الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل الحادي عشر: في ان تفاضل الامصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها ونفاق الاسواق انما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة

والسبب في ذلك انه قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل لتحصيل حاجاته في معاشه وانهم متعاونون جميعا في عمرانهم على ذلك والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافا فالقوت من الحنطة مثلا لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه وإذا انثدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم فأهل مدينة أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفى فيها بالأقل من تلك الأعمال وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات فتصرف في حالات الترف وعوائده وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمة فيكون لهم بذلك حظ من الغنى وقد تبين لك في الفصل الخامس في باب الكسب والرزق أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجاته من التأنق في المساكن والملابس واستجادة الآنية والماعون واتخاذ الخدم والمراكب وهذه كلها أعمال تستدعي بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها فتنفق أسواق الأعمال والصنائع ويكثر دخل المصر
361
وخرجه ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية ثم زاد الترف تابعا للكسب وزادت عوائده وحاجاته واستنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها وتضاعف الكسب فى المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول وكذا فى الزيادة الثانية والثالثة لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بزيادة كسب ورفه بعوائد من الترف لا توجد فى الآخر فما كان عمرانه من الامصار أكثر وأوفر كان حال أهله فى الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف القاضي مع القاضي والتاجر مع التاجر والصانع مع الصانع والسوقي مع السوقي والأمير مع الأمير والشرطي مع الشرطي واعتبر ذلك فى المغرب مثلا بحال فاس مغ غيرها من أمصاره مثل بجاية وتلمسان وسبتة تجد بينهما بونا كثيرا على الجملة ثم على الخصوصيات فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان وهكذا كل صنف مع صنف أهله وكذا أيضا حال تلمسان مع وهران أو الجزائر وحال وهران والجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلي المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط ويقصرون عنها وما ذلك إلا لتفاوت الأعمال فيها فكأنها كلها أسواق للأعمال والخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه وكذا القاضي بتلمسان وحيث الدخل والخرج أكثر تكون الأحوال أعظم وهما بفاس أكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف فالأحوال أضخم ثم كذا حال وهران وقسنطينية والجزائر وبسكره حتى تنتهي كما قلناه إلى الامصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها ولا تعد في الأمصار إذا هي من قبيل القرى والمدر فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة لما أن أعمالهم لا تفي بضروراتهم ولا يفضل ما يتأثلونه كسبا فلا تنمو مكاسبهم وهم لذلك مساكين محاويج إلا في الأقل النادر وأعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء والسؤال فإن السائل بفاس أحسن حالا من السائل بتلمسان أو وهران ولقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم ورأيتهم يسألون كثيرا من أحوال الترف واقتراح المآكل مثل سؤال اللحم والسمن
362
وعلاج الطبخ والملابس والماعون كالغربال والآنية ولو سأل سائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكروعنف وزجر ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من الترف والغنى فى عوائدهم ما يقضي منه العجب حتى أن كثيرا من الفقراء بالمغرب ينزعون من الثقلة إلى مصر لذلك ولما يبلغهم من أن شأن الرفه بمصر أعظم من غيرها ويعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار فى أهل تلك الآفاق على غيرهم أو أموال مختزنة لديهم وأنهم أكثر صدقة وإيثارا من جميع أهل الأمصار وليس كذلك وإنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر والقاهرة أكثر من عمران هذه الامصار التي لديك فعظمت لذلك أحوالهم وأما حال الدخل والخرج فمتكافىء فى جميع الأمصار ومتى عظم الدخل عظم الخرج وبالعكس ومتى عظم الدخل والخرج اتسعت أحوال الساكن ووسع المصر كل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره واعتبره بكثرة العمران وما يكون عنه من كثرة المكاسبة التي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه ومثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة وكيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها فإن بيوت أهل النعم والثروة والموائد الخصبة منها تكثر بساحتها واقنيتها بنثر الحبوب وسواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش ويلحق فوقها عصائب الطيور حتى تروح بطانا وتمتلي شبعا وريا وبيوت أهل الخصاصة والفقراء الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب ولا يحلق بجوها طائر ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة ولا هرة كما قال الشاعر تسقط الطير حيث تلتقط الحب م وتغشي منازل الكرماء فتأمل سر الله تعالى في ذلك وأعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات وفتات الموائد بفضلات الرزق والترف وسهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها فى الأكثر لوجود أمثالها لديهم وأعلم أن أتساع الأحوال وكثرة النعم في العمران تابع لكثرته والله سبحانه وتعالى أعلم وهو غني عن العالمين