قال ابن إسحاق : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف، وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه . قال ابن هشام :حدثني أبو عبيدة : أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى سنة الوفود .
قال ابن إسحاق : وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم ، وأهل البيت الحرام ، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك . وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه ، فلما افتتحت مكة ، ودانت له قريش ، ودوخها الإسلام ، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عداوته ، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : {( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً )} أي : فاحمد الله علي ما أظهر من دينك واستغفره إنه كان توابا .
رجال الوفد فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود العرب ، فقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي ، في أشراف بني تميم ، منهم الأقرع بن حابس التميمي ، والزبرقان بن بدر التميمي ، أحد بني سعد ، وعمرو بن الأهتم ، والحبحاب بن يزيد .
قال ابن هشام :الحتات وهو الذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بين نفر من أصحابه من المهاجرين ، بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف ، وبين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ، وبين أبي ذر الغفاري والمقداد بن عمرو البهراني ، وبين معاوية بن أبي سفيان والحتات بن يزيد المجاشعي ، فمات الحتات عند معاوية في خلافته ، فأخذ معاوية ما ترك وراثة بهذه الأخوة ، فقال الفرزدق لمعاوية :
أبوك وعمي يا معاوية أورثا |
|
تراثا فيحتاز التراث أقـاربـه |
فما بال ميراث الحتات أكلته |
|
وميراث حرب جامد لك ذائبه |
فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم ، فلما دخل وفد بني تميم المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته : أن اخرج إلينا يا محمد ، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم ، فخرج إليهم ، فقالوا : يا محمد جئناك نفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا ؛ قال : قد أذنت لخطيبكم فليقل :
فقام عطارد بن حاجب فقال : الحمد لله الذي له علينا الفضل المن ،وهو أهله الذي جعلنا ملوكاً ، ووهب لنا أموالاً عظاما ، نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعز أهل المشرق ، وأكثره عدداً ، وأيسره عدة ، فمن مثلنا في الناس وأولي فضلهم ؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا ، ولو نشاء لأكثرنا الكلام ،ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا ، وإنا نعرف بذلك . أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا ، وأمر أفضل من أمرنا . ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس ، أخي بني الحارث بن الخزرج : قم فأجب الرجل في خطبته ، فقام ثابت ، فقال : الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه ، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه ، ولم يك شيء قط إلا من فضله ، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً ، واصطفى من خير خلقه رسولا ، أكرمه نسبا ، وأصدقه حديثاً ، وأفضله حسباً ، فأنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين ، ثم دعا الناس إلى الإيمان به ، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوو رحمه ، أكرم الناس حسباً وأحسن الناس وجوها ، وخير الناس فعالا . ثم كان أول الخلق إجابة ، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن ، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله ، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه ، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً ، وكان قتله علينا يسيراً . أقول قولي هذا واستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات ، والسلام عليكم .
فقام الزبرقان بن بدر فقال :
نحن الكرام فلا حي يعادلـنـا |
|
منا الملوك وفينا تنصب الـبـيع |
وكم قسرنا من الأحياء كلهـم |
|
عند النهاب وفضل العز يتـبـع |
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا |
|
من الشواء إذا لم يؤنس الـقـزع |
بما ترى الناس تأتينا سراتهـم |
|
من كل أرض هويا ثم تصطنـع |
فننحر الكوم عبطا في أرومتنا |
|
للنازلين إذا ما أنزلوا شـبـعـوا |
فلا ترانا إلى حي نفاخـرهـم |
|
إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطـع |
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفـه |
|
فيرجع القوم والأخبار تستـمـع |
إنا أبينا ولا يأبـى لـنـا أحـد |
|
إنا كذلك عند الفخـر نـرتـفـع |
قال ابن هشام : ويروى : منا الملوك وفينا تقسم الربع ويروى : من كل أرض هوانا ثم نتبع رواه لي بعض بن تميم ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها للزبرقان .
قال ابن إسحاق : وكان حسان غائباً فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حسان : جاءني رسوله ، فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم ، فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول :
منعنا رسول الله إذ حل وسطنـا |
|
على أنف راض من معـد وراغـم |
منعناه لما حـل بـين بـيوتـنـا |
|
بأسيافنا مـن كـل بـاغ وظـالـم |
ببـيت حـريد عـزه وثــراؤه |
|
بجابية الجـولان وسـط الأعـاجـم |
هل المجد إلا السودد العود والندى |
|
وجاه الملوك واحتمال الـعـظـائم |
قال فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقام شاعر القوم ، فقال ما قال : عرضت في قوله ، وقلت على نحو ما قال : قال : فلما فرغ الزبرقان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : قم يا حسان ، فأجب الرجل فيما قال . فقام حسان ، فقال :
إن الذوائب من فهر وأخوتـهـم |
|
قد بينوا سـنة لـلـنـاس تـتـبـع |
يرضى بهم كل من كانت سريرته |
|
تقوى الإله وكل الخير يصـطـنـع |
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهـم |
|
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا |
سجية تلك منهم غير مـحـدثة |
|
إن الخلائق فاعلم شرهـا الـبـدع |
إن كان في الناس سباقون بعدهم |
|
فكل سبق لأدنى سبقـهـم تـبـع |
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهـم |
|
عند الدفاع ولا يوهون ما رقعـوا |
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم |
|
أو وازنوا أهل مجد بالندى متعـوا |
أعفة ذكرت في الوحي عفتهـم |
|
لا يطبعون ولا يرديهـم طـمـع |
لا يبخلون على جار بفضلـهـم |
|
ولا يمسهم من مطـمـع طـبـع |
إذا نصبنا لحي لم نـدب لـهـم |
|
كما يدب إلى الوحـشـية الـذرع |
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبهـا |
|
إذا الزعانف من أظفارها خشعـوا |
لا يفخرون إذا نالوا عـدوهـم |
|
وإن أصيبوا فلا خور ولا هـلـع |
كأنهم في الوغى والموت مكتنع |
|
أسد بحليه في أرسـاغـهـا فـدع |
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا |
|
ولا يكن همك الأمر الذي منعـوا |
فإن في حربهم فاترك عداوتهـم |
|
شرا يخاض عليه السم والسـلـع |
أكرم بقوم رسول الله شيعتـهـم |
|
إذا تفاوتـت الأهـواء والـشـيع |
أهدى لهم مدحتي قلـب يؤازره |
|
فيما أحب لسـان حـائك صـنـع |
فإنهم أفضل الأحياء كـلـهـم |
|
إن جد بالناس جد القول أو شمعـوا |
قال ابن هشام :أنشدني أبو زيد .
