الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل السادس: في المساجد والبيوت العظيمة

إعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعا اختصها بتشريفه وجعلها مواطن
350
لعبادته يضاعف فيها الثواب وينمو بها الأجور وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفا بعباده وتسهيلا لطرق السعادة لهم وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصحيحين وهي مكة والمدينة وبيت المقدس أما البيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم عليه صلوات الله وسلامه عليه أمره الله ببنائه وأن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر منه وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحاق عليه السلام حواليه والمدينة مهاجر نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه أمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها وكان ملحده الشريف في تربتها فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم وفي الآثار من فضلها ومضاعفة الثواب في مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف فلنشر إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم فأما مكة فأوليتها فيما يقال أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثم هدمها الطوفان بعد ذلك وليس فيه خبر صحيح يعول عليه وإنما اقتبسوه من محل الآية في قوله وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ثم بعث الله إبراهيم وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ما هو معروف وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما وكيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم ومرور الرفقة من جرهم بها حتى احتملوها وسكنوا إليهما ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه فأتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتا يأوي إليه وأدار عليه سياجا من الردم وجعله زربا لغنمه وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مرارا لزيارته من الشام أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب فبناه واستعان فيه بابنه إسماعيل ودعا الناس إلى حجه وبقى إسماعيل ساكنا به ولما قبضت أمه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من حرهم ثم العماليق من بعدهم واستمر الحال على ذلك والناس يهرعون
351
إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممن دنا أو نأى فقد نقل أن التبايعة كانت تحج البيت وتعظمه وأن تبعا كساها الملاء والوصائل وأمر بتطهيرها وجعل لها مفتاحا ونقل أيضا أن الفرس كانت تحجه وتقرب إليه وان غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم ولم يزل لجرهم الولاية علية من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله ثم كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعبوا إلى كنانة ثم كنانة إلى قريش وغيرهم وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره وأخرجوهم من البيت وملكوا عليهم يومئذ قصي بن كلاب فبنى البيت وسقفه بخشب الدوم وجريد النخل وقال الأعشى خلفت بثوبي راهب الدور والتي بناها قصي والمضاض بن جرهم ثم أصاب البيت سيل ويقال حريق وتهدم وأعادوا بناءه وجمعوا النفقة لذلك من أموالهم وانكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبا للسقف وكانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثماني عشرة ذراعا وكان الباب لاصقا بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخل السيول وقصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده وتركوا منه ست اذرع وشبرا أداروها بجدار قصير يطاف من وراءه وهو الحجر وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه وزحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السكوني ورمى البيت سنة أربع وستين فأصابه حريق يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فأعاد بناءه أحسن مما كان بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بناءه واحتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها لولا قومك حديثو عهد بكفر لرددت البيت على قواعد إبراهيم ولجعلت له بابين شرقيا وغربيا فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام وجمع الوجوه والأكابر حتى عاينوه وأشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس فأدار على الأساس الخشب ونصب من فوقها الأستار حفظا للقبلة وبعث إلى صنعاء في الفضة والكلس فحملها وسأل عن مقطع الحجارة الأول فجمع منها ما احتاج إليه ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام ورفع جدرانها سبعا وعشرين
352
ذراعا وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه وجعل فرشها وإزرها بالرخام وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذهب ثم جاء الحجاج لحصارة أيام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانها ثم لما ظفر بابن الزبير شاور عبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه ورد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم ويقال انه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة وقال وددت أني كنت حملت أبا حبيب في أمر البيت وبنائه ما تحمل فهدم الحجاج منه ست أذرع وشبرا مكان الحجر وبناها عل أساس قريش وسد الباب الغربي وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي وترك سائرها لم يغير منه شيئا فكل البناء الذي فيه اليوم بناء ابن الزبير وبناء الحجاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ظاهرة بين البناءين والبناء متميز عن البناء بمقدار إصبع شبه الصدع وقد لحم ويعرض هنا إشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف ويحذر الطائف أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناءا على أن الجدر إنما قامت على بعض الأساس وترك بعضه وهو مكان الشاذروان وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود لا بد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائما لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت وإذا كانت الجدران كلها من بناء بن الزبير وهو إنما بني على أساس إبراهيم فكيف يقع هذا الذي قالوه ولا مخلص من هذا إلا بأحد أمرين أحدهما ان يكون الحجاج هدم جميعه وأعاده وقد نقل ذلك جماعة إلا إن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين وتمييز أحد الشقين من أعلاه على الآخر في الصناعة يرد ذلك وإما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم مع جميع جهاته وإنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزبير ليست على قواعد إبراهيم وهذا بعيد ولا محيص من هذين والله تعالى أعلم ثم إن مساحة البيت وهو المسجد كان فضاء للطائفين ولم يكن عليه جدر أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من بعده ثم كثر الناس فاشترى عمر رضى الله عنه دورا هدمها وزادها في المسجد وأدار عليها جدارا دون القامة وفعل مثل ذلك عثمان ثم ابن الزبير ثم الوليد بن عبد الملك وبناه بعمد
353
الرخام ثم زاد فيه المنصور وابنه المهدي من بعده ووقفت الزيادة واستقرت على ذلك لعهدنا وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به اكثر من أن يحاط به وكفى بذلك أن جعله مهبطا للوحي والملائكة ومكانا للعبادة وفرض شرائع الحج ومناسكه وأوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم والحق ما لم يوجبه لغيره فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم وأوجب على داخله أن يتجرد من المحيط إلا إزارا يستره وحمى العائذ به والراتع في مسارحه من مواقع الآفات فلا يرام فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا وحش ولا يحتطب له شجر وحد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع ومن طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة ومن طريق جدة سبعة أميال إلى منقطع العشائر هذا شان مكة وخبرها وتسمى أم القرى وتسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب ويقال لها أيضا بكة قال الأصمعي لأن الناس يبك بعضهم بعضا إليها أي يدفع وقال مجاهد باء بكة أبدلوها ميما كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين وقال النخعي بالباء وبالميم البلد وقال الزهري بالباء للمسجد كله وبالميم للحرم وقد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظمه والملوك تبعث إليه بالأموال والذخائر مثل كسرى وغيره وقصة الأسياف وغزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمائتي قنطار وزنا وقال له علي بن أبي طالب رضى الله عنه يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك فلم يفعل ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه هكذا قال الأزرقي وفي البخاري يسنده إلى أبي وائل قال جلست إلى شيبة بن عثمان وقال جلس إلى عمر بن الخطاب فقال هممت أن لا ادع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت ما أنت بفاعل قال ولم قلت فلم يفعله صاحباك فقال هما اللذان يقتدى بهما وخرجه أبو داود وابن ماجة وأقام ذلك المال إلى إن كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين ابن علي بن علي زين العابدين سنة وتسع وتسعين ومائة حين غلب مكة عمد إلى
354
الكعبة فاخذ ما في خزائنها وقال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعا فيها لا ينتفع به نحن أحق به نستعين به على حربنا وأخرجه وتصرف فيه وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ واما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصائبة موضع الزهرة وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه يصبونه على الصخرة التي هناك ثم دثر ذلك الهيكل واتخذها بنو إسرائيل حين ملوكها قبلة لصلاتهم وذلك أن موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحاق من قبله وأقاموا بأرض التيه أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها وان يكون فيها التابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها وأن يصنع مذبحا للقربان وصف ذلك كله في التوراة اكمل وصف فصنع القبة ووضع فيها تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضا عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت ووضع المذبح عندها وعهد الله إلى موسى بأن يكون هارون صاحب القربان ونصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها ويتقربون في المذبح أمامها ويتعرضون للوحي عندها ولما ملكوا الشام وبقيت تلك القبة قبلتهم ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك العهد وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام واتخذ عمده من الصفر وجعل به صرح الزجاج وغشى أبوابه وحيطانه بالذهب وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذهب وجعل في ظهره قبرا ليضع فيه تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح وجاء به من صهيون بلد أبيه داود تحمله الأسباط والكهنوتية حتى وضعه في القبر ووضعت القبة والأوعية والمذبح كل واحد حيث أعد له من المسجد وأقام كذلك ما شاء الله ثم خربه بخت نصر الله بعد ثمانمائة سنة من بنائه واحرق التوراة والعصا وصاغ الهياكل ونثر الأحجار ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزير نبي بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الذي كانت الولادة لبني إسرائيل عليه من سبي بخت نصر وحد لهم في بنيانه حدودا دون بناء سليمان بن داود عليهما السلام فلم يتجاوزوها ثم تداونتهم
355
ملوك يونان والفرس والروم واستفحل الملل لبني إسرائيل في هذه المدة ثم لبني حشماني من كهنتهم ثم لصهرهم هيرودس ولبينة من بعده وبني هيرودس سليمان عليه السلام وتأنق فيها حتى أكمله في ست سنين فلما جاء طيطش من ملوك الروم وغلبهم وملك أمرهم خرب بيت المقدس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانه ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصارى تارة وتركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت امه هيلانه وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنه رمى بخشبته على الأرض وألقى عليها القمامات والقاذورات فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم وهربت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة حتى غطاها وخفي مكانها جزاء بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام وبقى الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصخرة فأرى مكانها وقد علاها الزبل والتراب فكشف عنها وبنى عليها مسجدا عل طريق البداوة وعظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفي مسجد دمشق وكانت العرب تسميه بلاط الوليد وألزم ملك الروم أن يبعث السلعة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمقوها بالفسيفساء فاطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيدين خلفاء القاهر من الشيعة واختل أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامة ثغور السام وبنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها حتى إذا استقل صلاح الدين بن أيوب الكردي بملك مصر والشام ومحا أثر العبيدين وبدعهم زحف إلى الشام وجاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه
356
من ثغور الشام وذلك لنحو ثمانين وخمسمائة من الهجرة وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت وضع فقال بين مكة وبين بناء بيت المقدس قيل فكم بينهما قال أربعون سنة فإن المدة بين بناء مكة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان لأن سليمان بانيه وهو ينيف على الألف بكثير واعلم أن المراد بالوضع في الحديث ليس البناء وإنما المراد أول بيت عين للعبادة وقد نقل أن الصائبة بنوا على الصخرة هيكل الزهرة فلعل ذلك أنها كانت مكانا للعبادة كما كانت الجاهلية تضع الأصنام والتماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها والصابئة الذين بنوا هيكل الزهر كانوا على عهد إبراهيم المقدس سليمان عليه السلام فتفهمه ففيه حل هذا الإشكال وأما المدينة وهي المسماة بيثرب فهي من بناء يثرب بن مهلائيل من العمالقة وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها وعلى حصونها ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك وشرفه في سابق أزله وأواه أبناء قيلة ونصروه فلذلك سموا الأنصار وتمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات وغلب على قومه وفتح مكة وملكها وظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلدة فأهمهم ذلك فخاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واخبرهم أنه غير متحول حتى إذا قبض صلى الله عليه وسلم كان ملحده الشريف وجاء في فضلها من الأحاديث الصحيحة ما لا خفاء به ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة وبه قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رفيع بن مخدج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المدينة خير من مكة نقل ذلك أبو الوهاب في المعونة إلى أحاديث أخرى
357
تدل بظاهرها على ذلك وخالف أبو حنيفة والشافعي وأصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة لما سبق من عناية الله لها وتفهم سر الله في الكون وتدريجه على ترتبي محكم في أمور الدين والدنيا وأما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض إلا ما يقال في شان مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم منها بيوت النار للفرس وهياكل يونان وبيوت العرب بالحجاز التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها في غزواته وقد ذكر المسعودي منها بيوتا لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق ديني ولا يلتفت إليها ولا إلى الخبر عنها ويكفي في ذلك ما وقع في التواريخ فمن أراد معرفة الأخبار فعليه بها والله يهدي من يشاء سبحانه