والسبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية بمقدار غنائهم وعصبيتهم ولأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الاستبداد عليهم فله عليهم عزة وله إليهم حاجة فلا يطير في سهمانه من الجباية إلا الأقل من حاجته فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي متملقين في الغالب وجاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم وتقل حظوظهم إذ ذاك لقلة غنائهم في الدولة بما انكبح من أعنتهم وصار الموالي والصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلئ خزائنه ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطي ويتسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثلونها ثم إذا أخذت الدولة في
284
الهرم بتلاشي العصبية وفناء القليل المعاهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار لكثرة الخوارج والمنازعين والثوار وتوهم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدولة ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئا فشيئا وواحدا بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها ويتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعونه وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم ثم في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حدير وبني برد وأمثالهم وكذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا سنة الله التي قد خلت في عباده فصل ولما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر ويرون أنه أهنأ لهم واسلم في إنفاقه وحصول ثمرته وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبية المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها ولا سيما عند استفحال الدولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتخلق بالشر وأما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان
285
وحاشيته وأهل الرتب في دولته فقل أن يخلى بينه وبين ذلك أما أولا فلما يراه الملوك أن ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضنا بأسرارهم وأحوالهم أن يطلع عليها أحد وغيرة من خدمته لسواهم ولقد كان بنو أمية بالأندلس بمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الحج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف وأما ثانيا فلأنهم وإن سمحوا بحل ربقته فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلا بها وفي ظل جاهها فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النادر الأقل فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضا أو بالقهر ظاهرا لما يرون أنه مال الجباية والدول وأنه مستحق للإنفاق في المصالح وإذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة واليسار المتكسبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية والدول التي تجد السبيل إليه بالشرع والعادة ولقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بأفريقه الخروج عن عهدة الملك واللحاق بمصر فرارا من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده وركب السفين من هنالك وخلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت والذخيرة وباع كل ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجوهر حتى الكتب واحتمل ذلك كله إلى مصر ونزل على الملك الناصر محمد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئا فشيئا بالتعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرايته التي فرض له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب وإنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم
286
وما يتوهمونه من الحاجة فغلط ووهم والذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة والفلاحة والدول أنساب لكن النفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع والله سبحانه هو الرزاق وهو الموفق بمنه وفضله والله أعلم