ذكر سنة تسع وتسميتها سنة الوفود ونزول سورة الفتح

انقياد العرب وإسلامهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف، وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏حدثني أبو عبيدة ‏:‏ أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى سنة الوفود ‏.‏

إذا جاء نصر الله والفتح

قال ابن إسحاق ‏:‏ وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم ، وأهل البيت الحرام ، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك ‏.‏ وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه ، فلما افتتحت مكة ، ودانت له قريش ، ودوخها الإسلام ، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عداوته ، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ {(‏ إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ‏)} ‏ أي ‏:‏ فاحمد الله علي ما أظهر من دينك واستغفره إنه كان توابا ‏.‏

قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات ‏ :‏

رجال الوفد فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود العرب ، فقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي ، في أشراف بني تميم ، منهم الأقرع بن حابس التميمي ، والزبرقان بن بدر التميمي ، أحد بني سعد ، وعمرو بن الأهتم ، والحبحاب بن يزيد ‏.‏

الحتات وما أخذه معاوية من ميراثه ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏الحتات وهو الذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بين نفر من أصحابه من المهاجرين ، بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف ، وبين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ، وبين أبي ذر الغفاري والمقداد بن عمرو البهراني ، وبين معاوية بن أبي سفيان والحتات بن يزيد المجاشعي ، فمات الحتات عند معاوية في خلافته ، فأخذ معاوية ما ترك وراثة بهذه الأخوة ، فقال الفرزدق لمعاوية ‏:‏

أبوك وعمي يا معاوية أورثا

 

تراثا فيحتاز التراث أقـاربـه

فما بال ميراث الحتات أكلته

 

وميراث حرب جامد لك ذائبه

وهذان البيتان في أبيات له ‏:‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وفي وفد بني تميم نعيم بن يزيد ،وقيس بن الحارث ، وقيس بن عاصم ، أخو بني سعد ، في وفد عظيم من بني تميم ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏وعطارد بن حاجب ، أحد بني دارم بن مالك بن حنظلة ابن زيد مناة بن تميم ، والأقرع بن حابس ، أحد بني دارم بن مالك ، والحتات بن يزيد ، أحد بني دارم بن مالك ، والزبرقان بن بدر ، أحد بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، وعمرو بن الأهتم ، أحد بني منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، وقيس بن عاصم أحد بني منقر بن عبيد بن الحارث ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنيناً والطائف ‏.‏ أصحاب الحجرات وطلبهم المفاخرة ‏ :‏

فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم ، فلما دخل وفد بني تميم المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ‏:‏ أن اخرج إلينا يا محمد ، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم ، فخرج إليهم ، فقالوا ‏:‏ يا محمد جئناك نفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا ؛ قال ‏:‏ قد أذنت لخطيبكم فليقل ‏:‏

كلمة عطارد يفتخر قومه

فقام عطارد بن حاجب فقال ‏:‏ الحمد لله الذي له علينا الفضل المن ،وهو أهله الذي جعلنا ملوكاً ، ووهب لنا أموالاً عظاما ، نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعز أهل المشرق ، وأكثره عدداً ، وأيسره عدة ، فمن مثلنا في الناس وأولي فضلهم ‏؟‏ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا ، ولو نشاء لأكثرنا الكلام ،ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا ، وإنا نعرف بذلك ‏.‏ أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا ، وأمر أفضل من أمرنا ‏.‏ ثم جلس‏.‏

ثابت بن قيس يرد على عطارد

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس ، أخي بني الحارث بن الخزرج ‏:‏ قم فأجب الرجل في خطبته ، فقام ثابت ، فقال ‏:‏ الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه ، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه ، ولم يك شيء قط إلا من فضله ، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً ، واصطفى من خير خلقه رسولا ، أكرمه نسبا ، وأصدقه حديثاً ، وأفضله حسباً ، فأنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين ، ثم دعا الناس إلى الإيمان به ، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوو رحمه ، أكرم الناس حسباً وأحسن الناس وجوها ، وخير الناس فعالا ‏.‏ ثم كان أول الخلق إجابة ، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن ، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله ، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه ، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً ، وكان قتله علينا يسيراً ‏.‏ أقول قولي هذا واستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات ، والسلام عليكم ‏.‏

شعر الزبرقان يفتخر بقومه

فقام الزبرقان بن بدر فقال ‏:‏

نحن الكرام فلا حي يعادلـنـا

 

منا الملوك وفينا تنصب الـبـيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهـم

 

عند النهاب وفضل العز يتـبـع

ونحن نطعم عند القحط مطعمنا

 

من الشواء إذا لم يؤنس الـقـزع

بما ترى الناس تأتينا سراتهـم

 

من كل أرض هويا ثم تصطنـع

فننحر الكوم عبطا في أرومتنا

 

للنازلين إذا ما أنزلوا شـبـعـوا

فلا ترانا إلى حي نفاخـرهـم

 

إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطـع

فمن يفاخرنا في ذاك نعرفـه

 

فيرجع القوم والأخبار تستـمـع

إنا أبينا ولا يأبـى لـنـا أحـد

 

إنا كذلك عند الفخـر نـرتـفـع

قال ابن هشام ‏:‏ ويروى ‏:‏ منا الملوك وفينا تقسم الربع ويروى ‏:‏ من كل أرض هوانا ثم نتبع رواه لي بعض بن تميم ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها للزبرقان ‏.‏

حسان يرد على الزبرقان

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان حسان غائباً فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حسان ‏:‏ جاءني رسوله ، فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم ، فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول ‏:‏

منعنا رسول الله إذ حل وسطنـا

 

على أنف راض من معـد وراغـم

منعناه لما حـل بـين بـيوتـنـا

 

بأسيافنا مـن كـل بـاغ وظـالـم

ببـيت حـريد عـزه وثــراؤه

 

بجابية الجـولان وسـط الأعـاجـم

هل المجد إلا السودد العود والندى

 

وجاه الملوك واحتمال الـعـظـائم

قال فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقام شاعر القوم ، فقال ما قال ‏:‏ عرضت في قوله ، وقلت على نحو ما قال ‏:‏ قال ‏:‏ فلما فرغ الزبرقان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت ‏:‏ قم يا حسان ، فأجب الرجل فيما قال ‏.‏ فقام حسان ، فقال ‏:‏

إن الذوائب من فهر وأخوتـهـم

 

قد بينوا سـنة لـلـنـاس تـتـبـع

يرضى بهم كل من كانت سريرته

 

تقوى الإله وكل الخير يصـطـنـع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهـم

 

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير مـحـدثة

 

إن الخلائق فاعلم شرهـا الـبـدع

إن كان في الناس سباقون بعدهم

 

فكل سبق لأدنى سبقـهـم تـبـع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهـم

 

عند الدفاع ولا يوهون ما رقعـوا

إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم

 

أو وازنوا أهل مجد بالندى متعـوا

أعفة ذكرت في الوحي عفتهـم

 

لا يطبعون ولا يرديهـم طـمـع

لا يبخلون على جار بفضلـهـم

 

ولا يمسهم من مطـمـع طـبـع

إذا نصبنا لحي لم نـدب لـهـم

 

كما يدب إلى الوحـشـية الـذرع

نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبهـا

 

إذا الزعانف من أظفارها خشعـوا

لا يفخرون إذا نالوا عـدوهـم

 

وإن أصيبوا فلا خور ولا هـلـع

كأنهم في الوغى والموت مكتنع

 

أسد بحليه في أرسـاغـهـا فـدع

خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا

 

ولا يكن همك الأمر الذي منعـوا

فإن في حربهم فاترك عداوتهـم

 

شرا يخاض عليه السم والسـلـع

أكرم بقوم رسول الله شيعتـهـم

 

إذا تفاوتـت الأهـواء والـشـيع

أهدى لهم مدحتي قلـب يؤازره

 

فيما أحب لسـان حـائك صـنـع

فإنهم أفضل الأحياء كـلـهـم

 

إن جد بالناس جد القول أو شمعـوا

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو زيد ‏.‏

يرضى بها كل من كانت سريرته

 

تقوى الإله وبالأمر الذي شـرعـوا

شعر أخر للزبرقان بن بدر

وقال ابن هشام ‏:‏ حدثني بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم ، أن الزبرقان بن بدر ، لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد تميم ، قام فقال ‏:‏

أتيناك كيما يعلم الناس فضلنـا

 

إذا احتفلوا عند احتضار المواسـم

بأنا فروع الناس في كل موطن

 

وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وأنا نذود المعلمين إذا انتخـوا

 

ونضرب رأس الأصيد المتفـاقـم

وأن لنا المرباع في كل غـارة

 

نغير بنجد أو بـأرض الأعـاجـم

شعر أخر لحسان في الرد على الزبرقان

فقام حسان بن ثابت ، فأجابه فقال ‏:‏

هل المجد إلا السودد العود والندى

 

وجاه الملوك واحتمال الـعـظـائم

نصرنا وآوينا النبـي مـحـمـدا

 

على أنف راض من معـد وراغـم

بحي حـريد أصـلـه وثـراؤه

 

بجابية الجـولان وسـط الأعـاجـم

نصرناه لما حـل وسـط ديارنـا

 

بأسيافنا مـن كـل بـاغ وظـالـم

جعلنا بنينـا دونـه وبـنـاتـنـا

 

وطبنا له نفسا بفـيء الـمـغـانـم

ونحن ضربنا الناس حتى تتابعـوا

 

على دينه بالمرهفـات الـصـوارم

ونحن ولدنا من قريش عظيمهـا

 

ولدنا نبي الخـير مـن آل هـاشـم

بني دارم لا تفخروا إن فخركـم

 

يعود وبالا عند ذكـر الـمـكـارم

هبلتم علينا تفـخـرون وأنـتـم

 

لنا خـول مـا بـين ظـئر وخـادم

فإن كنتم جئتم لحقـن دمـائكـم

 

وأموالكم أن تقسموا في المقـاسـم

فلا تجعلوا لله نـدا وأسـلـمـوا

 

ولا تلبسـوا زيا كـزي الأعـاجـم

إسلام الوفد ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله ، قال الأقرع بن حابس ‏:‏وأبى ، إن هذا الرجل لمؤتى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا ، فلما فرغ القوم أسلموا ، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم ‏.‏

شعر ابن الأهتم في هجاء قيس

وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في ظهرهم ، وكان أصغرهم سناً ، فقال قيس بن عاصم ، وكان يبغض عمرو بن الأهتم ‏:‏ يا رسول الله ، إنه قد كان رجل منا في رحالنا ، وهو غلام حدث ، وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم ، فقال عمرو بن الأهتم حين بلغه أن قيسا قال ذلك ، يهجوه ‏:‏

ظللت مفترش الهلباء تشتمني

 

عند الرسول فلم تصدق ولم تصب

سدناكم سوددا رهوا وسوددكم

 

باد نواجذه مقع علـى الـذنـب

قال ابن هشام ‏:‏ بقي بيت واحد تركناه ، لأنه أقذع فيه ‏.‏ ما نزل من القرآن في وفد بني تميم قال ابن إسحاق ‏:‏ وفيهم نزل من القرآن ‏:‏ ‏ (‏ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ‏) ‏ ‏.‏

قصة عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في الوفادة عن بني عامر

رؤساء الوفد ‏ ‏

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر ، فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر ، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر ، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم ‏.‏

عامر يدبر الغدر بالرسول ‏ ‏

فقدم عامر بن الطفيل عدو الله ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يريد الغدر به ، وقد قال له قومه ‏:‏ يا عامر ، إن الناس قد أسلموا فأسلم ، قال ‏:‏ والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي ، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ‏!‏ ثم قال لأربد ‏:‏ إذا قدمنا على الرجل ، فإني سأشغل عنك وجهه ، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف ‏.‏ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عامر بن الطفيل ‏:‏ يا محمد ، خالني ، قال ‏:‏ لا والله ، حتى تؤمن بالله وحده ، قال ‏:‏ يا محمد ، خالني ، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يخير شيئاً ، قال ‏:‏ فلما رأى عامر ما يصنع أربد ، قال ‏:‏ يا محمد خالني ، قال ‏:‏ لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له ‏.‏ فلما أبي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً ‏.‏ فلما ولي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اللهم اكفني عامر بن الطفيل ‏.‏ فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد ‏:‏ ويلك يا أربد ‏!‏ أين ما كنت أمرتك به ‏؟‏ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك ، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً ، قال ‏:‏ لا أبا لك ‏!‏ لا تعجل علي ، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل ، حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف ‏؟‏ ‏.‏

موت عامر بدعاء الرسول عليه ‏ :‏

وخرجوا راجعين إلى بلادهم ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه ، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول ، فجعل يقول ‏:‏ يا بني عامر ، أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ‏!‏ ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ويقال أغدة كغدة الإبل ، وموتا في بيت سلولية ‏!‏ ‏.‏ موت أربد بصاعقة قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم خرج أصحابه حين واروه ، حين قدموا أرض بني عامر شاتين ، فلما قدموا أتاهم قومهم ، فقالوا ‏:‏ ما وراءك يا أربد ‏؟‏ قال ‏:‏ لا شيء والله ، لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن ، فأرميه بالنبل حتى أقتله ، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه ، فأرسل الله تعالى عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما ‏.‏وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه ‏.‏

ما نزل في عامر وأربد

قال ابن هشام ‏:‏ وذكر زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس قال ‏:‏ وأنزل الله عز وجل في عامر وأربد ‏ {(‏ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ‏)} ‏ إلى قوله ‏:‏ ‏ (‏ وما لهم من دونه من وال ‏) ‏ ‏.‏ قال ‏:‏ المعقبات هي من أمر الله يحفظون محمداً ، ثم ذكر أربد وما قتله الله به فقال‏:‏ ‏ (‏ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ‏) ‏ إلى قوله ‏:‏ ‏ (‏ شديد المحال ‏) ‏ ‏.‏

شعر لبيد في بكاء أربد ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال لبيد يبكي أربد ‏:‏

ما إن تعدى المنون من أحـد

 

لا والـد مـشـفـق ولا ولـد

أخشى على أربد الحتوف ولا

 

أرهب نوء السـمـاك والأسـد

فعين هلا بـكـيت أربـد إذ

 

قمنا وقام النسـاء فـي كـبـد

إن يشغبوا لا يبال شغبـهـم

 

أو يقصدوا في الحكوم يقتصـد

حلو أريب وفي حـلاوتـه

 

مر لطيف الأحشاء والـكـبـد

وعين هلا بكـيت أربـد إذ

 

ألوت رياح الشتاء بالـعـضـد

وأصبحت لاقحا مـصـرمة

 

حتى تجلت غـوابـر الـمـدد

أشجع من ليث غابة لـحـم

 

ذو نهمة في العلا ومنـتـقـد

لا تبلغ العين كل نـهـمـتـهـا

 

ليلة تمـسـي الـجـياد كـالـقـدد

الباعث النـوح فـي مـآتـمـه

 

مثل الظباء الأبـكـار بـالـجـرد

فجعني البرق والصواعق بالفارس

 

يوم الـكـريهة الــنـــجـــد

والحارب الجابـر الـحـريب إذا

 

جاء نـكـيبـا وإن يعــد يعـــد

يعفو على الجهد والسؤال كـمـا

 

ينبت غيث الـربـيع ذو الـرصـد

كل بنـي حـرة مـصـيرهـم

 

قل وإن أكـثـرت مـن الـعــدد

إن يغبطوا يهبطـوا وإن أمـروا

 

يوما وإن فهم للـهـلاك والـنـفـد

         

قال ابن هشام ‏:‏بيته ‏(‏ والحارب الجابر الحريب ‏)‏ عن أبي عبيدة ، وبيته ‏(‏ يعفو على الجهد ‏)‏ عن غير ابن إسحاق ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا يبكي أربد ‏:‏

ألا ذهب المحافظ والمحامي

 

ومانع ضيمها يوم الخـصـام

وأيقنت التفرق يوم قـالـوا

 

تقسم مال أربد بـالـسـهـام

تطير عدائد الأشراك شفعـا

 

ووترا والزعـامة لـلـغـلام

فودع بالسلام أبـا حـريز

 

وقل وداع أربـد بـالـسـلام

وكنت إمامنا ولنا نظـامـا

 

وكان الجزع يحفظ بالنـظـام

وأربد فارس الهيجا إذ مـا

 

تقعرت المشاجـر بـالـفـئام

إذا بكر النساء مـردفـات

 

حواسر لا يجئن على الخـدام

فواءل يوم ذلك مـن أتـاه

 

كما وأل المحل إلى الـحـرام

ويحمد قدر أربد من عراها

 

إذا ما ذم أربـاب الـلـحـام

وجارته إذا حـلـت لـديه

 

لها نفل وحـظ مـن سـنـام

فإن تقعد فمكرمة حصـان

 

وإن تظعن فمحسنة الـكـلام

وهل حدثت عن أخوين داما

 

على الأيام إلا ابنـي شـمـام

وإلا الفرقدين وآل نـعـش

 

خوالد ما تحـدث بـانـهـدام

قال ابن هشام ‏:‏وهي في قصيدة له ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا يبكي أربد ‏:‏

انع الكريم للكـريم أربـدا

 

انع الرئيس واللطيف كـبـدا

يحذي ويعطي ماله ليحمدا

 

أدما يشبهـن صـوارا أبـداً

السابل الفضل إذا ما عـددا

 

ويملأ الجفـنة مـلـئا مـددا

رفها إذا يأتي ضريك وردا

 

مثل الذي في الغيل يقرو جمدا

يزداد قربا منهم أن يوعـدا

 

أورثتنا تراث غـير أنـكـدا

غبا ومالا طارفـا وولـدا

 

شرخا صقورا يافعا وأمـردا

وقال لبيد أيضا ‏:‏

لن تفنيا خـيرات أربـد

 

فابـكـيا حـتـى يعـودا

قولا هو البطل المحامي

 

حين يكـسـون الـحـديدا

ويصد عنا الظالـمـين

 

إذا لقينـا الـقـوم صـيدا

فاعتاقه رب الـبـرية

 

إذ رأى أن لا خـلــودا

فثوى ولم يوجـع ولـم

 

يوصب وكان هو الفـقـيد

وقال لبيد أيضا‏:‏

يذكرني بأربد كل خصـم

 

ألد تخال خطتـه ضـرارا

إذا اقتصدوا فمقتصد كريم

 

وإن جاروا سواء الحق جارا

ويهدي القوم مطلعا إذا ما

 

دليل القوم بالمومـاة حـارا

قال ابن هشام ‏:‏أخرها بيتا عن غير ابن إسحاق ‏:‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا ‏:‏

أصبحت أمشي بعد سلمي بن مالك

 

وبعد أبي قيس وعـروة كـالأجـب

إذا ما رأى ظل الغراب أضجـه

 

حذارا على باقي السناسن والعصـب

قال ابن هشام ‏:‏وهذان البيتان في أبيات له ‏.‏

قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا عن بني سعد بن بكر

قال ابن إسحاق ‏:‏ وبعث بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منهم يقال له ضمام بن ثعلبة

إسلامه ‏ :‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب ، مولى عبدالله بن عباس ، عن ابن عباس قال ‏:‏ بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ، ثم دخل إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه ‏.‏ وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، فقال ‏:‏ أيكم ابن عبدالمطلب قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أنا ابن عبدالمطلب ‏.‏ قال ‏:‏ أمحمد ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ قال ‏:‏ ياابن عبدالمطلب ، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة ، فلا تجدن في نفسك ، قال ‏:‏ لا أجد في نفسي ، فسل عما بداً لك ‏.‏ قال ‏:‏ أنشدك الله ، إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من كائن بعدك ، آلله بعثك إلينا رسولا ‏؟‏ قال ‏:‏ اللهم نعم ‏.‏ قال ‏:‏ فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه ‏؟‏ قال ‏:‏ اللهم نعم ‏.‏ قال ‏:‏ فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله أمرك أن تصلى هذه الصلوات الخمس ‏؟‏ قال ‏:‏ اللهم نعم ‏.‏ قال ‏:‏ ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة ‏:‏ الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها ، حتى إذا فرغ ، قال ‏:‏ فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص ، ثم انصرف إلى بعيره راجعاً ‏.‏ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة ‏.‏

دعوة قومه للإسلام

قال فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه ، فاجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن قال ‏:‏ بئست اللات والعزى ‏!‏ قالوا ‏:‏ مه ، يا ضمام اتق البرص ، اتق الجنون ، قال ‏:‏ ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان ، إن الله قد بعث رسولاً ، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ، وما نهاكم عنه ، قال ‏:‏ فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً ‏.‏ قال ‏:‏ يقول عبدالله بن عباس ‏:‏ فما سمعنا بوافد قدم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة ‏.‏

قدوم الجارود في وفد عبدالقيس

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن خنش أخو عبدالقيس‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبدالقيس وكان نصرانياً

إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني من لا أتهم عن الحسن قال ‏:‏ لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه ، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ، ودعاه إليه ، ورغبه فيه ، فقال ‏:‏ يا محمد إني قد كنت على دين ، وإني تارك ديني لدينك ، أفتضمن لي ديني ‏؟‏ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ نعم ، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه ‏.‏ قال ‏:‏ فأسلم وأسلم أصحابه ، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان ، فقال ‏:‏ والله ما عندي ما أحملكم عليه ، قال ‏:‏ يا رسول الله ، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ، إياك وإياها ‏.‏ فإنما تلك حرق النار ‏.‏

موقفه من ردة قومه

فخرج من عنده الجارود راجعاً إلى قومه ، وكان حسن الإسلام ، صلباً على دينه ، حتى هلك وقد أدرك الردة ، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر ، قام الجارود فتكلم ، فتشهد شهادة الحق ، ودعا إلى الإسلام فقال ‏:‏ أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأكفر من لم يشهد ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ويروى ‏:‏ وأكفي من لم يشهد ‏.‏  

إسلام المنذر بن ساوى

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي ، فأسلم فحسن إسلامه ، ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ردة أهل البحرين ، والعلاء عنده أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين ‏.‏

قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة ، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏مسيلمة بن ثمامة ، ويكنى أبا ثمامة ‏. ما طلبه مسيلمة الكذاب من الرسول صلى الله عليه وسلم:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار ، ثم من بني النجار ، فحدثني بعض علمائنا من المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه ، معه عسيب من سعف النخل ، في رأسه خوصات ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يسترونه بالثياب ، كلمه وسأله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا ‏.‏ زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلفوا مسيلمة في رحالهم ، فلما أسلموا ذكروا مكانه ، فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا ، وفي ركابنا يحفظها لنا ، قال ‏:‏ فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم ؛ وقال ‏:‏ أما إنه ليس بشركم مكاناً أي ‏:‏ لحفظه ضيعة أصحابه ، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

تنبؤ مسيلمة

قال ‏:‏ ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءوه بما أعطاه ، فلما انتهوا إلى اليمامة ، ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم ، وقال ‏:‏ إني قد أشركت في الأمر معه ‏.‏ وقال لوفده الذين كانوا معه ‏:‏ ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكاناً ، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ، ثم جعل يسجع لهم الأساجيع ، ويقول لهم ‏:‏ فيما يقول مضاهاة للقرآن ‏:‏ ‏(‏ لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى ‏)‏ وأحل لهم الخمر والزنا ، ووضع عنهم الصلاة ، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي ، فأصفقت معه حنيفة على ذلك ، فالله اعلم أي ذلك كان ‏.‏  

قدوم زيد الخيل في وفد طيئ

إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ ، فيهم زيد الخيل ، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ، فأسلموا ، فحسن إسلامهم؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني من لا أتهم من رجال طيئ ‏:‏ ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني ، إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل ، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه ‏.‏ ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ زيد الخير ، وقطع له فيدا وأرضين معه ؛ وكتب له بذلك ‏.‏

موت زيد الخير

فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى قومه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه قال ‏:‏ قد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى ، وغير أم ملدم ، فلم يثبته ، فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه ، يقال له فردة أصابته الحمى بها فمات ، ولما أحس زيد بالموت قال ‏:‏

أمرتحل قوم المشارق غـدوة

 

وأترك في بيت بفردة مـنـجـد

ألا رب يوم لو مرضت لعادني

 

عوائد من لم يبر منهـن يجـهـد

فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معه من كتبه ، التي قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحرقتها بالنار ‏.‏

قدوم عدي بن حاتم

هربه أولا إلى الشام فرارا من الإسلام وأما عدي بن حاتم فكان يقول ، فيما بلغني ‏:‏ ما من رجل من العرب كان اشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني ، أما أنا فكنت امرأ شريفاً ، وكنت نصرانياً ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكاً في قومي ، لما كان يصنع بي ‏.‏ فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربي ، راعيا لإبلي ‏:‏ لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللاً سماناً ‏.‏ فاحتبسها قريباً مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني ؛ ففعل ؛ ثم إنه أتاني ذات غداة ، فقال ‏:‏ يا عدي ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن ، فإني قد رأيت رايات ، فسألت عنها ، فقالوا ‏:‏ هذه جيوش محمد ، قال ‏:‏ فقلت ‏:‏ فقرب إلي أجمالي ، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت ‏:‏ ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام ، فسلكت الجوشية ، ويقال ‏:‏ الحوشية ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر ، فلما قدمت الشام أقمت بها ‏.‏  

أسر الرسول ابنة حاتم

وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتصيب ابنة حاتم ، فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيئ ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام ، قال ‏:‏ فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد ، كانت السبايا يحبسن فيها ، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه ، وكانت امرأة جزلة ، فقالت ‏:‏ يا رسول الله ، هلك الولد ، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك ‏.‏ قال ‏:‏ من وافدك ‏؟‏ قالت ‏:‏ عدي بن حاتم ‏.‏ قال ‏:‏ الفار من الله ورسوله ‏؟‏ قالت‏:‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني ، حتى إذا كان من الغد مر بي ، فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالأمس ‏.‏ قالت ‏:‏ حتى إذا كان بعد الغد مر بي ، وقد يئست منه ، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه ، قالت ‏:‏ فقمت إليه ، فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علي من الله عليك ‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى بلادك ، ثم آذنيني ‏.‏ فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه ، فقيل‏:‏ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ‏.‏ وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة ، قالت ‏:‏ وإنما أريد أن آتي أخي بالشام ‏.‏ فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ ‏.‏ قالت ‏:‏ فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحملني ، وأعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام ‏.‏

