الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل الثاني عشر: في اسعار المدن

إعلم أن الاسواق كلها تشتمل على حاجات الناس فمنها الضروري وهي الأقوات
363
من الحنطة وما في معناها كالباقلاء والبصل والثوم وأشباهه ومنها الحاجي والكمالي مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني فإذا استجر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه وغلت إسعار الكمالي من الأدم والفواكه وما يتبعها وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس والسبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل أحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بد من ذلك وكل متخذ لقوته فتفضل عنه وعن أهل بيته فضله كبيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عمن أهل المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية ولولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران وأما سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها فإنها لا تعم بها البلوى ولا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين ولا الكثير منهم ثم إن المصر إذا كان مستبحرا موفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق وإستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصورا بالغا ويكثر المستامون لها وهى قليلة فى نفسها فتزدحم أهل الأغراض ويبذل أهل الرفه والترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه وأما الصنائع والأعمال أيضا في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمور ثلاثة الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه والثاني اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها والثالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم وإلى استعمال الصناع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها فيعتز العمال والصناع وأهل الحرف وتغلو أعمالهم وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك وأما الامصار الصغيرة والقليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها وما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت
364
فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه فيعز وجوده لديهم ويغلو ثمنه على مستامه وأما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضا حاجة الساكن وضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص في سعره وقد يدخل أيضا في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض عليها من المكوس والمغارم للسلطان في الأسواق وباب الحفر والحياة في منافع وصولها عن البيوعات لما يمسهم وبذلك كانت الأسعار في الأمصار اعلى من الأسعار في البادية إذ المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة وكثرتها في الأمصار لاسيما في آخر الدولة وقد تدخل أيضا في قيمة الأقوات قيمة علاجها فى التاريخ ويحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد وذلك أنهم بما ألجاهم النصارى إلى سيف البحر وبلاده المتوعرة الخبيثة الزارعة النكدة النبات وملكوا عليهم الأرض الزاكية والبلد الطيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع والفدن لإصلاح نباتها وفلحها وكان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم ومواد من الزبل وغيره لها مؤنة وصارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم واختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعمور بالاسلام مع سواحلها لأجل ذلك ويحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم انها لقلة الأقوات والحبوب في أرضهم وليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلما فيما علمناه وأقومهم عليه وقل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح إلا قليل من أهل الصناعات والمهن أو الطراء علي الوطن من الغزاة المجاهدين ولهذا يختصهم السلطان في عطائهم بالعولة وهي أقواتهم وعلوفاتهم من الزرع وإنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه ولما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم أرتفعت عنهم المؤمن جملة في الفلح من كثرته وعمومته فصار ذلك سببا لرخص الأقوات ببلدهم والله مقدر الليل والنهار وهو الواحد القهار لا رب سواه