يرضى بها كل من كانت سريرته |
|
تقوى الإله وبالأمر الذي شـرعـوا |
وقال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم ، أن الزبرقان بن بدر ، لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد تميم ، قام فقال :
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنـا |
|
إذا احتفلوا عند احتضار المواسـم |
بأنا فروع الناس في كل موطن |
|
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم |
وأنا نذود المعلمين إذا انتخـوا |
|
ونضرب رأس الأصيد المتفـاقـم |
وأن لنا المرباع في كل غـارة |
|
نغير بنجد أو بـأرض الأعـاجـم |
فقام حسان بن ثابت ، فأجابه فقال :
هل المجد إلا السودد العود والندى |
|
وجاه الملوك واحتمال الـعـظـائم |
نصرنا وآوينا النبـي مـحـمـدا |
|
على أنف راض من معـد وراغـم |
بحي حـريد أصـلـه وثـراؤه |
|
بجابية الجـولان وسـط الأعـاجـم |
نصرناه لما حـل وسـط ديارنـا |
|
بأسيافنا مـن كـل بـاغ وظـالـم |
جعلنا بنينـا دونـه وبـنـاتـنـا |
|
وطبنا له نفسا بفـيء الـمـغـانـم |
ونحن ضربنا الناس حتى تتابعـوا |
|
على دينه بالمرهفـات الـصـوارم |
ونحن ولدنا من قريش عظيمهـا |
|
ولدنا نبي الخـير مـن آل هـاشـم |
بني دارم لا تفخروا إن فخركـم |
|
يعود وبالا عند ذكـر الـمـكـارم |
هبلتم علينا تفـخـرون وأنـتـم |
|
لنا خـول مـا بـين ظـئر وخـادم |
فإن كنتم جئتم لحقـن دمـائكـم |
|
وأموالكم أن تقسموا في المقـاسـم |
فلا تجعلوا لله نـدا وأسـلـمـوا |
|
ولا تلبسـوا زيا كـزي الأعـاجـم |
قال ابن إسحاق : فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله ، قال الأقرع بن حابس :وأبى ، إن هذا الرجل لمؤتى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا ، فلما فرغ القوم أسلموا ، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم .
وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في ظهرهم ، وكان أصغرهم سناً ، فقال قيس بن عاصم ، وكان يبغض عمرو بن الأهتم : يا رسول الله ، إنه قد كان رجل منا في رحالنا ، وهو غلام حدث ، وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم ، فقال عمرو بن الأهتم حين بلغه أن قيسا قال ذلك ، يهجوه :
ظللت مفترش الهلباء تشتمني |
|
عند الرسول فلم تصدق ولم تصب |
سدناكم سوددا رهوا وسوددكم |
|
باد نواجذه مقع علـى الـذنـب |
قال ابن هشام : بقي بيت واحد تركناه ، لأنه أقذع فيه . ما نزل من القرآن في وفد بني تميم قال ابن إسحاق : وفيهم نزل من القرآن : ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) .
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر ، فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر ، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر ، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم .
فقدم عامر بن الطفيل عدو الله ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يريد الغدر به ، وقد قال له قومه : يا عامر ، إن الناس قد أسلموا فأسلم ، قال : والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي ، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ! ثم قال لأربد : إذا قدمنا على الرجل ، فإني سأشغل عنك وجهه ، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف . فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عامر بن الطفيل : يا محمد ، خالني ، قال : لا والله ، حتى تؤمن بالله وحده ، قال : يا محمد ، خالني ، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يخير شيئاً ، قال : فلما رأى عامر ما يصنع أربد ، قال : يا محمد خالني ، قال : لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له . فلما أبي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً . فلما ولي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اكفني عامر بن الطفيل . فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد : ويلك يا أربد ! أين ما كنت أمرتك به ؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك ، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً ، قال : لا أبا لك ! لا تعجل علي ، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل ، حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف ؟ .
وخرجوا راجعين إلى بلادهم ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه ، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول ، فجعل يقول : يا بني عامر ، أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ! . قال ابن هشام :ويقال أغدة كغدة الإبل ، وموتا في بيت سلولية ! . موت أربد بصاعقة قال ابن إسحاق : ثم خرج أصحابه حين واروه ، حين قدموا أرض بني عامر شاتين ، فلما قدموا أتاهم قومهم ، فقالوا : ما وراءك يا أربد ؟ قال : لا شيء والله ، لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن ، فأرميه بالنبل حتى أقتله ، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه ، فأرسل الله تعالى عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما .وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه .
قال ابن هشام : وذكر زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس قال : وأنزل الله عز وجل في عامر وأربد {( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد )} إلى قوله : ( وما لهم من دونه من وال ) . قال : المعقبات هي من أمر الله يحفظون محمداً ، ثم ذكر أربد وما قتله الله به فقال: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) إلى قوله : ( شديد المحال ) .
قال ابن إسحاق : فقال لبيد يبكي أربد :
ما إن تعدى المنون من أحـد |
|
لا والـد مـشـفـق ولا ولـد |
||
أخشى على أربد الحتوف ولا |
|
أرهب نوء السـمـاك والأسـد |
||
فعين هلا بـكـيت أربـد إذ |
|
قمنا وقام النسـاء فـي كـبـد |
||
إن يشغبوا لا يبال شغبـهـم |
|
أو يقصدوا في الحكوم يقتصـد |
||
حلو أريب وفي حـلاوتـه |
|
مر لطيف الأحشاء والـكـبـد |
||
وعين هلا بكـيت أربـد إذ |
|
ألوت رياح الشتاء بالـعـضـد |
||
وأصبحت لاقحا مـصـرمة |
|
حتى تجلت غـوابـر الـمـدد |
||
أشجع من ليث غابة لـحـم |
|
ذو نهمة في العلا ومنـتـقـد |
||
لا تبلغ العين كل نـهـمـتـهـا |
|
ليلة تمـسـي الـجـياد كـالـقـدد |
||
الباعث النـوح فـي مـآتـمـه |
|
مثل الظباء الأبـكـار بـالـجـرد |
||
فجعني البرق والصواعق بالفارس |
|
يوم الـكـريهة الــنـــجـــد |
||
والحارب الجابـر الـحـريب إذا |
|
جاء نـكـيبـا وإن يعــد يعـــد |
||
يعفو على الجهد والسؤال كـمـا |
|
ينبت غيث الـربـيع ذو الـرصـد |
||
كل بنـي حـرة مـصـيرهـم |
|
قل وإن أكـثـرت مـن الـعــدد |
||
إن يغبطوا يهبطـوا وإن أمـروا |
|
يوما وإن فهم للـهـلاك والـنـفـد |
||
قال ابن هشام :بيته ( والحارب الجابر الحريب ) عن أبي عبيدة ، وبيته ( يعفو على الجهد ) عن غير ابن إسحاق . قال ابن إسحاق : وقال لبيد أيضا يبكي أربد :
ألا ذهب المحافظ والمحامي |
|
ومانع ضيمها يوم الخـصـام |
وأيقنت التفرق يوم قـالـوا |
|
تقسم مال أربد بـالـسـهـام |
تطير عدائد الأشراك شفعـا |
|
ووترا والزعـامة لـلـغـلام |
فودع بالسلام أبـا حـريز |
|
وقل وداع أربـد بـالـسـلام |
وكنت إمامنا ولنا نظـامـا |
|
وكان الجزع يحفظ بالنـظـام |
وأربد فارس الهيجا إذ مـا |
|
تقعرت المشاجـر بـالـفـئام |
إذا بكر النساء مـردفـات |
|
حواسر لا يجئن على الخـدام |
فواءل يوم ذلك مـن أتـاه |
|
كما وأل المحل إلى الـحـرام |
ويحمد قدر أربد من عراها |
|
إذا ما ذم أربـاب الـلـحـام |
وجارته إذا حـلـت لـديه |
|
لها نفل وحـظ مـن سـنـام |
فإن تقعد فمكرمة حصـان |
|
وإن تظعن فمحسنة الـكـلام |
وهل حدثت عن أخوين داما |
|
على الأيام إلا ابنـي شـمـام |
وإلا الفرقدين وآل نـعـش |
|
خوالد ما تحـدث بـانـهـدام |
قال ابن هشام :وهي في قصيدة له . قال ابن إسحاق : وقال لبيد أيضا يبكي أربد :
انع الكريم للكـريم أربـدا |
|
انع الرئيس واللطيف كـبـدا |
يحذي ويعطي ماله ليحمدا |
|
أدما يشبهـن صـوارا أبـداً |
السابل الفضل إذا ما عـددا |
|
ويملأ الجفـنة مـلـئا مـددا |
رفها إذا يأتي ضريك وردا |
|
مثل الذي في الغيل يقرو جمدا |
يزداد قربا منهم أن يوعـدا |
|
أورثتنا تراث غـير أنـكـدا |
غبا ومالا طارفـا وولـدا |
|
شرخا صقورا يافعا وأمـردا |
وقال لبيد أيضا :
لن تفنيا خـيرات أربـد |
|
فابـكـيا حـتـى يعـودا |
قولا هو البطل المحامي |
|
حين يكـسـون الـحـديدا |
ويصد عنا الظالـمـين |
|
إذا لقينـا الـقـوم صـيدا |
فاعتاقه رب الـبـرية |
|
إذ رأى أن لا خـلــودا |
فثوى ولم يوجـع ولـم |
|
يوصب وكان هو الفـقـيد |
وقال لبيد أيضا:
يذكرني بأربد كل خصـم |
|
ألد تخال خطتـه ضـرارا |
إذا اقتصدوا فمقتصد كريم |
|
وإن جاروا سواء الحق جارا |
ويهدي القوم مطلعا إذا ما |
|
دليل القوم بالمومـاة حـارا |
قال ابن هشام :أخرها بيتا عن غير ابن إسحاق : قال ابن إسحاق : وقال لبيد أيضا :
أصبحت أمشي بعد سلمي بن مالك |
|
وبعد أبي قيس وعـروة كـالأجـب |
إذا ما رأى ظل الغراب أضجـه |
|
حذارا على باقي السناسن والعصـب |
قال ابن هشام :وهذان البيتان في أبيات له .
قال ابن إسحاق : وبعث بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منهم يقال له ضمام بن ثعلبة
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب ، مولى عبدالله بن عباس ، عن ابن عباس قال : بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ، ثم دخل إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه . وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، فقال : أيكم ابن عبدالمطلب قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا ابن عبدالمطلب . قال : أمحمد ؟ قال : نعم . قال : ياابن عبدالمطلب ، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة ، فلا تجدن في نفسك ، قال : لا أجد في نفسي ، فسل عما بداً لك . قال : أنشدك الله ، إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من كائن بعدك ، آلله بعثك إلينا رسولا ؟ قال : اللهم نعم . قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه ؟ قال : اللهم نعم . قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله أمرك أن تصلى هذه الصلوات الخمس ؟ قال : اللهم نعم . قال : ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة : الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها ، حتى إذا فرغ ، قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص ، ثم انصرف إلى بعيره راجعاً . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة .
قال فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه ، فاجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى ! قالوا : مه ، يا ضمام اتق البرص ، اتق الجنون ، قال : ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان ، إن الله قد بعث رسولاً ، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ، وما نهاكم عنه ، قال : فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً . قال : يقول عبدالله بن عباس : فما سمعنا بوافد قدم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة .
قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن خنش أخو عبدالقيس. قال ابن هشام :الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبدالقيس وكان نصرانياً
قال ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم عن الحسن قال : لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه ، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ، ودعاه إليه ، ورغبه فيه ، فقال : يا محمد إني قد كنت على دين ، وإني تارك ديني لدينك ، أفتضمن لي ديني ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه . قال : فأسلم وأسلم أصحابه ، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان ، فقال : والله ما عندي ما أحملكم عليه ، قال : يا رسول الله ، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا ؟ قال : لا ، إياك وإياها . فإنما تلك حرق النار .
فخرج من عنده الجارود راجعاً إلى قومه ، وكان حسن الإسلام ، صلباً على دينه ، حتى هلك وقد أدرك الردة ، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر ، قام الجارود فتكلم ، فتشهد شهادة الحق ، ودعا إلى الإسلام فقال : أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأكفر من لم يشهد . قال ابن هشام :ويروى : وأكفي من لم يشهد .
قال ابن إسحاق : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي ، فأسلم فحسن إسلامه ، ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ردة أهل البحرين ، والعلاء عنده أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين .
قال ابن إسحاق : فكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار ، ثم من بني النجار ، فحدثني بعض علمائنا من المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه ، معه عسيب من سعف النخل ، في رأسه خوصات ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يسترونه بالثياب ، كلمه وسأله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه . قال ابن إسحاق : وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا . زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلفوا مسيلمة في رحالهم ، فلما أسلموا ذكروا مكانه ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا ، وفي ركابنا يحفظها لنا ، قال : فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم ؛ وقال : أما إنه ليس بشركم مكاناً أي : لحفظه ضيعة أصحابه ، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءوه بما أعطاه ، فلما انتهوا إلى اليمامة ، ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم ، وقال : إني قد أشركت في الأمر معه . وقال لوفده الذين كانوا معه : ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكاناً ، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ، ثم جعل يسجع لهم الأساجيع ، ويقول لهم : فيما يقول مضاهاة للقرآن : ( لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى ) وأحل لهم الخمر والزنا ، ووضع عنهم الصلاة ، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي ، فأصفقت معه حنيفة على ذلك ، فالله اعلم أي ذلك كان .
قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ ، فيهم زيد الخيل ، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ، فأسلموا ، فحسن إسلامهم؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني من لا أتهم من رجال طيئ : ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني ، إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل ، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه . ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : زيد الخير ، وقطع له فيدا وأرضين معه ؛ وكتب له بذلك .
فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى قومه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه قال : قد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى ، وغير أم ملدم ، فلم يثبته ، فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه ، يقال له فردة أصابته الحمى بها فمات ، ولما أحس زيد بالموت قال :
أمرتحل قوم المشارق غـدوة |
|
وأترك في بيت بفردة مـنـجـد |
ألا رب يوم لو مرضت لعادني |
|
عوائد من لم يبر منهـن يجـهـد |
فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معه من كتبه ، التي قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحرقتها بالنار .
هربه أولا إلى الشام فرارا من الإسلام وأما عدي بن حاتم فكان يقول ، فيما بلغني : ما من رجل من العرب كان اشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني ، أما أنا فكنت امرأ شريفاً ، وكنت نصرانياً ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكاً في قومي ، لما كان يصنع بي . فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربي ، راعيا لإبلي : لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللاً سماناً . فاحتبسها قريباً مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني ؛ ففعل ؛ ثم إنه أتاني ذات غداة ، فقال : يا عدي ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن ، فإني قد رأيت رايات ، فسألت عنها ، فقالوا : هذه جيوش محمد ، قال : فقلت : فقرب إلي أجمالي ، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت : ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام ، فسلكت الجوشية ، ويقال : الحوشية . قال ابن هشام :وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر ، فلما قدمت الشام أقمت بها .
وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتصيب ابنة حاتم ، فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيئ ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام ، قال : فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد ، كانت السبايا يحبسن فيها ، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه ، وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول الله ، هلك الولد ، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك . قال : من وافدك ؟ قالت : عدي بن حاتم . قال : الفار من الله ورسوله ؟ قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني ، حتى إذا كان من الغد مر بي ، فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالأمس . قالت : حتى إذا كان بعد الغد مر بي ، وقد يئست منه ، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه ، قالت : فقمت إليه ، فقلت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علي من الله عليك . فقال صلى الله عليه وسلم : قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى بلادك ، ثم آذنيني . فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه ، فقيل: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه . وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة ، قالت : وإنما أريد أن آتي أخي بالشام . فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ . قالت : فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحملني ، وأعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام .
قال عدي : فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تَؤُمُّنا ، قال : فقلت ابنة حاتم . قال : فإذا هي هي ، فلما وقفت علي انسحلت تقول : القاطع الظالم ، احتملت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك عورتك ! قال : قلت : أي أخيه لا تقولي إلا خيرا ، فوالله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت . قال : ثم نزلت فأقامت عندي ، فقلت لها : وكان امرأة حازمة ، ماذا ترين في أمر هذا الرجل ؟ قالت : أرى والله أن تلحق به سريعاً ، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت . قال : قلت : والله إن هذا الرأي .
قال فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلت عليه وهو في مسجده ، فسلمت عليه ، فقال : من الرجل ؟ فقلت : عدي بن حاتم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها . قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بملك ! قال : ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا دخل في بيته ، تناول وسادة في أدم محشوة ليفا ، فقذفها إلي ، فقال : اجلس على هذه ، قال : قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض . قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك . ثم قال : إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تك ركوسيا ؟ قال : قلت : بلى ، قال : أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع ؟ قال : قلت : بلى ، قال : فإن ذلك يكن يحل لك في دينك ، قال : قلت : أجل والله . وقال : وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل . ثم قال : لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف. ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، وأيم الله ، ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، قال : فأسلمت . وكان عدي يقول : قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة ، والله لتكونن ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها ، لا تخاف حتى تحج هذا البيت ، وأيم الله لتكون الثالثة ، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه .
قال ابن إسحاق : وقدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة، ومباعداً لهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة ، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ، حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له : يوم الردم ، فكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك في ذلك اليوم . قال ابن هشام :الذي قاد همدان في ذلك اليوم مالك بن حريم الهمداني.
قال ابن إسحاق : وفي ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك :
مررنا على لفاة وهن خوص |
|
ينازعن الأعـنة ينـتـحـينـا |
فإن نغلب فغلابون قـدمـا |
|
وإن نغلب فغير مغـلـبـينـا |
وما إن طبنا جبـن ولـكـن |
|
منايانـا وطـعـمة آخـرينـا |
كذاك الدهر دولته سـجـال |
|
تكر صروفه حينـا فـحـينـا |
فبينا ما نسر به ونـرضـى |
|
ولو لبست غضارته سـنـينـا |
إذ انقلبت به كـرات دهـر |
|
فألفيت الألى غبطوا طحـينـا |
فمن يغبط بريب الدهر منهم |
|
يجد ريب الزمان له خـؤونـا |
فلو خلد الملوك إذن خلـدنـا |
|
ولو بقي الكـرام إذن بـقـينـا |
فأفنى ذلكم سروات قومـي |
|
كما أفنى الـقـرون الأولـينـا |
قال ابن هشام :أول بيت منها ، وقوله : ( فإن نغلب ) عن غير ابن إسحاق . قدوم فروة على الرسول صلى الله عليه وسلم وماقاله من الشعر : قال ابن إسحاق : ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة قال :
لما رأيت ملوك كندة أعرضت |
|
كالرجل خان الرجل عرق نسائها |
قربت راحلتي أؤم محـمـدا |
|
أرجو فواضلها وحسن ثـرائهـا |
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد ، فأسلم ، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي ، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا قيس، إنك سيد قومك ، وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز ، يقول إنه نبي ، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فإن كان نبياً كما يقول ، فإنه لن يخفي عليك ، وإذا لقيناه اتبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه ، فأبي عليه قيس ذلك ، وسفه رأيه ، فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ، وصدقه ، وآمن به .
فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح ، أوعد عمراً ، وتحطم عليه ، وقال : خالفني وترك رأيي ؛ فقال عمرو بن معديكرب في ذلك :
أمرتك يوم ذي صنـعـاء |
|
أمـرا بـــاديا رشـــده |
أمرتك بـاتـقـاء الـلـه |
|
والـمـعـروف تـتـعـده |
خرجت من المنى مـثـل |
|
الـحـمـير غـره وتــده |
تمنانـي عـلـى فـرس |
|
علـيه جـالـسـا أســده |
علي مفاضة كالـنـهـي |
|
أخـلـص مـاءه جــدده |
ترد الرمح منثني السنـان |
|
عوائرا قـــصـــــده |
فلوا لاقيتنـي لـلـقـيت |
|
ليثـا فـوقـه لــبـــدة |
تلاقي شنبثا شثن البراثـن |
|
ناشـــزا كـــتـــده |
يسامي القـرن إن قـرن |
|
تيمـمـه فـيعـتـضــده |
فيأخـذه فـيرفـعـــه |
|
فيخفـضـه فـيقـتـصـده |
فيدمغـه فـيحـطـمـه |
|
فيخـضـمـه فــيزدرده |
ظلوم الشرك فيما أحرزت |
|
أنـــيابــــــه ويده |
قال ابن هشام :أنشدني أبو عبيدة :
أمرتك يوم ذي صنعـاء |
|
أمـرا بـينــا رشـــده |
أمرتك باتـقـاء الـلـه |
|
تأتـيه وتـتـــعـــده |
فكنت كذي الحمير غرره |
|
ممــا بـــه وتـــده |
قال ابن إسحاق : فأقام عمرو بن معديكرب في قومه من بني زبيد . وعليهم فروة بن مسيك ، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو بن معديكرب ، وقال حين ارتد :
وجدنا ملك فروة شر ملك |
|
حمارا ساف منخره بثـفـر |
وكنت إذا رأيت أبا عمير |
|
ترى الحولاء من خبث وغدر |
قال ابن هشام :قوله : ( بشفر ) عن أبي عبيدة .
قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس ، في وفد كندة فحدثني الزهري بن شهاب أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانين راكباً من كندة ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا ، وعليهم جبب الحبرة ، وقد كففوها بالحرير ، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألم تسلموا ؟ قالوا : بلى ، قال : فما بال هذا الحرير في أعناقكم ؟ قال : فشقوه منها ، فألقوه .
ثم قال الأشعث بن قيس : يا رسول الله ، نحن بنو آكل المرار ، وأنت ابن آكل المرار ، قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبدالمطلب ، وربيعة بن الحارث . وكان العباس وربيعة رجلين تاجرين ، وكانا إذا شاعا في بعض العرب ، فسئلا ممن هما . قالا نحن بنو آكل المرار ، يتعززان بذلك ، وذلك أن كندة كانوا ملوكاً ، ثم قال لهم : لا بل نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفوا أمنا ، ولا ننتفي من أبينا ، فقال الأشعث بن قيس : هل فرغتم يا معشر كندة ؟ والله لا اسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين . قال ابن هشام : الأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قبل النساء ، وآكل المرار : الحارث بن عمرو بن حجر بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندى ؛ ويقال : كندة ، وإنما سمي آكل المرار ، لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم ، وكان الحارث غائبا ، فغنم وسبى ، وكان فيمن سبى أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني ، امرأة الحارث بن عمرو ، فقالت لعمرو في مسيره : لكأني برجل أدلم أسود ، كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبتك ، تعني الحارث ، فسمى آكل المرار . والمرار : شجر . ثم تبعه الحارث في بني بكر بن وائل ، فلحقه فقتله ، واستنقذ امرأته ، وما كان أصاب ، فقال الحارث بن حلزة اليشكري لعمرو بن المنذر ، وهو عمرو بن هند اللخمي :
وأقدناك رب غسان بالمنذر |
|
كرها إذ لا تكـال الـدمـاء |
لأن الحارث الأعرج الغساني قتل المنذر أباه ، وهذا البيت في قصيدة له . وهذا الحديث أطول مما ذكرت ، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت من القطع . ويقال : بل آكل المرار : حجر بن عمرو بن معاوية ، وهو صاحب هذا الحديث ، وإنما سمي آكل المرار ، لأنه أكل هو وأصحابه في تلك الغزوة شجرا يقال له المرار .
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبدالله الأزدي ، فأسلم ، وحسن إسلامه ، في وفد من الأزد ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك ، من قبل اليمن .
فخرج صرد بن عبدالله يسير بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى نزل بجرش ، وهي يومئذ مدينة مغلقة ، وبها قبائل من قبائل اليمن ، وقد ضوت إليهم خثعم ، فدخلوها معهم حين سمعوا بسير المسلمين إليهم ، فحاصروهم فيها قريباً من شهر ، وامتنعوا فيها منه ثم رجع عنهم قافلاً ، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر ، ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزما ، فخرجوا في طلبه ، حتى إذا أدركوه عطف عليهم ، فقتلهم قتلاً شديداً .
وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران ، فبينا هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد صلاة العصر ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بأي بلاد الله شكر ؟ فقام إليه الجرشيان ، فقالا : يا رسول الله ، ببلادنا جبلاً يقال له كشر ، وكذلك يسميه أهل جرش ، فقال : إنه ليس بكشر ، ولكنه شكر ، قالا : فما شأنه يا رسول الله ؟ قال : إن بدن الله لتنحر عنده الآن . قال : فجلس الرجلان إلى أبي بكر ، أو إلى عثمان ، فقال لهما : ويحكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينعى لكما قومكما ، فقوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما ، فقاما إليه ، فسألاه ذلك ، فقال : اللهم ارفع عنهم . فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما ، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبدالله ، في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر .
وخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا ، وحمى لهم حول قريتهم ، على أعلام معلومة ، للفرس والراحلة وللمثيرة ، وبقرة الحرث ، فمن رعاه من الناس فمالهم سحت ، فقال في تلك الغزوة رجل من الأزد ، وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية ، وكانوا يعدون في الشهر الحرام :
يا غزوة ما غزونا غير خائبة |
|
فيها البغال وفيها الخيل والحمر |
حتى أتينا حمرا في مصانعها |
|
وجمع خثعم قد شاعت لها النذر |
إذا وضعت غليلا كنت أحمله |
|
فما أبالي أدانوا بعد أم كفـروا |
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير ، مقدمة من تبوك ، ورسولهم إليه بإسلامهم ، الحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال ، والنعمان ، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان ؛ وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم ، ومفارقتهم الشرك وأهله .
بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد رسول الله النبي ، إلى الحارث بن عبد كلال ، وإلى نعيم بن عبد كلال ، وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان . أما بعد ذلكم : فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد : فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم ، فلقينا بالمدينة ، فبلغ ما أرسلتم به ، وخبرنا ما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين ، وأن الله قد هداكم بهداه ، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأعطيتم من المغانم خمس الله ، وسهم الرسول وصفيه ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار ، عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر . وأن في الإبل الأربعين ابنة لبون ، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر ، وفي كل خمس من الإبل شاة ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة . وأنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيرا فهو خير له ، ومن أدى ذلك ، وأشهد على إسلامه ، وظاهر المؤمنين على المشركين ، فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وله ذمة الله وذمة رسوله . وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني ، فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها ، وعليه الجزية ، على كل حال ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف ، من قيمة المعافر ، أو عوضه ثيابا . فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله . أما بعد : فإن رسول الله محمداً النبي ، أرسل إلى زرعة ذي يزن ، أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً ، معاذ بن جبل ، وعبدالله بن زيد ، ومالك بن عبادة ، وعقبة بن نمر ، ومالك بن مرة ، وأصحابهم ، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم ، وأبلغوها رسلي ، وأن أميرهم معاذ بن جبل ، فلا ينقلبن إلا راضيا . أما بعد : فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله ، ثم أن مالك بن مرة الرهاوي ، قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير ، وقتلت المشركين ، فأبشر بخير ، وآمرك بحمير خيراً ، ولا تخونوا ولا تخاذلوا ، فإن رسول الله هو ولي غنيكم وفقيركم ، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل . وأن مالكاً قد بلغ الخبر ، وحفظ الغيب ، وآمركم به خيراً ، وإني قد أرسلت إليهم من صالحي أهل وأولي دينهم وأولي علمهم ، وآمرك بهم خيراً ، فإنهم منظور إليهم ،والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته .
قال ابن إسحاق : وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي ، ثم النفاثي ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه ، وأهدى له بغلة بيضاء ، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب ، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام .
فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه ، طلبوه حتى أخذوه ، فحبسوه عندهم ، فقال في محبسه ذلك :
طرقت سليمى موهنا أصحابي |
|
والروم بين البـاب والـقـروان |
صد الخيال وساءه ما قـد رأى |
|
وهممت أن أغفى وقد أبكـانـي |
لا تكحلن العين بعدي إثـمـدا |
|
سلـمـى ولا تـدين لـلإتــيان |
ولقد علمت أبا كبيشة أنـنـي |
|
وسط الأعزة لا يحص لسـانـي |
فلئن هلكت لتفقـدن أخـاكـم |
|
ولئن بقيت لتعرفـن مـكـانـي |
ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى |
|
من جـودة وشـجـاعة وبــيان |
فلما أجمعت الروم لصلبه على ماء لهم ، يقال له عفراء بفلسطين ، قال:
ألا هل أتى سلمى بأن حليلـهـا |
|
على ماء عفراء فوق إحدى الرواحل |
على ناقة لم يضرب الفحل أمهـا |
|
مشذبة أطرافهـا بـالـمـنـاجـل |
فزعم الزهري بن شهاب أنهم لما قدموه ليقتلوه ، قال :
بلغ سراة المسلمين بأنني |
|
سلم لربي أعظمي ومقامي |
ثم ضربوا عنقه ، وصلبوه ، على ذلك الماء ، يرحمه الله تعالى . إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد لما سار إليهم دعوة خالد الناس إلى الإسلام وإسلامهم قال ابن إسحاق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى ، سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران ، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ، قبل أن يقاتلهم ثلاثاً ، فإن استجابوا ، فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم . فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ، ويدعون إلى الإسلام ، ويقولون : أيها الناس ، أسلموا تسلموا . فأسلم الناس ، ودخلوا فيما دعوا إليه ، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبذلك كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا .
ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم : لمحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من خالد بن الوليد ، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله هو . أما بعد : يا رسول الله صلى الله عليك ، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب ، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام ، وأن أدعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا ، أقمت فيهم ، وقبلت منهم ، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه ، وإن لم يسلموا قاتلتهم ، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام ، كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعثت فيهم ركباناً قالوا : يا بني الحارث ، أسلموا تسلموا ، فأسلموا ولم يقاتلوا ، وأنا مقيم بين أظهرهم ، آمرهم بما أمرهم الله به ، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه ، وأعلمهم معالم الإسلام ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته .
فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل معه بني الحارث بن كعب ، منهم قيس بن الحصين ذي الغصة ، ويزيد بن عبدالمدان ، ويزيد بن المحجل ، وعبدالله بن قراد الزيادي ، وشداد بن عبدالله القناني ، وعمرو بن عبدالله الضبابي .
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم ، قال : من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ؟ قيل : يا رسول الله ، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب ، فلما وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه ، وقالوا : نشهد أنك رسول الله وأنه لا إله إلا الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم الذين إذا زجروا استقدموا ، فسكتوا ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثانية ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثالثة ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الرابعة ، فقال يزيد بن عبدالمدان : نعم ، يا رسول الله ، نحن الذين إذا زجروا استقدموا ، قالها أربع مرار ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن خالداً لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا ، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم ، فقال يزيد بن عبدالمدان : أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالداً ؛ قال : فمن حمدتم ؟ قالوا : حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله ، قال : صدقتم . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ، قالوا : لم نكن نغلب أحداً ، قال : بلى ، قد كنتم تغلبون من قاتلكم ، قالوا : كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله إنا كنا نجتمع ولا نفترق ، ولا نبدأ أحدا بظلم ، قال : صدقتم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين . فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة ، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر ، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورحم وبارك ، ورضي وأنعم .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ، ليفقههم في الدين ، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ، ويأخذ منهم صدقاتهم ، وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده ، وأمره فيه بأمره . بسم الله الرحمن الرحيم : هذا بيان من الله ورسوله ،يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله ، وأن يبشر الناس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ، ويفقههم فيه ، وينهى الناس . فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم ، والذي عليهم ، ويلين للناس في الحق ، ويشتد عليهم في الظلم ، فإن الله كره الظلم ، ونهى الناس عنه ، فقال : {( ألا لعنة الله على الظالمين )} ويبشر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس النار وعملها ، ويستأنف الناس حتى يفقهوا في الدين ، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته ، وما أمر الله به ، والحج الأكبر : الحج الأكبر ، والحج الأصغر: هو العمرة . وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير ، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه ، وينهى الناس أن يحتبي أحد في ثوب واحد ، يفضي بفرجه إلى السماء ، وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه ، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر ، وليكن دعواهم إلى الله عز وجل وحده لا شريك له ، فمن لم يدع إلى الله ، ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف ، حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له . ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ، ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم الله . وأمر بالصلاة لوقتها ، وإتمام الركوع والسجود والخشوع ، ويغلس بالصبح ، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يقبل الليل ، لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل . وأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها ، والغسل عند الرواح إليها . وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل عشرين أربع شياه ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة ، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيراً فهو خير له . وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاماً خالصاً من نفسه ، ودان بدين الإسلام ، فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها ، وعلى كل حالم : ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف أو عوضه ثياباً ، فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا ، صلوات الله على محمد ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته .
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية ، قبل خيبر ، رفاعة بن زيد الجذامي ، ثم الضبيبي ، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً ، وأسلم فحسن إسلامه ، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى قومه وفي كتابه :
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد . إني بعثته إلى قومه عامة ، ومن دخل فيهم ، يدعوهم إلى الله وإلى رسوله ، فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله ، ومن أدبر فله أمان شهرين . فلما قدم رفاعة على قومه أجابوا وأسلموا ، ثم ساروا إلى الحرة : حرة الرجلاء ، ونزلوها .
قال ابن هشام : وقدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حدثني من أثق به ، عن عمرو بن عبدالله بن أذينة العبدي ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : قدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم مالك بن نمط ، وأبو ثور ، وهو ذو المشعار ، ومالك بن أيفع ، وضمام بن مالك السلماني ، وعميرة بن مالك الخارفي ، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك ، وعليهم مقطعات الحبرات ، والعمائم العدنية ، برحال الميس على المهرية والأرحبية ، ومالك بن نمط ورجل أخر يرتجزان بالقوم ، يقول أحدهما :
همدان خير سـوقة وأقـيال |
|
ليس لها في العالمين أمـثـال |
محلها الهضب ومنها الأبطال |
|
لها إطـابـات بـهـا وآكـال |
ويقول الآخر :
إليك جاوزن سواد الريف |
|
في هبوات الصيف والخريف |
مخطمات بحبال الـلـيف |
|
|
فقام مالك بن نمط بين يديه ، فقال : يا رسول الله نصية من همدان ، من كل حاضر وباد ، أتوك على قلص نواج متصلى بحبائل الإسلام ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من مخلاف خارف ويام وشاكر أهل السود والقود ، أجابوا دعوة الرسول ، وفارقوا الآلهات والأنصاب ، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع ، وماجرى اليعفور بصلع . فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من رسول الله محمد ، لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب ، وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ، ومن أسلم من قومه ، على أن لهم فراعها ووهاطها ، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، يأكلون علافها ، ويرعون عافيها ، لهم بذلك عهد الله وذمام رسوله ، وشاهدهم المهاجرون والأنصار ، فقال في ذلك مالك بن نمط :
ذكرت رسول الله في فحمة الدجى |
|
ونحن بأعلى رحـرحـان وصـلـدد |
وهن بنا خوص طلائح تغـتـلـي |
|
بركبانهـا فـي لاحـب مـتـمـدد |
على كل فتلاء الذراعين جـسـرة |
|
تمر بنا مر الهـجـيف الـحـفـيدد |
حلفت برب الراقصات إلى منـى |
|
صوادر بالركبان من هضـب قـردد |
بأن رسول الله فـينـا مـصـدق |
|
رسول أتى من عند ذي العرش مهتدي |
فما حملت من ناقة فوق رحلـهـا |
|
أشد علـى أعـدائه مـن مـحـمـد |
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه |
|
وأمضى بحد المشرفي الـمـهـنـد |
قال ابن إسحاق : وقد كان تكلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذابان ، مسيلمة بن حبيب باليمامة في بني حنيفة ، والأسود بن كعب العنسي بصنعاء .
قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن عبدالله بن قسيط ، عن عطاء بن يسار ، أو أخيه سليمان بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره ، وهو يقول : أيها الناس إني قد رأيت ليلة القدر ، ثم أنسيتها ، ورأيت في ذراعي سوارين من ذهب ، فكرهتهما فنفختهما فطار ، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمن ، وصاحب اليمامة .
قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً ، كلهم يدعي النبوة .
قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان ، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء ، فخرج عليه العنسي وهو بها . وبعث زيد بن لبيد ، أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها ، وبعث عدي بن حاتم على طيئ ، وصدقاتها وعلى بني أسد . وبعث مالك بن نويرة - قال ابن هشام : اليربوعي - على صدقات بني حنظلة . وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم ، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها ، وقيس بن عاصم على ناحية ، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين ، وبعث علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى أهل نجران ، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم .
وقد كان مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ؛ أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون . فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب . قال ابن إسحاق: فحدثني شيخ من أشجع ، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي ، عن أبيه نعيم ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما حين قرأ كتابه : فما تقولان أنتما ، قالا : نقول كما قال : فقال : أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما .
ثم كتب إلى مسيلمة : بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من ابتع الهدى . أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . وذلك في أخر سنة عشر .