الفصل الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات - الفصل 51: في ان العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها امره

إعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون
303
إليه وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من اهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسا ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاصلة والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك وهذه المدينة الفاصلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة وأحكام الملك مندرجة فيها ألوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعا وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وغيره إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعية واداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية والاقتداء فيها بالشرع أولا ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبدالله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدينية والخلقية والسياسة الشرعية والملوكية وحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك
304
ولا سوقة ونص الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه واحفظ رعيتك في الليل والنهار والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسئول عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقه وحدوده عليهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الراحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومنيبك عليه بما قدمت واخرت ففرغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل وإنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول ما يوقفك الله عليه وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عز وجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك وتوابعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عز وجل فيها ورتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك ولتصرف فيه رأيك ونيتك واحضض عليه جماعة ممن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنها كما قال الله عز وجل تنهى عن الفحشاء والمنكر ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده واذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قم فيه بالحق لله عز وجل ولا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد وآثر الفقه وأهله والدين وحملته وكتاب الله عز وجل والعاملين به فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها ومع توفيق الله عز وجل يزداد المرء معرفة وإجلالا له ودركا للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين
305
نفعا ولا أخص أمنا ولا أجمع فضلا منه والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد وكذا في دنياك كلها ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد والإعانة والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى الرشد والإعانة والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته أما تعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويمحص من الذنوب وأنك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فاته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامتك وخاصتك واحسن ظنك بالله عز وجل تستقم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن ايقاع التهم بالبراء والظنون السيئة بهم آثم إثم فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزا فإنه يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسئلة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤوناتهم أيسر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة وأخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع ومجزي بما أحسن ومؤاخذ بما اساء فإن الله عزوجل جعل الدين حرزا وعزا ورفع من اتبعه وعززه الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتقم لك مرؤتك وإذا عاهدت عهدا فأوف به وإذا وعدت خيرا فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها وأغمض عن عيب
306
كل ذي عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهل النميمة فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب والجراءة على الكذب لأن الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمتها لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقم له أمر وأحبب أهل الصلاح والصدق وأعز الأشراف بالحق وآس الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رايك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك وأنعم بالعدل في سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى واملك نفسك عند الغضب وآثر الحلم والوقار وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسيله وإياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله عز وجل وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة على أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عز وجل من فضله ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم واعلم أن الأموال إذا اكتنزت وادخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامة وترتبت بها الولاية وطاب بها الزمان واعتقد فيها العز والمنفعة فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب أنفسا بكل ما أردت وأجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب وليعظم حقك فيه وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله واعرف للشاكرين حقهم وأثبهم عليه وإياك أن
307
تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يورث التفريط والتفريط يورث البوار وليكن عملك لله عز وجل وارج الثواب فيه فإن الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا فإن الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وإحسان المحسنين ولا تحقرن ذنبا ولا تمالأن حاسدا ولا ترحمن فاجرا ولا تصلن كفورا ولا تداهنن عدوا ولا تصدقن نماما ولا تأمنن غدارا ولا توالينن فاسقا ولا تتبعن غاويا ولا تحمدن مرائيا ولا تحقرن إنسانا ولا تردن سائلا فقيرا ولا تحسنن باطلا ولا تلاحظن مضحكا ولا تخلفن وعدا ولا تزهون فخرا ولا تظهرن غضبا ولا تباينن رجاء ولا تمشين مرحا ولا تفرطن في طلب الآخرة ولا ترفع للنمام عينا ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة ولا تدخلن في مشورتك أهل الرقة والبخل ولا تسمعن لهم قولا فإن ضررهم أكثر من نفعهم وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم وابتدئ من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم واجتنب الشح واعلم أنه أول ما عصى الإنسان به ربه وإن العاصي بمنزلة خزي وهو قول الله عز وجل ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فسهل طريق الجود بالحق واجعل للمسلمين كلهم من فيئك حظا ونصيبا وأيقن أن الجود أفضل أعمال العباد فأعده لنفسك خلقا وارض به عملا ومذهبا وتفقد الجند في دواوينهم ومكانتهم وادر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معايشهم يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته فزايل مكروه احد البابين واستشعار فضيلة الباب الآخر ولزوم العمل به نلق إن شاء الله تعالى نجاحا وصلاحا وفلاحا واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان
308
الذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتأمن السبل وينتصف المظلوم وتأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدى حق الطاعة ويرزق الله العافية والسلامة ويقيم الدين ويجري السنن والشرائع في مجاريها واشتد في أمر الله عز وجل وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود وأقل العجلة وابعد عن الضجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشبهة وأبلغ في الحجة ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر وتنكر وتدبر واعتبر وتواضع لربك وارفق بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك ولا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله عز وجل بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقها وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزا ورفعة ولأهله توسعة ومنعة ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا ولأهل الكفر من معاديهم ذلا وصغارا فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم ولا تدفعن شيئا منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصتك ولا حاشيتك ولا تأخذن منه فوق الاحتمال ولا تكلف أمرا فيه شطط واحمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك أجمع لأنفسهم وألزم لرضاء العامة واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعمل بالسياسة والعفاف ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنك متى أثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك واجتدرت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة
309
مرضي العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة فنافس في ذلك ولا تقدم عليه شيئا تحمد عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلها فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمره وقدره وأتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإن للغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيثقلك ذلك حتى تمرض منه وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مؤونتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أحفى مسئلة ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم واراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة وأجر للأضراء من بيت المال وقدم حملة القران منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دورا تأويهم وقواما يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى إسراف في بيت المال واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم
310
لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه فيها ما يناله به من مؤونة ومشقة وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله تعالى ويلتمس رحمته وأكثر الإذن للناس عليك وأبرز لهم وجهك وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من اهل السلطان والرئاسة في القرون الخالية والأمم البائدة ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه وتعالى والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وجل واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وما ينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرك وإعلانك بما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهرون لك وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج عمالك وأمور الدولة ورعيتك ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر فيه والتدبر له فما كان موافقا للحق والحزم فأمضه واستخر الله عز وجل فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى المسئلة عنه والتثبت فيه ولا تمتن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم ولا تقبل من احد إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المسلمين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك وتفهم كتابي اليك وأنعم النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك واستخره فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز
311
وجل رضى ولدينه نظاما ولأهله عزا وتمكينا وللملة والذمة عدلا وصلاحا وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام وحدث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره أعجب به الناس واتصل بالمأمون فلما قرئ عليه قال ما أبقى أبو الطيب يعنى طاهرا شيئا من أمور الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به ويعلمو بما فيه هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة والله أعلم