الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل 32: في اللقب بأمير المؤمنين وأنه من سمات الخلافة

227

وهو محدث منذ عهد الخلفاء وذلك أنه لما بويع أبو بكر رضي الله عنه وكان الصحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمونه خليفة رسول الله ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك فلما بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله وكأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته وطول إضافته وأنه يتزايد فيما بعد دائما إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التمييز بتعدد الإضافات وكثرتها فلا يعرف فكانوا يعدلون عن هذا اللقب إلى ما سواه مما يناسبه ويدعى به مثله وكانوا يسمون قواد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة وقد كان الجاهلية يدعون النبي أمير مكة وأمير الحجاز وكان الصحابة أيضا يدعون سعد بن أبي وقاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسية وهم معظم المسلمين يومئذ واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به يقال إن أول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل عمر بن العاصي والمغيرة بن شعبة وقيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنه والله أمير المؤمنين حقا فدعوه بذلك وذهب لقبا له في الناس وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلا سائر دولة بني أمية ثم إن الشيعة خصوا عليا باسم الإمام نعتا له بالإمامة التي هي أخت الخلافة وتعريضا بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصوه بهذا اللقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلهم يسمون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخلفاء حتى إذا يستولون على الدولة يحولون اللقب فيما بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العباس فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذين جهروا بالدعاء له وعقدوا الرايات للحرب على أمره فلما هلك دعي أخوه السفاح بأمير المؤمنين وكذا الرافضة بأفريقيا فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتى
228
انتهى الأمر إلى عبيد الله المهدي وكانوا أيضا يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده فلما استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون أدريس بالإمام وابنه أدريس الأصغر كذلك وهكذا شأنهم وتوارث الخلفاء هذا اللقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك الحجاز والشام والعراق والمواطن التي هي ديار العرب ومراكز الدولة وأهل الملة والفتح وازداد لذلك في عنفوان الدولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميز به بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث لذلك بنو العباس حجابا لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في ألسنة السوقة وصونا لها عن الابتذال فتلقبوا بالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد إلى آخر الدولة واقتفى أثرهم في ذلك العبيديون بأفريقية ومصر وتجافى بنو أمية عن ذلك بالمشرق قبلهم مع الغضاضة والسذاجة لأن العروبية ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحول عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة وأما بالأندلس فتلقبوا كسلفهم مع ما عملوه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية وأنهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العباس حتى إذا جاء عبد الرحمن الداخل الآخر منهم وهو الناصر بن محمد ابن الأمير عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن الأوسط لأول المائة الرابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والإستبدال والقتل والسمل ذهب عبد الرحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وأفريقية وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر لدين الله وأخذت من بعده عادة ومذهب لقن عنه ولم يكن لآبائه وسلف قومه واستمر الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبية ولم يكن العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلب الموالي من العجم على بني العباس والصنائع على العبيديين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء أفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطوائف بالأندلس على أمر بني أمية واقتسموه وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسموا جميعا باسم السلطان فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب
229
تشريفية حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدولة وعضد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة ونصير الدولة ونظام الملك وبهاء الدولة وذخيرة الملك وأمثال هذه وكان العبيديون أيضا يخصون بها أمراء صنهاجة فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدبا معها وعدولا عن سماتها المختصة بها شأن المتغلبين المستبدين كما قلناه ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدولة والسلطان وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك مثل الناصر والمنصور وزيادة على ألقاب يختصون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط فيقولون صلاح الدين أسد الدين نور الدين وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمظفر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف ينعى عليهم مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتمد فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد وأما صنهاجة فاقتصروا عن الألقاب التي كان الخلفاء العبيديون يلقبون بها للتنويه مثل نصير الدولة ومعز الدولة واتصل لهم ذلك لما أدالوا من دعوة العبيديين بدعوة العباسيين ثم بعدت الشقة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السلطان وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئا عن هذه الألقاب إلا اسم السلطان جريا على مذاهب البداوة والغضاضة ولما محي رسم الخلافة وتعطل دستها وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن ناشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة تكميلا لمراسم دينه فخاطب المستظهر العباسي وأوفد عليه ببيعته عبد الله بن العربي وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية يطلبان توليته إياها على المغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيهم في لبوسه ورتبته وخاطبه فيه يا أمير المؤمنين تشريفا واختصاصا فاتخذها لقبا ويقال إنه كان دعي له بأمير
230
المؤمنين من قبل أدبا مع رتبة الخلافة لما كان عليه هو وقومه المرابطون من انتحال الدين واتباع السنة وجاء المهدي على أثرهم داعيا إلى الحق آخذا بمذاهب الأشعرية ناعيا على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة وما يؤول إليه ذلك من التجسيم كما هو معروف في مذهب الأشعرية وسمى أتباعه الموحدين تعريضا بذلك النكير وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنه لا بد منه في كل زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمي بالإمارة لما قلناه أولا من مذهب الشيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشارة إلى مذهبه في عصمة الإمام وتنزه عند اتباعه عن أمير المؤمنين أخذا بمذاهب المتقدمين من الشيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق ثم انتحل عبد المؤمن ولي عهده اللقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثارا به عمن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهدي من ذلك وأنه صاحب الأمر وأولياؤه من بعده كذلك دون كل أحد لانتفاء عصبية قريش وتلاشيها فكان ذلك دأبهم ولما انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناته ذهب أولهم مذاهب البداوة والسذاجة وأتباع لمتونة في انتحال اللقب بأمير المؤمنين أدبا مع رتبة الخلافة التي كانوا على طاعتها لبني عبد المؤمن أولا ولبني أبي حفص من بعدهم ثم نزع المتأخرون منهم إلى اللقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغا في منازع الملك وتتميما لمذاهبه وسماته والله غالب على أمره