الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل الرابع: في ان الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة

346

والسبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التعاون ومضاعفة القدر البشرية وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلآ أن تتم فيبتدئ الأول منهم بالبناء ويعقبه الثاني والثالث وكل واحد منهم وقد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي حتى يتم القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلا للعيان يظنه من يراه من الآخرين أنه بناء دولة واحدة وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب وأن الذي بناه سبا بن يشجب وساق إليه سبعين واديا وعاقه الموت عن إتمامه فأتمه ملوك حمير من بعده ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة وقناتها الراكبة على الحنايا العادية وأكثر الباني العظيمة في الغالب هذا شأنها ويشهد لذلك أن المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك لواحد يشرع في اختطاطها وتأسيسها فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها ولم يكمل القصد فيها ويشهد لذلك أيضا أنا نجد آثارا كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها مع أن الهدم أيسر من البناء بكثير لأن الهدم هو رجوع إلى الأصل الذي هو العدم والبناء على خلاف الأصل فإذا وجدنا بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمة مع سهولة الهدم علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة وانها ليست أثر دولة واحدة وهذا مثل ما وقع للعرب في إيوان كسرى لما اعتزم الرشيد على هدمه وبعث إلى يحي بن خالد وهو في محبسه يستشيره في ذلك فقال يا أمير المؤمنين لا تفعل واتركه ماثلا يستدل به على عظم ملك آبائك الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل فاتهمه في النصيحة وقال أخذته النعرة للعجم والله لأصرعنه وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه واتخذ له الفؤس وحماه بالنار وصب عله الخل حتى إذا أدركه العجز بعد ذلك كله وخاف الفضيحة بعث إلى يحي يستشيره ثانية في التجافي عن الهدم فقال لا تفعل واستمر على ذلك لئلا يقال عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من المصانع العجم فعرفها الرشيد وأقصر عن هدمه وكذلك اتفق للمأمون في هدم الأهرام التي بمصر
347
وجمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط والظاهر وما بعده من الحيطان وهنالك كان منتهى هدمهم وهو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر ويزعم الزاعمون أنه وجد ركازا بين تلك الحيطان والله أعلم وكذلك حنايا المعلقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم وتستجيد الصناع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيام العديدة ولا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق وتجتمع له المحافل المشهورة وشهدت منها في أيام صباي كثيرا والله خلقكم وما تعلمون