359
والسبب في ذلك شان البداوة والبعد عن الصنائع كما قدمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها وله والله أعلم وجه آخر وهو أمس به وذلك قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه في المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنه بالتفاوت في هذا تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطبيعي والعرب بمعزل عن هذا وإنما يراعون مراعي إبلهم خاصةلا يبالون بالماء طاب أو خبث ولا قل أو كثر ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض نقلهم الحبوب من البلد البعيد واما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها والظعن كفيل لهم بطيبها لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثره الفضلات وانضر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلا مراعي إبلهم وما يقرب من القفر ومسالك الظعن فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن ولم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم كما قدمنا أنه يحتاج إليه في العمران فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي كانت سياجا لها أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن والله يحكم لا معقب لحكمه