الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل 50: في وفور العمران اخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات

اعلم أنه قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها إما من الدين إن كانت الدعوة دينية أو من المكارمة والمحاسنة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للدول وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفر ويكثر التناسل وإذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنماء ولا تقولن إنه قد مر لك أن أواخر الدولة يكون فيها الإجحاف بالرعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأن الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلت الجبايات فإنما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التدريج
302
في الأمور الطبيعية ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول والسبب فيه إما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة فيقل احتكار الزرع غالبا وليس صلاح الزرع وثمرته بمستمر الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلتها مختلفة والمطر يقوى ويضعف ويقل ويكثر والزرع والثمار والضرع على نسبته إلا أن الناس واثقون في أقواتهم بالاحتكار فإذا فقد الاحتكار عظم توقع الناس للمجاعات فغلا الزرع وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا وكان بعض السنوات الاحتكار مفقودا فشمل الناس الجوع وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائما فيسري الفساد إلى مزاجه فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلة المغرم وهو ظاهر ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح ولهذا أيضا فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب والله يقدر ما يشاء