والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران يكثر ترفه كما قدمناه وتكثر
365
حاجات ساكنه من أجل الترف وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات وتصير فيه الأعمال كلها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية بازدحام الأغراض عليها من أجل الترف وبالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأوقات والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه ويعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤونتهم والبدوي لم يكن دخله كثيرا ساكنا بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب فلم يتأثل كسبا ولا مالا فيتعذر عليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه وعزه حاجاته وهو في بدوه يسد خلته بأقل الأعمال لأنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤونته فلا يضطر إلى المال وكل من يتشوف إلى المصر وسكناه من البادية فسريعا ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه إلا من يقدم منهم تأثل المال ويحصل له منه فوق الحاجة ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف فحينئذ ينتقل إلى المصر وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم وهكذا شأن بداءة عمران الأمصار والله بكل شيء محيط