الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل 36: في شارات الملك والسلطان الخاصة به

إعلم أن للسلطان شارات وأحوالا تقتضيها الأبهة والبذخ فيختص بها ويتميز
258
بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة وفوق كل ذي علم عليم الآلة فمن شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة ولعمري إنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه وهذا السبب الذي ذكره أرسطو إن كان ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات وأما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصفير والصريح كما علمت ويزيد ذلك تأثيرا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية لا طبلا ولا بوقا فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قرن إلى قرنه وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف ويتغنى فيحرك بغنائه الجبال الرواسي ويبعث على الاستماتة من لا يظن بها ويسمون ذلك الغناء تاصو كايت وأصله كله فرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح والله أعلم وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر وربما تحدث في النفوس من التهويل زيادة في الاقدام وأحوال النفوس وتلويناتها غريبة والله الخلاق العليم ثم إن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر ومنهم مقلل بحسب اتساع الدولة وعظمها فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة
259
ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء وأما قرع الطبول والنفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزها عن غلظة الملك ورفضا لأحواله واحتقارا لأبهته التي ليست من الحق في شيء حتى إذا انقلبت الخلافة ملكا وتبجحوا بزهرة الدنيا ونعيمها ولا بسهم الموالي من الفرس والروم أهل الدول السالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويها بالملك وأهله فكثيرا ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات فلا يميز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سودا حزنا على شهدائهم من بني هاشم ونعيا على بنى أمية في قتلهم ولذلك سموا المسودة ولما افترق أمر الهاشميين وخرج الطالبيون على العباسيين من كل جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضا وسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من غيرهم كالقرامطة ولما نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء وأما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد وقد كانت آلة العبيديين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق وأما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب واتخذوها من الحرير الخالص ملونة واستمروا على الإذن فيها لعمالهم حتى إذ جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطبول والبنود على السلطان وحظروها على من سواه من عماله وجعلوا لها موكبا خاصا يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة وهم فيه بين مكثر ومقل باختلاف مذاهب الدول في ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبركا بالسبعة كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة وقد بلغت في
260
أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول ومائة من البنود ملونة بالحرير منسوجة بالذهب ما بين كبير وصغير ويأذنون للولاة والعمال والقواد في أتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء وطبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك وأما دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر وهي شعار السلطان عندهم ثم تتعدد الرايات ويسمونها السناجق واحدها سنجق وهي الراية بلسانهم وأما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمونها الكوسات ويبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان وأما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعدا ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم هكذا يبلغنا عنهم وعمن وراءهم من ملوك العجم ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين السرير وأما السرير والمنبر والتخت والكرسي فهي أعواد منصوبة أو ارائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعا عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم وقد كانوا يجلسون على أسرة الذهب وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسي وسرير من عاج مغشى بالذهب إلا أنه لا تاخذ به الدول إلا بعد الاستفحال والترف شأن الأبهة كلها كما قلناه واما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوقون إليه وأول من اتخذه في الإسلام معاوية واستأذن الناس فيه وقال لهم إني قد بدنت فأذنوا له فاتخذه واتبعه الملوك الإسلاميون فيه وصار من منازع الأبهة ولقد كان عمرو بن العاصي بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذهب محمولا علي الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه وفاء له بما اعتقد معهم من الذمة واطراحا لأبهة الملك ثم كان بعد ذلك لبني العباس والعبيديين وسائر ملوك الإسلام شرقا وغربا من الأسرة والمنابر والتخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة والله مقلب الليل والنهار
261
السكة وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بن الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى وبعد تقدير اشخاص الدراهم والدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عددا وإن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزنا ولفظ السكة كان اسما للطابع وهي الحديدة المتخذة لذلك ثم نقل إلى أثرها وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم ثم نقل إلى القيام على ذلك والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علما عليها في عرف الدول وهي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة وكان ملوك العجم يتخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك ولم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم ولما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين وبداوة العرب وكانوا يتعاملون بالذهب والفضة وزنا وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم ويردونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغش في الدنانير والدراهم لغفلة الدولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجاج على ما نقل سعيد بن المسيب وأبو الزناد بضرب الدراهم وتمييز المغشوش من الخالص وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدائني سنة خمس وسبعين ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست وسبعين وكتب عليها الله أحد الله الصمد ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام يزيد بن عبد الملك فجود السكة ثم بالغ خالد القسري في تجويدها ثم يوسف بن عمر بعده وقيل أول من ضرب الدنانير والدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين بركة الله وفي الآخر اسم الله ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجاج وقدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر وذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل وكان السبب في ذلك أن أوزان الدرهم
262
أيام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطا ومنها اثنا عشر ومنها عشرة فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطا فكان المثقال درهما وثلاثة أسباع درهم وقيل كان منها البغلي بثمانية دوانق والطبري أربعة دوانق والمغربي ثمانية دوانق واليمني ستة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التعامل فكان البغلي والطبري اثني عشر دانقا وكان الدرهم ستة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالا وإذا انقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهما فلما رأى عبد الملك اتخاذ السكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه واتخذ فيه كلمات لا صورا لأن العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع ان الشرع ينهى عن الصور فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها وكان الدينار والدرهم على شكلين مدورين والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلا وتحميدا وصلاة على النبي وآله وفي الوجه الثاني التأريخ واسم الخليفة وهكذا أيام العباسيين والعبيديين والأمويين وأما صنهاجة فلم يتخذوا سكة إلا آخر الأمر اتخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه ولما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ سكة الدرهم مربع الشكل وأن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلا وتحميدا ومن الجانب الآخر كتبا في السطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحدون وكانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد ولقد كان المهدي فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع نعته بذلك المتكلمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته وأما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرة وإنما يتعاملون بالدنانير والدراهم وزنا بالصنجات المقدرة بعدة منها ولا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل والصلاة واسم السلطان كما يفعله أهل المغرب ذلك تقدير العزيز العليم ولنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم والدينار الشرعيين وبيان حقيقة مقدارهما
263
وذلك أن الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالآفاق والأمصار وسائر الأعمال والشرع قد تعرض لذكرهما وعلق كثيرا من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدار معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما فاعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعين درهما وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتان وسبعون حبة من الشعير فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع فإن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري وهو أربعة دوانق والبغلي وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشرعي بينهما وهو ستة دوانق فكانوا يوجبون الزكاة في مائة درهم بغلية ومائة طبرية خمسة دراهم وسطا وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك أو إجماع الناس بعد عليه كما ذكرناه ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السنن والماوردي في الأحكام السلطانية وأنكره المحققون من المتأخرين لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق وكان مقدارهما غير مستخص في الخارج وإنما كان متعارفا بينهم بالحكم الشرعي على المقدار في مقدارهما وزنتهما حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة ودعت الحال إلى تشخيصها في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في الذهن ونقش عليهما السكة باسمه وتأريخه أثر الشهادتين الإيمانيتين وطرح النقود الجاهلية رأسا حتى خلصت ونقش عليها سكة وتلاشى وجودها فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم واختلفت في كل الأقطار والآفاق ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما
264
الشرعية ذهنا كما كان في الصدر الأول وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية وأما وزن الدينار باثنتين وسبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع إلا ابن حزم خالف ذلك وزعم أن وزنه أربع وثمانون حبة نقل ذلك عنه القاضي عبد الحق ورده المحققون وعدوه وهما وغلطا وهو الصحيح والله يحق الحق بكلماته وكذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشرعية متحدة ذهنا لا اختلاف فيها والله خلق كل شيء فقدره تقديرا خاتم وأما الخاتم فهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له إن العجم لا يقبلون كتابا إلا أن يكون مختوما فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله قال البخاري جعل الثلاث الكلمات ثلاثة اسطر وختم به وقال لا ينقش أحد مثله قال وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد واغتم عثمان وتطير منه وصنع آخر على مثله وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه وذلك أن الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الإصبع ومنه تختم إذا لبسه ويطلق على النهاية والتمام ومنه ختمت الأمر إذا بلغت اخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر ويطلق على السداد الذي يسد به الأواني والدنان ويقال فيه ختام ومنه قوله تعالى ختامه مسك وقد غلط من فسر ذلك بالنهاية والتمام قال لأن آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك وليس المعنى عليه وإنما هو من الختام الذي هو السداد لأن الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها ويطيب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأن سدادها من المسك وهو أطيب عرفا وذوقا من القار والطين المعهودين في الدنيا فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشئ عنها وذلك أن الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في مداف من الطين أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات
265
في ذلك الصفح وكذلك إذا طبع به على جسم لين كالشمع فإنه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسما فيه وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النقش على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح عما كان في النقش من يمين أو يسار فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين ووضعه في الصفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه كأن الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام وقد يكون هذا الختم بالخط آخر الكتاب أو أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخط علامة على صحة الكتاب ونفوذه ويسمى ذلك في المتعارف علامة ويسمى ختما تشبيها له بأثر الخاتم الآصفي في النقش ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه ومنه خاتم السلطان أو الخليفة أي علامته قال الرشيد ليحيي بن خالد لما أراد ان يستوزر جعفرا ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي فكنى له بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرسائل والصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطبري أن معاوية أرسل إلى الحسن عند مراودته إياه في الصلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصحيفة بخطه أو غيره ويحتمل أن يختم به في جسم لين فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السداد كما مر وهو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم وأول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم ذكره الطبري وقال آخرون وحزم الكتب ولم تكن
266
تحزم أي جعل لها السداد وديوان الختم عبارة عن الكتاب القائمين على إنقاذ كتب السلطان والختم عليها إما بالعلامة أو بالحزم وقد يطلق الديوان على مكان جلوس هؤلاء الكتاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال والحزم للكتب يكون إما بدس الورق كما في عرف كتاب المغرب وإما بإلصاق رأس الصحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق وقد يجعل على مكان الدس أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطلاع على ما فيه فأهل المغرب يجعلون على مكان الدس قطعة من الشمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النقش في الشمع وكان في المشرق في الدول القديمة يختم على مكان اللصق بخاتم منقوش أيضا قد غمس في مداف من الطين معد لذلك صبغة أحمر فيرتسم ذلك النقش عليه وكان هذا الطين في الدولة العباسية يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنه مخصوص بها فهذا الخاتم الذي هو العلامة المكتوبة أو النقش للسداد والحزم للكتب خاص بديوان الرسائل وكان ذلك للوزير في الدولة العباسية ثم اختلف العرف وصار لمن اليه الترسيل وديوان الكتاب في الدولة ثم صاروا في دول المغرب يعدون من علامات الملك وشاراته الخاتم للإصبع فيستجيدون صوغه من الذهب ويرصعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزمرد ويلبسه السلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية والمظلة في الدولة العبيدية والله مصرف الأمور بحكمه الطراز من أبهة الملك والسلطان ومذاهب الدول أن ترسم أسماؤهم أو علامات تختص بهم في ظراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاما وإسداء بخيط الذهب أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب على ما يحكمه الصناع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصد التنويه بلابسها من السلطان فمن دونه أو التنويه بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفةمن وظائف دولته وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معينة لذلك ثم
267
اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السجلات وكان ذلك في الدولتين من أبهة الأمور وأفخم الأحوال وكانت الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمى دور الطراز لذلك وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز ينظر في أمور الصباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلاتهم ومشارفة أعمالهم وكانوا يقلدون ذلك لخواص دولتهم وثقات مواليهم وكذلك كان الحال في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف من بعدهم وفي دولة العبيديين بمصر ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق ثم لما ضاق نطاق الدول عن الترف والتفنن فيه لضيق نطاقها في الاستيلاء وتعددت الدول تعطلت هذه الوظيفة والولاية عليها من أكثر الدول بالجملة ولما جاءت دولة الموحدين بالمغرب بعد بني أمية أول المائة السادسة لم يأخذوا بذلك أول دولتهم لما كانوا عليه من منازع الديانة والسذاجة التي لقنوها عن إمامهم محمد بن تومرت المهدي وكانوا يتورعون عن لباس الحرير والذهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدولة طرفا لم يكن بتلك النباهة وأما لهذا العهد فأدركنا بالمغرب في الدولة المرينية لعنفوانها وشموخها رسما جليلا لقنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتبع هو في ذلك ملوك الطوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر وأما دولة الترك بمصر والشام لهذا العهد ففيها من الطراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلا أن ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم وإنما ينسج ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير ومن الذهب الخالص ويسمونه المزركش لفظة أعجمية ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه ويعده الصناع لهم فيما يعدونه للدولة من طرف الصناعة اللائقة بها والله مقدر الليل والنهار والله خير الوارثين الفساطيط والسياج إعلم أن من شارات الملك وترفه اتخاذ الأخبية والفساطيط والفازات من ثياب الكتان والصوف والقطن فيباهى بها في الأسفار وتنوع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدولة في الثروة واليسار وإنما يكون الأمر في أول الدولة في بيوتهم التي جرت عادتهم باتخاذها قبل الملك وكان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني امية
268
إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياما من الوبر والصوف ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرقة الأحياء يغيب كل واحد منها عن نظر صاحبه من الأخرى كشأن العرب ولذلك ما كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على أثره أن يقيموا إذا ظعن ونقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباغ وقصتها في إحراق فساطيط روح وخيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجاج بين العرب فإنه لا يتولى إرادتهم على الظعن إلا من يأمن بوادر السفهاء من أحيائهم بما له من العصبية الحائلة دون ذلك ولذلك اختصه عبد الملك بهذه الرتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيته وصرامته فلما تفننت الدولة العربية في مذاهب الحضارة والبذخ ونزلوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخف إلى ظهر الحافر اتخذوا للسكنى في اسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتا مختلفة الأشكال مقدرة الأمثال من القوراء والمستطيلة والمربعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزينة ويدير الأمير والقائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجا من الكتان يسمى في المغرب بلسان البربر الذي هو لسان أهله أفراك بالكاف والقاف ويختص به السلطان بذلك القطر لا يكون لغيره وأما في المشرق فيتخذه كل أمير وإن كان دون السلطان ثم جنحت الدعة بالنساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم فخف لذلك ظهرهم وتقاربت السياج بين منازل العسكر واجتمع الجيش والسلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهوا أنيقا لاختلاف ألوانه واستمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها وترفها وكذا كانت دولة الموحدين وزناته التي أظلتنا كان سفرهم أول أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطين حتى إذا أخذت الدولة في مذاهب الترف وسكنى القصور وعادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط بلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من الترف بمكان إلا أن العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم
269
فيه الصيحة ولخفتهم من الأهل والولد الذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفظ آخر والله القوي العزيز المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة وهما من الأمور الخلافية ومن شارات الملك الإسلامي ولم يعرف في غير دول الإسلام فأما البيت المقصورة من المسجد لصلاة السلطان فيتخذ سياجا على المحراب فيحوزه وما يليه فأول من اتخذها معاوية بن أبي سفيان حين طعنه الخارجي والقصة معروفة وقيل أول من اتخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليماني ثم اتخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة وهي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول والاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها وما زال الشأن ذلك في الدول الإسلامية كلها وعند افتراق الدولة العباسية وتعدد الدول بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدولة الأموية وتعدد ملوك الطوائف وأما المغرب فكان بنو الأغلب يتخذونها بالقيروان ثم الخلفاء العبيديون ثم ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس وبنو حماد بالقلعة ثم ملك الموحدون سائر المغرب والأندلس ومحو ذلك الرسم على طريقة البداوة التي كانت شعارهم ولما استفحلت الدولة وأخذت بحظها من الترف وجاء أبو يعقوب المنصور ثالث ملوكهم فاتخذ هذه المقصورة وبقيت من بعده سنة لملوك المغرب والأندلس وهكذا كان الشأن في سائر الدول سنة الله في عباده وأما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن أولا عند الخلفاء ولاية الصلاة بأنفسهم فكانوا يدعون لذلك بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والرضى عن أصحابه وأول من اتخذ المنبر عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر وأول من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس دعا لعلي رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها فقال اللهم انصر عليا على الحق واتصل العمل على ذلك فيما بعد وبعد أخذ عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطاب أما بعد فقد بلغني أنك اتخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائما والمسلمون تحت عقبك فعزمت عليك إلا ما كسرته فلما حدثت الأبهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصلاة استنابوا
270
فيهما فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويها باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه ولأن تلك الساعة مظنة للإجابة ولما ثبت عن السلف في قولهم من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان وكان الخليفة يفرد بذلك فلما جاء الحجر والاستبداد صار المتغلبون على الدول كثيرا ما يشاركون الخليفة في ذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه وذهب ذلك بذهاب تلك الدول وصار الأمر إلى اختصاص السلطان بالدعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن يشاركه فيه أحد او يسمو إليه وكثيرا ما يغفل المعاهدون من أهل الدول هذا الرسم عندما تكون الدولة في اسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التغافل والخشونة ويقنعون بالدعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور المسلمين ويسمون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عباسية يعنون بذلك أن الدعاء على الإجمال إنما يتناول العباسي تقليدا في ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتصريح باسمه يحكى أن يغمراسن بن زيان عاهد دولة بني عبد الواد لما غلبه الأمير أبو زكرياء يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثم بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاءوا وكذلك يعقوب بن عبد الحق عاهد دولة بني مرين حضره رسول المنتصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم وتخلف بعض أيامه عن شهود لجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرسول كراهية لخلو الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدعاء له وكان ذلك سببا لأخذهم بدعوته وهكذا شأن الدول في بدايتها وتمكنها في الغضاضة والبداوة فإذا انتبهت عيون سياستهم ونظروا في أعطاف ملكهم واستتموا شيات الحضارة ومفاني البذخ والأبهة انتحلوا جميع هذه السمات وتفننوا فيها وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلو دولتهم من آثارها والعالم بستان والله على كل شيء رقيب