الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل 33: في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود

إعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي يحملهم على أحكامها وشرائعها ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف والنوع الإنساني أيضا بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر وهو المسمى بالملك والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعا أو
231
كرها اتخذت فيها الخلافة والملك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معا وأما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامة ولا الجهاد عندهم مشروعا إلا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير ديني وهو ما اقتضته لهم العصبية لما فيها من الطلب للملك بالطبع لما قدمناه لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنة لا يعتنون بشيء من أمر الملك إنما همهم إقامة دينهم فقط وكان القائم به بينهم يسمى الكوهن كأنه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر الصلاة والقربان وشترطون فيه أن يكون من ذرية هارون صلوات الله عليه لأن موسى لم يعقب ثم اختاروا لإقامة السياسة التي هي للبشر بالطبع سبعين شيخا كانوا يتلون أحكامهم العامة والكوهن أعظم منهم رتبة في الدين وأبعد عن شغب الاحكام واتصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبية وتمحضت الشوكة للملك فغلبوا الكنعانيين على الأرض التي أورثهم الله بيت المقدس وما جاورها كما بين لهم على لسان موسى صلوات الله عليه فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيين والأرمن وأردن وعمان ومارب ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم وأقاموا على ذلك نحوا من أربعمائة سنة ولم تكن بهم صولة الملك وضجر بنو طالوت وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين ثم ملك بعده داود ثم سليمان صلوات الله عليهما واستفحل ملكه وامتد إلى الحجاز ثم أطراف اليمن ثم إلى أطراف بلاد الروم ثم افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبية في الدول كما قدمناه إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة والأخرى بالقدس والشام لبني يهوذا وبنيامين ثم غلبهم بخت نصر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك أولا الأسباط العشرة ثم ثانيا بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتصال ملكهم نحو ألف سنة وخرب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق إلى أن ردهم بعض ملوك الكيانية من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنة من
232
خروجهم فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرسم الأول للكهنة فقط والملك للفرس ثم غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم ثم فشل أمر اليونانيين فاعتز اليهود عليهم بالعصبية الطبيعية ودفعوهم عن الاستيلاء عليهم وقام بملكهم الكهنة الذين كانوا فيهم من بني حشمناي وقاتلوا يونان حتى انقرض أمرهم وغلبهم الروم فصاروا تحت أمرهم ثم رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس أصهار بني حشمناي وبقيت دولتهم فحاصروهم مدة ثم افتتحوها عنوة وأفحشوا في القتل والهدم والتحريق وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها وهو الخراب الثاني للمسجد ويسميه اليهود بالجلوة الكبرى فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبية منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الروم من بعدهم يقيم لهم أمر دينهم الرئيس عليهم المسمى بالكوهن ثم جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدين والنسخ لبعض أحكام التوراة وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى واجتمع عليه كثير من الناس وآمنوا به وأكثرهم الحواريون من أصحابه وكانوا اثني عشر وبعث منهم رسلا إلى الآفاق داعين إلى ملته وذلك أيام أوغسطس أول ملوك القياصرة وفي مدة هيرودس ملك اليهود الذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره فحسده اليهود وكذبوه وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به فأذن لهم في قتله ووقع ما تلاه القرآن من أمره وافترق الحواريون شيعا ودخل أكثرهم بلاد الروم داعين إلى دين النصرانية وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة دار ملك القياصرة ثم كتبوا الإنجيل الذي أنزل على عيسى صلوات الله عليه في نسخ أربع على اختلاف رواياتهم فكتب متى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية ونقله يوحنا بن زبدي منهم إلى اللسان اللاتيني وكتب لوقا منهم إنجيله باللاتيني إلى بعض أكابر الروم وكتب يوحنا بن زبدي منهم إنجيله برومة وكتب بطرس إنجيله باللاتيني ونسبه إلى مرقاص تلميذه واختلفت هذه النسخ الأربع من الإنجيل مع أنها ليست كلها وحيا صرفا بل مشوبة بكلام عيسى عليه السلام وبكلام الحواريين وكلها مواعظ وقصص والأحكام فيها قليلة جدا واجتمع الحواريون الرسل لذلك العهد برومة
233
ووضوا قوانين الملة النصرانية وصيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بها فمن شريعة اليهود القديمة التوراة وهي خمسة أسفار وكتاب يوشع وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة وسفر بنيامين وكتب المقابيين لابن كربون ثلاثة وكتاب عزرا ألإمام وكتاب أوشير وقصة هامان وكتاب أيوب الصديق ومزامير داود عليه السلام وكتب ابنه سليمان عليه السلام خمسة ونبوات الأنبياء الكبار والصغار ستة عشر وكتاب يشوع بن شارخ وزير سليمان ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقاة من الحواريين نسخ الإنجيل الأربع وكتب القتاليقون سبع رسائل وثامنها الإبريكسيس في قصص الرسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام وكتاب أبوغالمسيس وفيه رؤيا يوحنا بن زبدي واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشريعة تارة وتعظيم أهلها ثم تركها أخرى والتسلط عليهم بالقتل والبغي إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمروا عليها وكان صاحب هذا الدين والمقيم لمراسيمه يسمونه البطرك وهو رئيس الملة عندهم وخليفة المسيح فيهم ببعث نوابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النصرانية ويسمونه الأسقف أي نائب البطرك ويسمون الإمام الذي يقيم الصلوات ويفتيهم في الدين بالقسيس ويسمون المنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب وأكثر خلواتهم في الصوامع وكان بطرس الرسول رأس الحواريين وكبير التلاميذ برومة يقيم بها دين النصرانية إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق والأساقفة ثم قام بخلافته في كرسي رومة آريوس وكان مرقاس الإنجيلي بالإسكندرية ومصر والمغرب داعيا سبع سنين فقام بعده حنانيا وتسمى بالبطرك وهو أول البطاركة فيها وجعل معه اثني عشر قسا على أنه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانه ويختار من المؤمنين واحدا مكان ذلك الثاني عشر فكان أمر البطاركة إلى القسوس ثم لما وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية أيام قسطنطين لتحرير الحق في الدين واتفق ثلاثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدين فكتبوه وسموه الإمام وصيروه أصلا يرجعون إليه وكان فيما كتبوه أن
234
البطرك القائم بالدين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسة كما قرره حنانيا تلميذ مرقاس وأبطلوا ذلك الرأي وإنما يقدم عن بلاء واختبار من أئمة المؤمنين ورؤسائهم فبقي الأمر كذلك ثم اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدين وكانت لهم مجتمعات في تقريره ولم يختلفوا في هذه القاعدة فبقي الأمر فيها على ذلك واتصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضا تعظيما له فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة يقال آخرها بطركية هرقل بإسكندرية فأرادوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم فدعوه البابا ومعناه أبو الآباء فظهر هذا الاسم أول ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تأريخه ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم وهو كرسي بطرس الرسول كما قدمناه فلم يزل سمة عليه حتى الآن ثم اختلفت النصارى في دينهم بعد ذلك وفيما يعتقدونه في المسيح وصاروا طوائف وفرقا واستظهروا بملوك النصرانية كل على صاحبه فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة إلى أن استقرت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتقون إلى غيرها وهم الملكية واليعقوبية والنسطورية ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك فبطرك رومة اليوم المسمى بالبابا على رأي الملكية ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك الناحية وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبية وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك واختص اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد ولا تسمي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم وضبط هذه اللفظة بباءين موحدتين من أسفل والنطق بها مفخمة والثانية مشددة ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنه يحضهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرجا من افتراق الكلمة ويتحرى به العصبية التي لا فوقها منهم لتكون يده عالية على جميعهم ويسمونه الإنبرذور وحرفه الوسط بين الذال والظاء والظاء المعجمتين ومباشره يضع التاج على رأسه للتبرك فيسمي المتوج ولعله معنى لفظة الإنبرذور وهذا
235
ملخص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين اللذين هما البابا والكوهن والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء