبهنا على فساده وأن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلم لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدعوة أو نقول يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك ونصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة فدل على أن مدرك وجوبه إنما هو بالشرع وهو الإجماع الذي قدمناه وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأسا لا بالعقل ولا بالشرع منهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم والواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء الحكم الشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه وهؤلاء محجوجون بالإجماع والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك والنهي على أهله ومرغبة في رفضه واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته ولا حظر القيام به وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم والتمتع باللذات ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة وهي من توابعه كما أثنى على العدل والنصفة وإقامة مراسم الدين والذب عنه وأوجب بإزائها الثواب وهي كلها من توابع الملك فإذا إنما وقع الذم للملك على صفة وحال دون حال أخرى ولم يذمه لذاته ولا طلب تركه كما ذم الشهوة والغضب من المكلفين وليس مراده تركهما بالكلية لدعاية الضرورة إليها وأما المراد تصريفهما على مقتضى الحق وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الذي لم يكن لغيرهما وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده
193
ثم نقول لهم إن هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النصب لا يغنيكم شيئا لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة وذلك لا يحصل إلا بالعصبية والشوكة مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم ينصب إمام وهو عين ما قررتم عنه وإذا تقرر أن هذا النصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجح إلى اختيار أهل العقد والحل فيتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وأما شروط هذا المنصب فهي أربعة العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل واختلف في شرط خامس وهو النسب القرشي فأما اشتراط العلم فظاهر لأنه إنما يكون منفذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهدا لأن التقليد نقص والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها فكان أولى باشترطها فيه ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها وفي انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف وأما الكفاية فهو أن يكون جريئا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرا بها كفيلا يحمل الناس عليها عارفا بالعصبية وأحوال الدهاء قويا على معاناة السياسة ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح وأما سلامة الحواس والأعضاء من النقص والعطلة كالجنون والعمى والصم والخرس وما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرجلين والانثيين فتشترط السلامة منها كلها لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه وإن كان إنما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السلامة منه شرط كمال ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التصرف وهو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السلامة منه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التصرف جملة بالأسر وشبهه وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقة فينتقل النظر في حال هذا المستولي فإن جرى على حكم الدين والعدل وحميد السياسة جاز قراره وإلا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علته
194
حتى ينفذ فعل الخليفة وأما النسب القرشي فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك واحتجت قريش على الأنصار لما هموا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة وقالوا منا أمير ومنكم أمير بقوله الأئمة من قريش وبأن النبي أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية بكم فحجوا الأنصار ورجعوا عن قولهم منا أمير ومنكم أمير وعدلوا عما كانوا هموا به من بيعة سعد لذلك وثبت أيضا في الصحيح لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش وأمثال هذه الأدلة كثيرة إلا أنه لما ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيتهم بما نالهم من الترف والنعيم وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة وتغلبت عليهم الأعاجم وصار الحل والعقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية وعولوا على ظواهر في ذلك قوله اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة وهذا لا تقوم به حجة في ذلك فإنه خرج مخرج التمثيل والغرض للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة ومثل قول عمر لو كان سالم مولى حذيفة حيا لوليته أو لما دخلتني فيه الظنة وهو أيضا لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة وأيضا فمولى القوم منهم وعصبية الولاء حاصلة لسالم في قريش وهي الفائدة في اشتراط النسب ولما استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر ولم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية وهي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصا من عمر رضي الله عنه على النظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة ومن القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرط القرشية وإن كان موافقا لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحة الإمامة للقرشي ولو كان عاجزا عن القيام بأمور المسلمين ورد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره لأنه إذا ذهبت
195
الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضا إلى العلم والدين وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الاجتماع ولنتكلم الآن في حكمة اشتراط النسب ليتحقق به الصواب في هذا المذاهب فنقول إن الأحكام الشرعية كلها لا بد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه لم يتقصر فيه على التبرك بوصلة النبي كما هو في المشهور وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلا لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها وينتظم حبل الإلفة فيها وذلك أن قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكرة فتتفرق الجماعة وتختلف الكلمة والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم ورفع التنازع والشتات بينهم لتحصل اللحمة والعصبية وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم ولا فرقة لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحل أمر الخلافة وتلاشت عصبية العرب ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتغلب على بطون مضر من مارس أخبار العرب وسيرهم وتفطن لذلك في أحوالهم وقد ذكر ذلك ابن إسحاق
196
في كتاب السير وغيره فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهي وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب في شأن النساء وأنهن في كثير من الأحكام الشرعية جعلن تبعا للرجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع وإنما دخلن عنده بالقياس وذلك لما لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرجال قوامين عليهن اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم على نفسه فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس ثم إن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم وقل أن يكون الآمر الشرعي مخالفا للأمر الوجودي والله تعالى أعلم