قد ذكرنا أن الدول الحادثة المتجددة نوعان نوع من ولاية الأطراف إذا تقلص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة للدولة في الأكثر كما قدمناه لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوتهم والنوع الثاني نوع
299
الدعاة والخوارج على الدولة وهؤلاء لا بدلهم من المطالبة لأن قوتهم وافية بها فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال تتكور وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة والسبب في ذلك أن الظفر في الحروب إنما يقع كما قدمناه بامور نفسانية وهمية وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلا به لكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر ولذلك كان الخداع من أرفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظفر به وفي الحديث الحرب خدعة والدولة المستقرة قد صيرت العوائد المألوفة طاعتها ضروية واجبة كما تقدم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة ويكثر من همم أتباعه وأهل شوكته وإن كان الأقربون من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته إلا أن الآخرين أكثر وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التسليم للدولة المستقرة فيحصل بعض الفتور منهم ولا يكاد صاحب الدولة المستقرة يرجع إلى الصبر والمطاولة حتى يتضح هرم الدولة المستقرة فتضمحل عقائد التسليم لها من قومه وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظفر والاستيلاء وأيضا فالدولة المستقرة كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك وتوسع من النعيم واللذات واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الاسلحة وتعظم فيهم الأبهة الملكية ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختيارا واضطرارا فيرهبون بذلك كله عدوهم وأهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب بما يبلغهم من أحوال الدولة المستقرة ويحرمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم ويستحكم الخلل فيها في العصبية والجباية فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة سنة الله في عباده وأيضا فأهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم ثم هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليه فتتمكن
300
المباعدة بين اهل الدولتين سرا وجهرا ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة يصيبون منه غرة باطنا وظاهرا لانقطاع المداخلة بين الدولتين فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام وينكلون عن المناجزة حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة وفناء عمرها ووفور الخلل في جميع جهاتها واتضح لأهل الدولة المستجدة مع ما كان يخفى منهم من هرمها وتلاشيها وقد عظمت قوتهم بما اقتطعوه من أعمالها ونقصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يدا واحدة للمناجزة ويذهب ما كان بث في عزائمهم من التوهمات وتنتهي المطاولة إلى حدها ويقع الاستيلاء آخرا بالمعاجلة واعتبر ذلك في دولة بني العباس حين ظهورها حين قام الشيعة بخراسان بعد انعقاد الدعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد وحينئذ تم لهم الظفر واستولوا على الدولة الأموية وكذا العلوية بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الديلم كيف كانت مطاولتهم حتى استولوا على تلك الناحية ثم لما انقضى أمر العلوية وسما الديلم إلى ملك فارس والعراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتى اقتطعوا أصبهان ثم استولوا على الخليفة ببغداد وكذا العبيديون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشيعي ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين ويزيد تطاول بني الأغلب بأفريقية حتى ظفر بهم واستولوا على المغرب كله وسموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين سنة أو نحوها في طلبها يجهزون إليها العساكر والأساطيل في كل وقت ويجيء المدد لمدافعتهم برا وبحرا من بغداد والشام وملكوا الإسكندرية والفيوم والصعيد وتخطت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين ثم نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها واقتلع دولة بني طغج من أصولها واختط القاهرة فجاء الخليفة بعد المعز لدين الله فنزلها لستين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندرية وكذا السلجوقية ملوك الترك لما استولوا على بني ساسان وأجازوا من وراء النهر مكثوا نحو ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتى استولوا على دولته ثم زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيام من الدهر وكذا التتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبعة عشر وستمائة فلم يتم لهم الاستيلاء إلا بعد أربعين سنة وكذا أهل المغرب خرج به المرابطون من
301
لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثم استولوا عليه ثم خرج الموحدون بدعوتهم على لمثونة فمكثوا نحوا من ثلاثين سنة يحاربونهم حتى استولوا على كرسيهم بمراكش وكذا بنومرين من زناتة خرجوا على الموحدين فمكثوا يطاولونهم نحوا من ثلاثين سنة واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملكهم ثم أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى حتى استولوا على كرسيهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كله في تواريخ هذه الدول فهكذا حال الدول المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم واعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبعادا بالإيمان وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل فكان ذلك كله خارقا للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة وإذا كان ذلك خارقا فهو من معجزات نبينا صلوات الله عليه المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية ولا يعترض بها والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق