الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل 46: في ان الهرم اذا نزل بالدولة لا يرتفع

قد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحدا بعد واحد وبينا أنها

294
تحدث للدولة بالطبع وأنها كلها أمور طبيعية لها وإذا كان الهرم طبيعيا في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل وقد بتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظن أنه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم وليس كذلك فإنها أمور طبيعية للدولة والعوائد هي المانعة له من تلافيها والعوائد منزلة طبيعية أخرى فإن من أدرك مثلا أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي والاختلاط بالناس إذ العوائد حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التاييد الإلهي والنصر السماوي وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس فإذا ازيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال وهي انطفاء فاعتبر ذلك ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدر فيه ولكل أجل كتاب