نصيحة ابنة حاتم أخاها بالإسلام

قال عدي ‏:‏ فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تَؤُمُّنا ، قال ‏:‏ فقلت ابنة حاتم ‏.‏ قال ‏:‏ فإذا هي هي ، فلما وقفت علي انسحلت تقول ‏:‏ القاطع الظالم ، احتملت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك عورتك ‏!‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أي أخيه لا تقولي إلا خيرا ، فوالله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت ‏.‏ قال ‏:‏ ثم نزلت فأقامت عندي ، فقلت لها ‏:‏ وكان امرأة حازمة ، ماذا ترين في أمر هذا الرجل ‏؟‏ قالت ‏:‏ أرى والله أن تلحق به سريعاً ، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت ‏.‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ والله إن هذا الرأي ‏.‏

إسلام عدي بعد قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلت عليه وهو في مسجده ، فسلمت عليه ، فقال ‏:‏ من الرجل ‏؟‏ فقلت ‏:‏ عدي بن حاتم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها ‏.‏ قال ‏:‏ قلت في نفسي ‏:‏ والله ما هذا بملك ‏!‏ قال ‏:‏ ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا دخل في بيته ، تناول وسادة في أدم محشوة ليفا ، فقذفها إلي ، فقال ‏:‏ اجلس على هذه ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بل أنت فاجلس عليها ، فقال ‏:‏ بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض ‏.‏ قال ‏:‏ قلت في نفسي ‏:‏ والله ما هذا بأمر ملك ‏.‏ ثم قال ‏:‏ إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تك ركوسيا ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ فإن ذلك يكن يحل لك في دينك ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أجل والله ‏.‏ وقال ‏:‏ وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل ‏.‏ ثم قال ‏:‏ لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف‏.‏ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، وأيم الله ، ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، قال ‏:‏ فأسلمت ‏.‏ وكان عدي يقول ‏:‏ قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة ، والله لتكونن ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها ، لا تخاف حتى تحج هذا البيت ، وأيم الله لتكون الثالثة ، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه ‏.‏

قدوم فروة بن مسيك المرادي

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة، ومباعداً لهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

يوم الردم بين همدان ومراد

وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة ، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ، حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له ‏:‏ يوم الردم ، فكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك في ذلك اليوم ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏الذي قاد همدان في ذلك اليوم مالك بن حريم الهمداني‏.‏

شعر فروة بن مسيك في يوم الردم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وفي ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك ‏:‏

مررنا على لفاة وهن خوص

 

ينازعن الأعـنة ينـتـحـينـا

فإن نغلب فغلابون قـدمـا

 

وإن نغلب فغير مغـلـبـينـا

وما إن طبنا جبـن ولـكـن

 

منايانـا وطـعـمة آخـرينـا

كذاك الدهر دولته سـجـال

 

تكر صروفه حينـا فـحـينـا

فبينا ما نسر به ونـرضـى

 

ولو لبست غضارته سـنـينـا

إذ انقلبت به كـرات دهـر

 

فألفيت الألى غبطوا طحـينـا

فمن يغبط بريب الدهر منهم

 

يجد ريب الزمان له خـؤونـا

فلو خلد الملوك إذن خلـدنـا

 

ولو بقي الكـرام إذن بـقـينـا

فأفنى ذلكم سروات قومـي

 

كما أفنى الـقـرون الأولـينـا

قال ابن هشام ‏:‏أول بيت منها ، وقوله ‏:‏ ‏(‏ فإن نغلب ‏)‏ عن غير ابن إسحاق ‏.‏ قدوم فروة على الرسول صلى الله عليه وسلم وماقاله من الشعر ‏:‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة قال ‏:‏

لما رأيت ملوك كندة أعرضت

 

كالرجل خان الرجل عرق نسائها

قربت راحلتي أؤم محـمـدا

 

أرجو فواضلها وحسن ثـرائهـا

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو عبيدة ‏:‏ ‏(‏ أرجو فواضله وحسن ثنائها ‏)‏ ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - ‏:‏ يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم ‏؟‏ قال ‏:‏ يا رسول الله ، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك ‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً ‏.‏ واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مراد وزيد ومذحج كلها ‏.‏ وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قدوم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد
إسلام عمرو ‏ :‏

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد ، فأسلم ، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي ، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا قيس، إنك سيد قومك ، وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز ، يقول إنه نبي ، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فإن كان نبياً كما يقول ، فإنه لن يخفي عليك ، وإذا لقيناه اتبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه ، فأبي عليه قيس ذلك ، وسفه رأيه ، فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ، وصدقه ، وآمن به ‏.‏

ما قاله عمرو فيما أوعده به قيس بن مكشوح

فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح ، أوعد عمراً ، وتحطم عليه ، وقال ‏:‏ خالفني وترك رأيي ؛ فقال عمرو بن معديكرب في ذلك ‏:‏

أمرتك يوم ذي صنـعـاء

 

أمـرا بـــاديا رشـــده

أمرتك بـاتـقـاء الـلـه

 

والـمـعـروف تـتـعـده

خرجت من المنى مـثـل

 

الـحـمـير غـره وتــده

تمنانـي عـلـى فـرس

 

علـيه جـالـسـا أســده

علي مفاضة كالـنـهـي

 

أخـلـص مـاءه جــدده

ترد الرمح منثني السنـان

 

عوائرا قـــصـــــده

فلوا لاقيتنـي لـلـقـيت

 

ليثـا فـوقـه لــبـــدة

تلاقي شنبثا شثن البراثـن

 

ناشـــزا كـــتـــده

يسامي القـرن إن قـرن

 

تيمـمـه فـيعـتـضــده

فيأخـذه فـيرفـعـــه

 

فيخفـضـه فـيقـتـصـده

فيدمغـه فـيحـطـمـه

 

فيخـضـمـه فــيزدرده

ظلوم الشرك فيما أحرزت

 

أنـــيابــــــه ويده

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو عبيدة ‏:‏

أمرتك يوم ذي صنعـاء

 

أمـرا بـينــا رشـــده

أمرتك باتـقـاء الـلـه

 

تأتـيه وتـتـــعـــده

فكنت كذي الحمير غرره

 

ممــا بـــه وتـــده

ارتداد عمرو بعد موت الرسول

قال ابن إسحاق ‏:‏ فأقام عمرو بن معديكرب في قومه من بني زبيد ‏.‏ وعليهم فروة بن مسيك ، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو بن معديكرب ، وقال حين ارتد ‏:‏

وجدنا ملك فروة شر ملك

 

حمارا ساف منخره بثـفـر

وكنت إذا رأيت أبا عمير

 

ترى الحولاء من خبث وغدر

قال ابن هشام ‏:‏قوله ‏:‏ ‏(‏ بشفر ‏)‏ عن أبي عبيدة ‏.‏

قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة
إسلامه ومن معه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس ، في وفد كندة فحدثني الزهري بن شهاب أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانين راكباً من كندة ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا ، وعليهم جبب الحبرة ، وقد كففوها بالحرير ، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ألم تسلموا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ فما بال هذا الحرير في أعناقكم ‏؟‏ قال ‏:‏ فشقوه منها ، فألقوه ‏.‏

انتسابهم إلى آكل المرار

ثم قال الأشعث بن قيس ‏:‏ يا رسول الله ، نحن بنو آكل المرار ، وأنت ابن آكل المرار ، قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‏:‏ ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبدالمطلب ، وربيعة بن الحارث ‏.‏ وكان العباس وربيعة رجلين تاجرين ، وكانا إذا شاعا في بعض العرب ، فسئلا ممن هما ‏.‏ قالا نحن بنو آكل المرار ، يتعززان بذلك ، وذلك أن كندة كانوا ملوكاً ، ثم قال لهم ‏:‏ لا بل نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفوا أمنا ، ولا ننتفي من أبينا ، فقال الأشعث بن قيس ‏:‏ هل فرغتم يا معشر كندة ‏؟‏ والله لا اسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ الأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قبل النساء ، وآكل المرار ‏:‏ الحارث بن عمرو بن حجر بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندى ؛ ويقال ‏:‏ كندة ، وإنما سمي آكل المرار ، لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم ، وكان الحارث غائبا ، فغنم وسبى ، وكان فيمن سبى أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني ، امرأة الحارث بن عمرو ، فقالت لعمرو في مسيره ‏:‏ لكأني برجل أدلم أسود ، كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبتك ، تعني الحارث ، فسمى آكل المرار ‏.‏ والمرار ‏:‏ شجر ‏.‏ ثم تبعه الحارث في بني بكر بن وائل ، فلحقه فقتله ، واستنقذ امرأته ، وما كان أصاب ، فقال الحارث بن حلزة اليشكري لعمرو بن المنذر ، وهو عمرو بن هند اللخمي ‏:‏

وأقدناك رب غسان بالمنذر

 

كرها إذ لا تكـال الـدمـاء

لأن الحارث الأعرج الغساني قتل المنذر أباه ، وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ وهذا الحديث أطول مما ذكرت ، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت من القطع ‏.‏ ويقال ‏:‏ بل آكل المرار ‏:‏ حجر بن عمرو بن معاوية ، وهو صاحب هذا الحديث ، وإنما سمي آكل المرار ، لأنه أكل هو وأصحابه في تلك الغزوة شجرا يقال له المرار ‏.‏

قدوم صرد بن عبدالله الأزدي مسلما
إسلامه

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبدالله الأزدي ، فأسلم ، وحسن إسلامه ، في وفد من الأزد ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك ، من قبل اليمن ‏.‏

قتاله أهل جرش

فخرج صرد بن عبدالله يسير بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى نزل بجرش ، وهي يومئذ مدينة مغلقة ، وبها قبائل من قبائل اليمن ، وقد ضوت إليهم خثعم ، فدخلوها معهم حين سمعوا بسير المسلمين إليهم ، فحاصروهم فيها قريباً من شهر ، وامتنعوا فيها منه ثم رجع عنهم قافلاً ، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر ، ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزما ، فخرجوا في طلبه ، حتى إذا أدركوه عطف عليهم ، فقتلهم قتلاً شديداً ‏.‏

أخبار الرسول بما حدث

وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران ، فبينا هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد صلاة العصر ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ بأي بلاد الله شكر ‏؟‏ فقام إليه الجرشيان ، فقالا ‏:‏ يا رسول الله ، ببلادنا جبلاً يقال له كشر ، وكذلك يسميه أهل جرش ، فقال ‏:‏ إنه ليس بكشر ، ولكنه شكر ، قالا ‏:‏ فما شأنه يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ إن بدن الله لتنحر عنده الآن ‏.‏ قال ‏:‏ فجلس الرجلان إلى أبي بكر ، أو إلى عثمان ، فقال لهما ‏:‏ ويحكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينعى لكما قومكما ، فقوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما ، فقاما إليه ، فسألاه ذلك ، فقال ‏:‏ اللهم ارفع عنهم ‏.‏ فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما ، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبدالله ، في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر ‏.‏

إسلام أهل جرش

وخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا ، وحمى لهم حول قريتهم ، على أعلام معلومة ، للفرس والراحلة وللمثيرة ، وبقرة الحرث ، فمن رعاه من الناس فمالهم سحت ، فقال في تلك الغزوة رجل من الأزد ، وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية ، وكانوا يعدون في الشهر الحرام ‏:‏

يا غزوة ما غزونا غير خائبة

 

فيها البغال وفيها الخيل والحمر

حتى أتينا حمرا في مصانعها

 

وجمع خثعم قد شاعت لها النذر

إذا وضعت غليلا كنت أحمله

 

فما أبالي أدانوا بعد أم كفـروا

قدوم رسول الله ملوك حمير بكتابهم

قدوم رسول ملوك حمير

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير ، مقدمة من تبوك ، ورسولهم إليه بإسلامهم ، الحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال ، والنعمان ، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان ؛ وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم ، ومفارقتهم الشرك وأهله ‏.‏

كتاب الرسول إليهم فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم ‏:‏ من محمد رسول الله النبي ، إلى الحارث بن عبد كلال ، وإلى نعيم بن عبد كلال ، وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان ‏.‏ أما بعد ذلكم ‏:‏ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ‏.‏ أما بعد ‏:‏ فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم ، فلقينا بالمدينة ، فبلغ ما أرسلتم به ، وخبرنا ما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين ، وأن الله قد هداكم بهداه ، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأعطيتم من المغانم خمس الله ، وسهم الرسول وصفيه ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار ، عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ‏.‏ وأن في الإبل الأربعين ابنة لبون ، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر ، وفي كل خمس من الإبل شاة ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة ‏.‏ وأنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيرا فهو خير له ، ومن أدى ذلك ، وأشهد على إسلامه ، وظاهر المؤمنين على المشركين ، فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وله ذمة الله وذمة رسوله ‏.‏ وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني ، فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها ، وعليه الجزية ، على كل حال ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف ، من قيمة المعافر ، أو عوضه ثيابا ‏.‏ فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله ‏.‏ أما بعد ‏:‏ فإن رسول الله محمداً النبي ، أرسل إلى زرعة ذي يزن ، أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً ، معاذ بن جبل ، وعبدالله بن زيد ، ومالك بن عبادة ، وعقبة بن نمر ، ومالك بن مرة ، وأصحابهم ، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم ، وأبلغوها رسلي ، وأن أميرهم معاذ بن جبل ، فلا ينقلبن إلا راضيا ‏.‏ أما بعد ‏:‏ فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله ، ثم أن مالك بن مرة الرهاوي ، قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير ، وقتلت المشركين ، فأبشر بخير ، وآمرك بحمير خيراً ، ولا تخونوا ولا تخاذلوا ، فإن رسول الله هو ولي غنيكم وفقيركم ، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل ‏.‏ وأن مالكاً قد بلغ الخبر ، وحفظ الغيب ، وآمركم به خيراً ، وإني قد أرسلت إليهم من صالحي أهل وأولي دينهم وأولي علمهم ، وآمرك بهم خيراً ، فإنهم منظور إليهم ،والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته ‏.‏

وصية الرسول معاذا حين بعثه إلى اليمن

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بعث معاذاً أوصاه ، وعهد إليه ، ثم قال له ‏:‏ يسر ولا تعسر ، وبشر ولا تنفر ، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب ، يسألونك ما مفتاح الجنة ‏؟‏ فقل ‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فخرج معاذ ، حتى إذا قدم اليمن قام بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتته امرأة من أهل اليمن ، فقالت ‏:‏ يا صاحب رسول الله ، ما حق زوج المرأة عليها ‏؟‏ قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ إن المرأة لا تقدر على أن تؤدي حق زوجها ، فأجهدي نفسك في أداء حقه ما استطعت ، قال ‏:‏ والله لئن كنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتعلم ما حق الزوج على المرأة ‏.‏ قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ لو رجعت إليه فوجدته تنثعب منخراه قيحاً ودماً فمصصت ذلك حتى تذهبيه ما أديت حقه ‏.‏  إسلام فروة بن عمرو الجذامي 

إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي ، ثم النفاثي ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه ، وأهدى له بغلة بيضاء ، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب ، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام ‏.‏

حبس الروم له وشعره ومقتله

فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه ، طلبوه حتى أخذوه ، فحبسوه عندهم ، فقال في محبسه ذلك ‏:‏

طرقت سليمى موهنا أصحابي

 

والروم بين البـاب والـقـروان

صد الخيال وساءه ما قـد رأى

 

وهممت أن أغفى وقد أبكـانـي

لا تكحلن العين بعدي إثـمـدا

 

سلـمـى ولا تـدين لـلإتــيان

ولقد علمت أبا كبيشة أنـنـي

 

وسط الأعزة لا يحص لسـانـي

فلئن هلكت لتفقـدن أخـاكـم

 

ولئن بقيت لتعرفـن مـكـانـي

ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى

 

من جـودة وشـجـاعة وبــيان

فلما أجمعت الروم لصلبه على ماء لهم ، يقال له عفراء بفلسطين ، قال‏:‏

ألا هل أتى سلمى بأن حليلـهـا

 

على ماء عفراء فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمهـا

 

مشذبة أطرافهـا بـالـمـنـاجـل

فزعم الزهري بن شهاب أنهم لما قدموه ليقتلوه ، قال ‏:‏

بلغ سراة المسلمين بأنني

 

سلم لربي أعظمي ومقامي

ثم ضربوا عنقه ، وصلبوه ، على ذلك الماء ، يرحمه الله تعالى ‏.‏ إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد لما سار إليهم دعوة خالد الناس إلى الإسلام وإسلامهم قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى ، سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران ، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ، قبل أن يقاتلهم ثلاثاً ، فإن استجابوا ، فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم ‏.‏ فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ، ويدعون إلى الإسلام ، ويقولون ‏:‏ أيها الناس ، أسلموا تسلموا ‏.‏ فأسلم الناس ، ودخلوا فيما دعوا إليه ، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبذلك كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا ‏.‏

كتاب خالد إلى الرسول يسأله أمره

ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏:‏ لمحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من خالد بن الوليد ، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله هو ‏.‏ أما بعد ‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليك ، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب ، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام ، وأن أدعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا ، أقمت فيهم ، وقبلت منهم ، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه ، وإن لم يسلموا قاتلتهم ، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام ، كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعثت فيهم ركباناً قالوا ‏:‏ يا بني الحارث ، أسلموا تسلموا ، فأسلموا ولم يقاتلوا ، وأنا مقيم بين أظهرهم ، آمرهم بما أمرهم الله به ، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه ، وأعلمهم معالم الإسلام ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ‏.‏

رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد ‏ :‏
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏:‏ من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ‏.‏ أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك تخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم ، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدالله ورسوله ، وأن قد هداهم الله بهداه ، فبشرهم وأنذرهم ، وليقبل معك وفدهم ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ‏.‏ قدوم خالد مع وفدهم على الرسول

فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل معه بني الحارث بن كعب ، منهم قيس بن الحصين ذي الغصة ، ويزيد بن عبدالمدان ، ويزيد بن المحجل ، وعبدالله بن قراد الزيادي ، وشداد بن عبدالله القناني ، وعمرو بن عبدالله الضبابي ‏.‏

حديث الرسول صلى الله عليه وسلم معهم

فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم ، قال ‏:‏ من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ‏؟‏ قيل ‏:‏ يا رسول الله ، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب ، فلما وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه ، وقالوا ‏:‏ نشهد أنك رسول الله وأنه لا إله إلا الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأنا اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أنتم الذين إذا زجروا استقدموا ، فسكتوا ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثانية ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثالثة ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الرابعة ، فقال يزيد بن عبدالمدان ‏:‏ نعم ، يا رسول الله ، نحن الذين إذا زجروا استقدموا ، قالها أربع مرار ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لو أن خالداً لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا ، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم ، فقال يزيد بن عبدالمدان ‏:‏ أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالداً ؛ قال ‏:‏ فمن حمدتم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله ، قال ‏:‏ صدقتم ‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ، قالوا ‏:‏ لم نكن نغلب أحداً ، قال ‏:‏ بلى ، قد كنتم تغلبون من قاتلكم ، قالوا ‏:‏ كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله إنا كنا نجتمع ولا نفترق ، ولا نبدأ أحدا بظلم ، قال ‏:‏ صدقتم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين ‏.‏ فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة ، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر ، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورحم وبارك ، ورضي وأنعم ‏.‏

الرسول يبعث عمرو بن حزم بعهده إليهم

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ، ليفقههم في الدين ، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ، ويأخذ منهم صدقاتهم ، وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده ، وأمره فيه بأمره ‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا بيان من الله ورسوله ،يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله ، وأن يبشر الناس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ، ويفقههم فيه ، وينهى الناس ‏.‏ فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم ، والذي عليهم ، ويلين للناس في الحق ، ويشتد عليهم في الظلم ، فإن الله كره الظلم ، ونهى الناس عنه ، فقال ‏:‏ ‏ {(‏ ألا لعنة الله على الظالمين ‏)} ‏ ويبشر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس النار وعملها ، ويستأنف الناس حتى يفقهوا في الدين ، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته ، وما أمر الله به ، والحج الأكبر ‏:‏ الحج الأكبر ، والحج الأصغر‏:‏ هو العمرة ‏.‏ وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير ، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه ، وينهى الناس أن يحتبي أحد في ثوب واحد ، يفضي بفرجه إلى السماء ، وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه ، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر ، وليكن دعواهم إلى الله عز وجل وحده لا شريك له ، فمن لم يدع إلى الله ، ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف ، حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له ‏.‏ ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ، ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم الله ‏.‏ وأمر بالصلاة لوقتها ، وإتمام الركوع والسجود والخشوع ، ويغلس بالصبح ، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يقبل الليل ، لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل ‏.‏ وأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها ، والغسل عند الرواح إليها ‏.‏ وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل عشرين أربع شياه ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة ، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيراً فهو خير له ‏.‏ وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاماً خالصاً من نفسه ، ودان بدين الإسلام ، فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها ، وعلى كل حالم ‏:‏ ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف أو عوضه ثياباً ، فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا ، صلوات الله على محمد ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ‏.‏  

قدوم رفاعة بن زيد الجذامي
إسلامه وحمله كتاب الرسول إلى قومه ‏ :‏

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية ، قبل خيبر ، رفاعة بن زيد الجذامي ، ثم الضبيبي ، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً ، وأسلم فحسن إسلامه ، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى قومه وفي كتابه ‏:‏

كتاب الرسول إلى قوم رفاعة بن زيد ‏ :‏

بسم الله الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد ‏.‏ إني بعثته إلى قومه عامة ، ومن دخل فيهم ، يدعوهم إلى الله وإلى رسوله ، فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله ، ومن أدبر فله أمان شهرين ‏.‏ فلما قدم رفاعة على قومه أجابوا وأسلموا ، ثم ساروا إلى الحرة ‏:‏ حرة الرجلاء ، ونزلوها ‏.‏

قدوم وفد همدان
من رجال الوفد ‏ :‏

قال ابن هشام ‏:‏ وقدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حدثني من أثق به ، عن عمرو بن عبدالله بن أذينة العبدي ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال ‏:‏ قدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم مالك بن نمط ، وأبو ثور ، وهو ذو المشعار ، ومالك بن أيفع ، وضمام بن مالك السلماني ، وعميرة بن مالك الخارفي ، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك ، وعليهم مقطعات الحبرات ، والعمائم العدنية ، برحال الميس على المهرية والأرحبية ، ومالك بن نمط ورجل أخر يرتجزان بالقوم ، يقول أحدهما ‏:‏

همدان خير سـوقة وأقـيال

 

ليس لها في العالمين أمـثـال

محلها الهضب ومنها الأبطال

 

لها إطـابـات بـهـا وآكـال

ويقول الآخر ‏:‏

إليك جاوزن سواد الريف

 

في هبوات الصيف والخريف

مخطمات بحبال الـلـيف

 

 

خطبة مالك بن نمط بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم

فقام مالك بن نمط بين يديه ، فقال ‏:‏ يا رسول الله نصية من همدان ، من كل حاضر وباد ، أتوك على قلص نواج متصلى بحبائل الإسلام ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من مخلاف خارف ويام وشاكر أهل السود والقود ، أجابوا دعوة الرسول ، وفارقوا الآلهات والأنصاب ، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع ، وماجرى اليعفور بصلع ‏.‏ فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا فيه ‏:‏

كتابه صلى الله عليه وسلم لهم

بسم الله الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا كتاب من رسول الله محمد ، لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب ، وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ، ومن أسلم من قومه ، على أن لهم فراعها ووهاطها ، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، يأكلون علافها ، ويرعون عافيها ، لهم بذلك عهد الله وذمام رسوله ، وشاهدهم المهاجرون والأنصار ، فقال في ذلك مالك بن نمط ‏:‏

ذكرت رسول الله في فحمة الدجى

 

ونحن بأعلى رحـرحـان وصـلـدد

وهن بنا خوص طلائح تغـتـلـي

 

بركبانهـا فـي لاحـب مـتـمـدد

على كل فتلاء الذراعين جـسـرة

 

تمر بنا مر الهـجـيف الـحـفـيدد

حلفت برب الراقصات إلى منـى

 

صوادر بالركبان من هضـب قـردد

بأن رسول الله فـينـا مـصـدق

 

رسول أتى من عند ذي العرش مهتدي

فما حملت من ناقة فوق رحلـهـا

 

أشد علـى أعـدائه مـن مـحـمـد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه

 

وأمضى بحد المشرفي الـمـهـنـد

ذكر الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان تكلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذابان ، مسيلمة بن حبيب باليمامة في بني حنيفة ، والأسود بن كعب العنسي بصنعاء ‏.‏

تحقق رؤياه صلى الله عليه وسلم فيها

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني يزيد بن عبدالله بن قسيط ، عن عطاء بن يسار ، أو أخيه سليمان بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال ‏:‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره ، وهو يقول ‏:‏ أيها الناس إني قد رأيت ليلة القدر ، ثم أنسيتها ، ورأيت في ذراعي سوارين من ذهب ، فكرهتهما فنفختهما فطار ، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمن ، وصاحب اليمامة ‏.‏

الرسول يتحدث عن الدجالين

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة ، أنه قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً ، كلهم يدعي النبوة ‏.‏

خروج الأمراء والعمال على الصدقات

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان ، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء ، فخرج عليه العنسي وهو بها ‏.‏ وبعث زيد بن لبيد ، أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها ، وبعث عدي بن حاتم على طيئ ، وصدقاتها وعلى بني أسد ‏.‏ وبعث مالك بن نويرة - قال ابن هشام ‏:‏ اليربوعي - على صدقات بني حنظلة ‏.‏ وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم ، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها ، وقيس بن عاصم على ناحية ، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين ، وبعث علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى أهل نجران ، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم ‏.‏

كتاب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقد كان مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ؛ أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون ‏.‏ فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب ‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني شيخ من أشجع ، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي ، عن أبيه نعيم ، قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما حين قرأ كتابه ‏:‏ فما تقولان أنتما ، قالا ‏:‏ نقول كما قال ‏:‏ فقال ‏:‏ أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ‏.‏

جوابه صلى الله عليه وسلم على مسيلمة

ثم كتب إلى مسيلمة ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏:‏ من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من ابتع الهدى ‏.‏ أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ‏.‏ وذلك في أخر سنة عشر ‏.‏