الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل الثالث: في ان المدن العظيمة والهياكل المرتفعة انما يشيدها الملك الكثير

قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني وغيرها وأنها تكون على نسبتها وذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجثماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها وجمعت أيديهم على عملها وربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوي والقدر في حمل أثقال البناء
345
لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك كالمخال وغيره وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب إنما كانت بقدرهم متفرقين أو مجتمعين فيتخيل لهم أجساما تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت تلك المباني عنها ويغفل عن شأن الهندام والمخال وما اقتضته في ذلك الصناعة والهندسية وكثير من المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدول المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عيانا وأكثر آثار الأقدمين إلى هذا العهد تسميها العامة عادية نسبة إلى قوم عاد لتوهمهم أن مباني عاد ومصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم وليس كذلك فقد نجد آثارا كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى ومباني العبدين من الشيعة بأفريقية والصنهاجيين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان وبناء الموحدين في رباط الفتح ورباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان وكذلك الحنايا التي جلب إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة لهذا العهد وغير ذلك من المباني والهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريبا وبعيدا وتيقنا أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد وقد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي أكثر السنين ويشاهدونها لا تزيد في جوها ومساحتها وسمكها على المتعاهد وإنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك حتى إنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السمك من البحر طريئا فيشويه في الشمس يزعمون بذلك أن الشمس حارة فيما قرب منها ولا يعلمون أن الحر فيما لدينا هو الضوء لانعكاس الشعاع بمقابلة سطح الأرض والهواء وأما الشمس في نفسها غير حارة ولا باردة وإنما هي كوكب مضيء لا مزاج له وقد تقدم شيء من هذا في الفصل الثاني حيث ذكرنا أن آثار الدولة على نسبة قوتها في أصلها والله يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد